صحيفة جزائرية : ردا على “الراية السوداء”.. اليمن يفتتح مرحلة الركلات الأخيرة

من بين دخان المرافئ وهدير الطائرات، يخرج اليمن مقاتلًا لا شاهداً، متقدماً إلى ميدان “الركلات الأخيرة” كما أسماها مهدي المشاط، في إشارة رمزية إلى عمق التحول العسكري والسياسي في موقع اليمن من معادلة الردع والمواجهة الإقليمية.

ففي أعقاب هجمة واسعة، أطلق فيها سلاح الجو الصهيوني خمسين قذيفة وصاروخًا على أهداف يمنية، ضمن ما سماه وزير الدفاع الصهيوني “عملية الراية السوداء”، ردت حركة “أنصار الله” اليمنية بسلسلة من العمليات الهجومية المزدوجة، برًّا وبحرًا، طالت أهدافًا حساسة داخل الأراضي المحتلة، وأخرى في قلب البحر الأحمر.

بحسب بيان رسمي للقوات المسلحة اليمنية، نفذت “أنصار الله” صباح الاثنين عملية عسكرية مشتركة غير مسبوقة استُخدم فيها أحد عشر صاروخًا وطائرة مسيّرة، استهدفت مطار بن غوريون، وميناء أسدود، وميناء إيلات، ومحطة كهرباء عسقلان. وأكد البيان أن جميع الصواريخ والمسيّرات أصابت أهدافها بدقة، في ظل “فشل تام للمنظومات الاعتراضية” الصهيونية، ما يعكس تطورًا تقنيًا في قدرة اليمنيين على اختراق الدفاعات الجوية.

وتزامن الهجوم مع تصعيد بحري تمثّل في استهداف سفينة الشحن “ماجيك سيز” في البحر الأحمر، والتي تعود ملكيتها لشركة متهمة بانتهاك قرار حظر دخول الموانئ الفلسطينية المحتلة، وذلك بزورقين مفخخين مسيرين وخمسة صواريخ مجنحة، وثلاث طائرات مسيّرة، ما أسفر في نهاية المطاف عن غرق السفينة بالكامل، بحسب ما أعلنه المتحدث العسكري باسم “أنصار الله”، العميد يحيى سريع، الذي أضاف أن “لحظات الغرق موثّقة بالصوت والصورة”، في مشهد يعكس بوضوح ملامح تحول البحر الأحمر إلى مسرح مفتوح للردع اليمني.

الرد اليمني.. ما بين الرسالة والدلالة

في تصريحاته التي حملت لهجة غير اعتيادية، وجه المشير الركن مهدي المشاط، رئيس المجلس السياسي الأعلى في صنعاء، تحية “لأبطال اليمن وهم يردّون الصاع بالصاع للعدو الصهيوني”، مؤكدًا استمرار دعم صنعاء لغزة “حتى تحقيق النصر”. وذهب المشاط إلى أبعد من ذلك، حين خاطب مقاتلي المقاومة في غزة قائلًا: “فاوضوا وارفعوا رؤوسكم، فنحن معكم، وكل مقدرات شعبنا سند لكم”، مضيفًا أن “تهديدات العدو لن تهز شعرة في رأس أصغر طفل في اليمن”.

وأشار المشاط إلى أن “مفاجآت اليمن” في طريقها، في تعبير يوحي بأن التصعيد الحالي ليس سوى بداية سلسلة من العمليات الميدانية التي ستتصاعد تباعًا، لتؤكد، حسب تعبيره، أن “اليمن ميدان الركلات الأخيرة، وليس ميدانًا للاستعراض”. هذه اللهجة، ذات الطابع الردعي، تعكس ما يبدو أنه تحوّل في العقيدة العسكرية والسياسية لحركة “أنصار الله”، التي لم تعد تكتفي بردود رمزية، بل باتت تنقل المعركة إلى عمق الميادين الصهيونية.

البحر الأحمر.. من معبر تجاري إلى ساحة نيران

تحوّل البحر الأحمر، الذي كان حتى وقت قريب مجرد ممر مائي استراتيجي للتجارة والطاقة، إلى ساحة مفتوحة للضربات المتبادلة، بعد سلسلة من العمليات البحرية النوعية التي شنتها القوات اليمنية ضد سفن مرتبطة بالاحتلال الصهيوني أو بالتحالفات الغربية الداعمة لها. آخر تلك العمليات، استهداف السفينة “ماجيك سيز”، يُعدّ تتويجًا لتصعيد تدريجي في العمل البحري، ويكشف مدى التطور في القدرة العملياتية لحركة “أنصار الله”، التي باتت تجمع بين ضربات بالغة الدقة في العمق الجغرافي للعدو، وأخرى ملاحية تهدد شريان التجارة الدولية.

