أهل الميدان: المذبحة وقعت ولم يعد لدينا ما نخسره | الهدنة أظهرت تحكّمنا بالنار والتبادل كشف ثبات قدراتنا الأمنيّة

في كثير من التجارب الشبيهة، يدرك القائد السياسي أو الميداني أن لمقاومته أيّ عدوان جدوى وغاية، ولكن لها ثمنها أيضاً. في حالة غزة، لا يقلّل أهل الميدان من صعوبة المفاضلة عند اتخاذ قرارات بحجم عملية «طوفان الأقصى». لكن مراجعة 38 عاماً من الاحتلال والتهجير والقتل والاعتقال والعنف والتسلّط، و18 عاماً من الحصار والحروب والقتل والتدمير، تكفي لمعرفة أن المقاومة ليست خياراً لفظياً فقط، وهي ليست فاعلة سلمياً في وجه عدوّ كإسرائيل. ولم يكن بالإمكان الاستمرار بالأمور على حالها من دون ضربة كبرى، وهو ما أوجب التفكير بعمل مختلف تماماً.هذه الخلفيّة سكنت عقل من اتّخذ قرار العملية الكبيرة والأكثر حفراً في الوعي الجمعي لمجتمع العدوّ. فمن اتخذ القرار كان يدرك أن ردّ الفعل عليها لن يكون عادياً. وكل الكلام عن نجاح أكثر من المقدّر وردّ فعل أكثر من المتوقع، لن يكون مفيداً في اللحظة التي بدأ فيها العدوّ يتصرّف بجنون غير مسبوق.

أهل الميدان يعرفون أن جنون العدوّ ليس مردّه فقط عجز قواته عن القيام بعمليات عسكرية وأمنية ناجحة ضد المقاومة وقادتها وعناصرها، بل أيضاً حالة الجنون التي سيطرت على كل الكيان، ومؤسساته كافة، وخصوصاً الجيش. وبالتالي، فإن التعامل معه يتطلّب قدراً أعلى من الصلابة والصبر. ومع الوقت، بدا واضحاً أن العدوّ يريد الانتقام من كل ساكن في القطاع، وهو اعتقد، وراهن، على أن ضرباته العشوائية والقاسية ستدفع الناس الى إشهار الراية البيضاء ورفع الصوت ضد المقاومة.

بعد مرور وقت على الحرب الدموية، أقدم العدوّ على ما افترضه علاجاً. يقول أهل الميدان: المذبحة وقعت، ولم يعد مجدياً تعداد عدد الشهداء والجرحى والنازحين والمرضى والمتعبين، ولا النظر الى مشاهد الدمار التي تلفّ القطاع من أقصى شماله الى أقصى جنوبه. من يراقبون ما يجري عبر الشاشات لن يتمكّنوا من مشاهدة الصورة الكاملة، والتي هي أكبر بكثير مما تعرضه الشاشات. وهذا، بالنسبة إلينا، هو الحد الأقصى من الجريمة، والحدّ الفاصل في المواجهة، حيث لا يمكن التفكير لحظة واحدة بالتنازل.
يقول أهل الميدان: لم يكن بين من يديرون الحرب لدى العدوّ عاقل واحد. ولم يكن ممكناً السير بهذه الحرب أساساً، لو أن هناك عقلاء أو حرفيين، وإلا كانوا قاموا بأمور كثيرة غير ما يقومون به. لكنهم يقولون لنا إن المعركة فاصلة، وإن هناك رابحاً وخاسراً، وإنه لا تسوية بعد اليوم. وفي هذه الحالة، ليس على أحد في العالم أن ينتظر منا جواباً مختلفاً. نحن، أيضاً، نقول للعدوّ وللعالم إنها معركة فاصلة، فيها رابح وخاسر. وبما أن العالم ترك العدو يصعد الى أعلى الشجرة، عليه أن يعلم أن المقاومة جارته في الارتفاع، ولن تتنازل، ولا تطلب من أحد المساعدة على النزول. ومن يُرِيد إنقاذ إسرائيل من الخسارة الكبيرة، عليه أن يبحث لها عن سلّم لإنزالها.

ليست وظيفة المقاومة إيجاد المخرج للعدو… ولم يعد بينها وبينه سوى الميدان لحسم النتيجة

