أرقام غير مسبوقة وخسائر مخفية.. تداعيات الحرب في غزة على الجيش والمجتمع الإسرائيلي

في ظل استمرار الحرب الدائرة في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023، تواصل الأرقام المتداولة حول الخسائر البشرية إثارة جدل واسع، ليس فقط بسبب حجمها المهول، بل أيضاً بسبب التباين الكبير بين ما تعلنه السلطات الإسرائيلية بشكل رسمي وبين ما تتناقله وسائل الإعلام العبرية والعالمية والإقليمية، ففي الأيام الأخيرة تداولت تقارير إعلامية عبرية وفارسية أن عدد الجرحى في صفوف الجيش الإسرائيلي قد بلغ نحو عشرين ألف جندي، وهو رقم وصفته تلك الوسائل بأنه “لا يُصدق” و”مذهل”، في حين لم تُعلن وزارة الحرب الإسرائيلية سوى عن أعداد محدودة من القتلى والجرحى بشكل متقطع، هذا التفاوت أوجد تساؤلات جدية حول مدى دقة الأرقام الرسمية وحقيقة حجم الخسائر التي تكبدها الجيش الإسرائيلي في حربه المستمرة على غزة.

حسب وكالة تسنيم الإيرانية في تقرير نشر في سبتمبر 2025، فإن وزارة الحرب الإسرائيلية اعترفت بوجود ما يقرب من عشرين ألف جندي جُرحوا منذ بدء العمليات العسكرية، وأن أكثر من سبعين في المئة منهم يعانون من إعاقات دائمة، وهو ما يعني أن عشرات الآلاف من الأسر الإسرائيلية باتت تواجه واقعاً صعباً نتيجة فقدان أبنائها القدرة على ممارسة حياتهم الطبيعية.

ونقلت الوكالة عن وسائل إعلام عبرية أن معظم هؤلاء الجرحى من الذكور بنسبة تصل إلى 92 في المئة، وأن قرابة ثلثيهم من قوات الاحتياط، أي من فئة الأشخاص الذين تم استدعاؤهم من حياتهم المدنية إلى ساحة المعركة، هذه الإحصاءات إذا صحت، تكشف عن أزمة اجتماعية واقتصادية قادمة في الداخل الإسرائيلي، إذ إن نسبة عالية من القوى العاملة الفعالة في المجتمع باتت معطلة أو في حاجة إلى رعاية صحية طويلة الأمد.

التقارير نفسها ذكرت تفاصيل صادمة، مثل وجود ستة وخمسين جندياً في حالة موت دماغي، وأربعة وعشرين جندياً آخرين في حالة عجز كامل مئة في المئة، إضافة إلى المئات ممن فقدوا أطرافهم أو أصيبوا بإعاقات جسدية بالغة.

إلى جانب ذلك، أشارت بيانات صحفية عبرية إلى أن عدداً متزايداً من الجنود يعانون من صدمات نفسية عميقة، بعضها نتيجة التعرض لانفجارات وأحداث دامية، وبعضها نتيجة طول فترة القتال والاستنزاف المستمر، وعلى الرغم من أن الإعلام الرسمي في “إسرائيل” لم ينشر هذه الأرقام بشكل تفصيلي، فإن انتشارها في وسائل إعلام ناطقة بالعبرية يعكس وجود إدراك داخلي بأن التضحيات البشرية فاقت التوقعات، وأنها قد تتحول إلى عبء ثقيل على المؤسسة العسكرية والسياسية على السواء.

في المقابل، تكشف الإحصاءات المتعلقة بالجانب الفلسطيني عن حجم كارثة إنسانية أوسع بكثير، فحسب وزارة الصحة في غزة وتقارير الأمم المتحدة، بلغ عدد القتلى الفلسطينيين حتى منتصف سبتمبر 2025 أكثر من أربعة وستين ألفاً وتسعمئة شخص، في حين تجاوز عدد الجرحى مئة وخمسة وستين ألفاً.

كما قدّرت تقارير حقوقية دولية، مثل تقرير “ذا نيو هيومنتاريان” الصادر في الـ 15 من سبتمبر 2025، أن ما يقرب من ثلاثة آلاف فلسطيني ممن كانوا يبحثون عن مساعدات غذائية أو إنسانية قتلوا خلال أقل من عامين، وأن عشرين ألفاً آخرين أصيبوا أثناء محاولاتهم الحصول على الدعم الإغاثي، هذه الأرقام تكشف أن الحرب ليست مجرد مواجهة عسكرية تقليدية، بل هي مأساة إنسانية واسعة تطال المدنيين بشكل مباشر.