وقال يحيى سريع إن السفينة “ماجيك سيز” كانت قد خرقت مرارًا قرار منع الإبحار إلى الموانئ الفلسطينية المحتلة، رغم التحذيرات المتكررة، مشيرًا إلى أن القوات اليمنية تحتفظ “بتوثيق مرئي لعملية الغرق”، في خطوة يُراد بها أيضًا إيصال رسالة إعلامية وسياسية للمجتمع الدولي، مفادها أن الردع اليمني لا يستثني أحدًا ممن يساهمون، بشكل مباشر أو غير مباشر، في إدامة الحصار والعدوان على غزة.

“الراية السوداء”.. تصعيد صهيوني وخيارات مفتوحة

من جهتها، تبنّت “إسرائيل” عدوانا ضد مواقع يمنية، مستخدمة عشرات الصواريخ والقذائف، مستهدفة بالخصوص موانئ الحديدة، ورأس عيسى، والصليف، بالإضافة إلى محطة الكهرباء المركزية في رأس الكثيب. ورغم وصف العملية بأنها “غير اعتيادية”، إلا أن الرد اليمني السريع والمتعدد الأبعاد قلب المعادلة، ليحوّل “الراية السوداء” من رمز للهيمنة الصهيونية إلى إيذان بمرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة.

وما يلفت في هذه الجولة من التصعيد، أن القوات الجوية اليمنية كانت قد أطلقت، بالتوازي مع الضربات البحرية، صاروخين استهدفا الكيان، تسببا في تفعيل صفارات الإنذار في عدة مناطق تشمل الضفة الغربية، والقدس، والبحر الميت، وغوش عتصيون. ورغم إعلان قيادة الجبهة الداخلية الصهيونية أن “الحادثة انتهت”، فإن الغموض لا يزال يلف نتائج الاعتراض، في ظل تأكيدات يمنية ببلوغ الأهداف بدقة.

البعد الرمزي والردعي

ليست هذه التطورات العسكرية سوى تجلٍّ واضح لتبدّل عميق في موقع اليمن من خارطة الصراع، إذ باتت صنعاء في قلب ما يمكن وصفه بمحور الردع الجنوبي، الذي يسعى إلى الضغط على الكيان من جبهات غير تقليدية، ما يربك حساباتها الأمنية ويحدّ من قدرتها على تركيز جهودها في غزة والضفة ولبنان.

وفي ظل هذا التصعيد، يبقى اليمن، كما وصفه المشاط، “ميدانًا للحسم”، لا حاشية جانبية في حرب الإرادات الجارية. ومن الواضح أن “أنصار الله” باتت تنظر إلى دورها في المعركة الفلسطينية لا كمجرد تضامن سياسي أو معنوي، بل كجزء لا يتجزأ من بنية الاشتباك الإقليمي، وهو ما يفسر التهديدات المتكررة بـ”مفاجآت قادمة” وبمزيد من التصعيد في البحر الأحمر وضد أهداف صهيونية مباشرة.

هل نضجت معادلة الردع اليمنية؟

تكشف مجريات التصعيد الأخير عن بروز يمن جديد، يتجاوز خطوط الدفاع إلى تخوم المبادرة والهجوم. ومن الملاحظ أن الضربات اليمنية لم تكن ارتجالية أو عشوائية، بل جاءت وفق نسق منسّق، جمع بين الرد البحري والتكتيك الصاروخي والطيران المسيّر، ما يوحي بأن اليمنيين يسعون لترسيخ “معادلة ردع جنوبية” رديفة لتلك التي تشكّلت في الشمال عبر جبهات لبنان وسوريا.

في الوقت ذاته، يشير هذا التصعيد إلى أن المعركة الفلسطينية تجاوزت حدود غزة والضفة، لتغدو حربًا إقليمية بأدوات متفرعة، يشارك فيها فاعلون متعددون، كلّ من موقعه. وإذا كانت “إسرائيل” قد رفعت “الراية السوداء”، فإن اليمن – على ما يبدو – قد بدأ برفع رايات أخرى، مختلفة في اللون، لكنها موحّدة في الهدف: كسر الحصار، ووقف العدوان، وإعادة صياغة ميزان القوة في المنطقة.

المصدر : الأيام الجزائرية : موسى بن عبد الله ..نُشر في الــ8 من يوليو 2025م
قد يعجبك ايضا