ويؤكد أهل الميدان: لا ينبغي أن يطلب أحد أو يفكّر بأن علينا، نحن أبناء غزة، أن نخترع المخرج لوقف الحرب. لقد فتحنا الباب يوم قبلنا بالهدن الإنسانية، وقلنا إننا لا نمانع في تحويل الهدنة المؤقتة الى وقف شامل لإطلاق النار، وأن ندخل في مفاوضات لإجراء تبادل شامل للأسرى. لكنّ العدوّ لم يفكر بهذه الطريقة، ولم يفكر العالم في أدوات للضغط عليه. وبالتالي، من يعتقد أن على المقاومة إيجاد المخرج فهو واهم، لأن هذه ليست سوى دعوة لنا لنعلن استسلامنا، لمجرد تخفيف عمليات القتل. والأهم، هو أن على العالم أن يعرف أن الناس المتعبين والمنهكين والعائلات التي فقدت كل شيء لم يخرجوا لحظة ليهاجموا المقاومة. الرجال والنساء الذين تألّموا بقوة لفقدان الأحبة وجنى العمر، لم يبكوا أمام الشاشات، لأنهم يعرفون أنّ أي إشارة ضعف سيفسّرها العدوّ بأنها لحظة انتصار له.
ويلفت أهل الميدان الى أيام الهدن، عندما كان الغزّيون يترقّبون عمليات التبادل للاحتفال بالمقاومين الذين كانوا يخرجون من حيث لا يعرف أحد، ترافقهم هتافات الناس، قبل أن يختفوا من جديد. وقد تطلّبت عمليات التبادل إجراءات أمنية معقدة، بما يسمح بالوصول الى نقطة التسليم من دون أن يحدد العدوّ نقطة الانطلاق. ورغم أن طائرات التجسّس لم تغادر سماء القطاع، خلافاً للاتفاق، فإن المقاومة كانت معنيّة بأمرين:
الأول، هو أنه مع دخول الهدنة حيّز التنفيذ، توقفت كل مجموعات المقاومة، ومن كل الفصائل، في اللحظة نفسها عن إطلاق أي رصاصة. وقد تمّت العملية بنجاح أكبر مما فعلته قوات العدوّ التي التزمت بالقرار بصورة غير كاملة، فبقيت بعض قواته تقوم بعمليات تمشيط أثناء إعادة انتشارها. فهل فهم العدوّ معنى القدرة على التحكم والسيطرة في مثل هذه اللحظة؟
الثاني، أن التنسيق بين قوى المقاومة على الأرض وثيق الى حدود التفاهم التام على كيفية جمع الأسرى، ونقلهم الى نقطة متفق عليها، ووضعهم جميعاً في سيارات موحدة تحملهم الى نقطة التسليم. وفي هذا إشارة واضحة إلى مدى التنسيق العملياتي الناجح، قبل الهدنة وخلالها، وقبل إطلاق الأسرى وخلال عمليات التسليم.
النقاش حول حاجة المقاومة الى الهدنة أكثر من حاجة الغزّيين إليها، لا يحتلّ مساحة فعلية لدى أهل الميدان الذين لا يخفون أنهم، كأيّ محارب، يستفيدون من أي وقف لإطلاق النار ولو لساعات لإعادة ترتيب بعض خطط العمل. وإذا كان العدوّ يفترض أن أيام الهدنة كانت مناسبة لإدخال تعديلات ضخمة على خطة العمل، فهو لا يعرف شيئاً عن المقاومة. ذلك أن خطة المواجهة مع قواته جارية وفق ما هو مقرّر، وتخضع للتعديل بحسب المجريات على الأرض. والهدنة كانت مناسبة للمّ الوضع أكثر، ولتنظيم التنسيق بين المجموعات المنتشرة على كامل مساحة القطاع، ولتحديد الحاجات الفعلية من مقاتلين وأسلحة تناسب المواجهة المقبلة، إضافة الى التثبت من فعالية برنامج الإطلاق الصاروخي ضد مستوطنات العدوّ القريبة والبعيدة، وصولاً الى تل أبيب.

في معركة صياغة القرار، يبدو أهل الميدان أكثر حسماً في إغلاق أي ثغرة يمكن أن ينفذ منها الأعداء أو من يدّعون الصداقة، لمحاولة تمرير حلول لا تناسب المقاومة. ويقول هؤلاء: بعد كل ما جرى، هل يعتقد أحد في العالم أننا سنتنازل؟ العدوّ يقول إنه يريد إطاحة المقاومة من القطاع، وعليه أن يفعل ذلك بيده وبنفسه، والفصل بيننا وبينه هو الميدان، وكل من يفكر بطريقة احتيالية، ويفترض أنه سيفرض على المقاومة حلاً سياسياً لما بعد الحرب، لا يتناسب مع مصلحة المقاومة والناس، عليه الانضمام الى العدوّ في حملته، وكثيرون من هؤلاء يشاركون أصلاً في العدوان علينا. لقد نفّذ العدوّ مذبحته الكبرى، ولم يعد لدينا ما نخسره. وكما قالت المقاومة إنها لن تفاوض على بقية الأسرى إلا بعد الحرب، فإن أيّ نقاش سياسي أو غير سياسي غير ممكن إلا بعد توقف الحرب. وعندها، ليفكر كل صاحب رأي أو فكرة بأن للحرب نتيجة، وعلى الجميع من حولنا انتظار نتائج الميدان.

 

قد يعجبك ايضا