التفاوت بين الأرقام الرسمية الإسرائيلية وما يُنشر عبر وسائل الإعلام العبرية أو الإقليمية لا يعود فقط إلى طبيعة الحرب المعقدة وصعوبة التوثيق الميداني، بل أيضاً إلى العوامل السياسية والإعلامية، فمن جهة، لدى الحكومة الإسرائيلية مصلحة في التقليل من حجم خسائرها، حتى تحافظ على صورة متماسكة أمام الرأي العام الداخلي والدولي، ولتجنب إثارة موجات غضب داخلية تطالب بوقف العمليات أو مساءلة القيادة العسكرية والسياسية.

ومن جهة أخرى، تستخدم بعض وسائل الإعلام المعارضة أو المرتبطة بأطراف إقليمية أرقاماً مرتفعة لإبراز ضعف “إسرائيل” وللتأثير على الرأي العام الدولي، وهو ما يجعل التحقق المستقل من هذه البيانات مهمة معقدة، لكن على الرغم من ذلك، فإن تكرار ظهور هذه الأرقام في أكثر من مصدر عبري يشير إلى أن هناك قدراً من الحقيقة لا يمكن إنكاره حول ارتفاع حجم الإصابات والضحايا بين صفوف الجنود الإسرائيليين.

البعد النفسي والاجتماعي للخسائر يبدو أكثر خطورة مما يظهر في الأرقام الجافة، فوجود عشرات الآلاف من الجنود المصابين بإعاقات دائمة يعني أن المجتمع الإسرائيلي سيدخل مرحلة جديدة من التحديات الصحية والاجتماعية، من حيث توفير الرعاية الطبية، والأطراف الصناعية، وإعادة التأهيل النفسي.

كما أن العدد الكبير من المصابين بين قوات الاحتياط يضاعف التبعات الاقتصادية، إذ إن هؤلاء كانوا يشكلون جزءاً من سوق العمل المدني، وخروجهم المفاجئ من الإنتاج سيؤثر على الاقتصاد المحلي بشكل ملحوظ، إضافة إلى ذلك، فإن تأثير الحرب على عائلات الجنود لا يقل خطورة، حيث يواجه الآباء والأمهات والزوجات والأطفال أعباء نفسية واجتماعية طويلة الأمد.

أما على المستوى السياسي، فإن ارتفاع أعداد المصابين والقتلى يضغط بقوة على الحكومة الإسرائيلية ويضعها أمام تساؤلات داخلية حول جدوى استمرار العمليات العسكرية، بعض المحللين في الإعلام العبري حذّروا من أن التضحيات البشرية إذا استمرت بهذا الشكل، فقد تتسبب في انقسام سياسي أعمق داخل “إسرائيل”، وربما تؤدي إلى مطالبات باستقالات أو تغييرات في القيادة العسكرية، وفي الوقت ذاته، فإن هذه الأرقام تُستخدم كأداة ضغط من قبل القوى الإقليمية والدولية، إذ تسلط الضوء على التكلفة الباهظة للحرب وتحاول دفع “إسرائيل” إلى مراجعة سياساتها أو الدخول في مفاوضات لوقف إطلاق النار.

لكن يبقى السؤال المركزي: إلى أي مدى يمكن الوثوق بهذه الأرقام؟ الإجابة معقدة، إذ من الواضح أن ثمة مبالغة محتملة في بعض المصادر لأهداف سياسية وإعلامية، لكن في المقابل فإن إصرار “إسرائيل” على التكتم وعدم نشر بيانات شفافة يثير الشكوك حول وجود أعداد أكبر بكثير مما يُعلن.

وبناءً على خبرة الحروب السابقة، غالباً ما تتضح الحقائق الكاملة بعد سنوات، عندما تُفتح الأرشيفات أو عندما يتحدث الجنود أنفسهم عن تجاربهم، وحتى ذلك الحين، فإن الأرقام المتداولة تظل مؤشراً قوياً على أن الحرب في غزة حملت تكاليف بشرية غير مسبوقة لـ”إسرائيل”.

في الخلاصة، إن وصف وسائل إعلام عبرية وأخرى إقليمية لأعداد الجرحى الإسرائيليين بأنها “لا تُصدق” لا يمكن اعتباره ادعاءً فارغاً تماماً، ولا حقيقة مطلقة أيضاً، الواقع أن الحرب الطويلة والعنيفة، الممتدة على مدى عامين تقريباً، تجعل من الطبيعي أن تتضخم الأرقام، وأن يتجاوز حجم الخسائر ما هو معلن رسمياً، إنكار هذا الواقع أو تضخيمه كلاهما يضرّ بالتحليل الموضوعي، لكن الثابت أن “إسرائيل” تواجه تحدياً غير مسبوق في تاريخها العسكري والاجتماعي، وأن الآثار المترتبة على هذه الخسائر ستظل ماثلة لعقود مقبلة، سواء على مستوى الجنود والأسر أو على مستوى المجتمع والسياسة والدولة بأسرها.

قد يعجبك ايضا