احدث استطلاع صحفي :مديرية الــعـبــديــة في مأرب .. الأرض الــمــنـسـيــة ..تعيش خارج الجغرافيا والتاريخ

من قانية كانت وجهتنا نحو مخيم طبي أقيم في مركز العبدية، لا يمكن لغير السيارات ذات الدفع الرباعي أو الدفع الخلفي والمرتفعة عن الأرض الوصول إلى مركز وقرى مديرية العبدية في مارب، كلا الطريقين إلى العبدية من جهة قانية البيضاء أو حريب مارب تتطلبان سائقا متمرسا وسيارة متينة ومرتفعة.
تَحُدُّ مديرية العبدية محافظة البيضاء من الغرب وشبوة من الجنوب وحريب مارب من جهة الشرق، ومثلت خلال العدوان على اليمن منطلقا لمرتزقة تحالف العدوان على اليمن في عمليات عسكرية باتجاه البيضاء .
على الطريق نحو مركز العبدية لا وجود لأي أثر للخدمات الأساسية البتة في القرى المتناثرة والمتباعدة، أبراج الكهرباء تعبر مديرية العبدية في اتجاه البيضاء، لكنها لا تضيئ قراها.
بالقرب من الطريق شاهدنا أكثر من تجمع للنساء والأطفال للحصول على المياه، تضطر النسوة هنا إلى حمل المياه لمسافات بعيدة وبعضهن يستخدمن الحمير في جلب المياه، لا وجود في العبدية لمشاريع مياه تصل إلى البيوت.
مع مضي السيارة عميقا في داخل العبدية ، لوهلة تظن أنك غادرت التاريخ تماما ، وجوه الناس الكالحة هنا ليس من المعارك التي وقعت قريبا، هم لم يعتادوا مرور الغرباء من مديريتهم رغم موقعها الاستراتيجي والرابط بين حريب مارب وقانية البيضاء ومناطق شبوة، لا وجود لأي شبكة طرق مسفلتة تصل المديرية بما جاورها أو حتى تربط أطرافها وقراها بما يفيد المسافرين وحتى أبناء المديرية من موقع منطقتهم الاستراتيجية بين 3 محافظات .
أطفال العبدية يألفون ويعرفون الدبابات أكثر من السيارات وموديلاتها، العبدية مارب هي مسقط رأس المرتزق عبدربه الشدادي قائد ما يسمى المنطقة العسكرية الثالثة أو “مؤسس الجمهورية الثانية ” كما تسميه نخب الإصلاح ، اتخذ الشدادي – الذي قُتل في معارك صرواح – من مسقط رأسه مخزنا لتجميع السلاح الخاص به من ممتلكات الجيش المنهوبة ورفد مقاتليه العقائديين والقبليين، وفر نجلاه عبدالحكيم قائد ” اللواء 159” وأسامة الشدادي – بعد أن أحكم الجيش واللجان الشعبية حصارهم على العبدية – إلى مارب.
على جانبي الطريق تتناثر المتارس القتالية، وعلى متن السيارة التي أقلتنا في طريقنا إلى المخيم الطبي بمركز العبدية ، كنا نستمع – محمد احمد شرف مدير مكتب وزير الصحة والدكتور خالد الحجي مدير مكتب الصحة في ذمار وسائقنا علي الدعبوش –بشغف ولهفة كبيرين تكاد تنسينا مشقة الطريق ووعورتها الشديدة، إلى الزميل عبد اللاه السقاف مراسل قناة المسيرة في مارب وأحد أبناء المحافظة وهو يشرح خط سير المعارك لتحرير العبدية ، وأين دارت أشرس تلك المعارك وقصصا عن بسالة المجاهدين، ومعارك خاضها مجاهدو الجيش واللجان الشعبية من النقطة صفر مع اقترابهم من مركز العبدية، مقاتلو العبدية رجال أشداء يشهد بذلك من عرفهم وتعرف ذلك من سحنتهم فهم لا يجيدون سوى القتال، وكان حزب الإصلاح يستغلهم لعقود في حروبه وآخرها محاولة غزو عدن الأخيرة – سقط 300 قتيل جلهم من العبدية بقصف للطيران الإماراتي في نقطة العلم – في إطار صراع العملاء .
واصلنا طريقنا في اتجاه مركز العبدية رأينا دبابة معطلة على الطريق وأخرى، علمنا أن الشدادي خزّن كثيرا من المعدات الثقيلة في المديرية، استعاد الجيش واللجان بعضها وأخرى جرى تهريبها قبل إطباق الحصار، فيما لاتزال مخازن سلاح متنوع دفنها مرتزقة العدوان قبل فرارهم ولا يعلم عنها شيئا.
بوصول الجيش واللجان الشعبية خلال المعارك الأخيرة إلى مفرق العبدية من جهة حريب مارب وقعت المديرية بين فكي كماشة، لمديرية العبدية طريقان فقط، أحدهما يصلها بقانية البيضاء وهو الذي اتخذناه للوصول إلى مركز مديرية العبدية، وآخر يصلها بحريب مارب، والطريقان ضيقان وغير معبدين والسفر عبرهما معاناة كبيرة ويتطلب سيارة قوية.
بحسب طبيب اضطر للقدوم إلى العبدية أملا في نيل درجة وظيفية يغادر بعدها ويعمل في مركز العبدية الصحي والوحيد، فإن المرأة التي تعاني عسرا في الولادة يكون حكمها الموت لعدم القدرة على إيصالها في الوقت المناسب إلى مستشفى حريب العام أو قانية في البيضاء، وعدم توفر أبسط الإمكانات الطبية لإنقاذها.
يتحدث الدكتور عبد الله السماوي – مدير المخيم الطبي الذي رعته وزارة الصحة – عن وجود أسماء كثير من المنظمات في العبدية لكن أثرها على الأرض يكاد يكون صفرا، وبعبارة أخرى شكلت العبدية فجوة سوداء لا يمكن لأحد التحقق من المشاريع المسجلة التي تدفع مقابلها أموال ويمكن لقادة الإصلاح نهب الأموال باسمها دون أن يتمكن أحد من كشف أمرهم، إذ لا يمكن السفر إلى المديرية .
وزير الصحة الدكتور طه المتوكل، ربما يكون أعلى مسؤول حكومي يصل إلى المديرية، للوقوف على وضع مركز العبدية الصحي والاطلاع على سير المخيم الطبي الذي استقبل في يومين فقط 700 حالة عند وصولنا.
ولأول مرة كذلك تحضر طبيبة نساء وولادة إلى مركز مديرية العبدية ضمن فريق المخيم الطبي ، وصولها شكل حدثا فارقا لدى الناس هنا ، أصبحوا يأتون بنسائهم وأطفالهم للعلاج أملا في الاستفادة من أيام المخيم الطبي المحدودة.
يتحدث وزير الصحة عن تركة ثقيلة في العبدية، يضاعف من صعوبتها عزلة المديرية ، لا يوجد في المركز سوى طبيبين عموميين حديثي التخرج ، تلقيا وعدا بتحمل وزارة الصحة نفقات دراستهما العليا مجانا لقاء بقائهما في المديرية وعدم مغادرتها ولو إلى حين ترتيب الوضع وتلتقط الدولة أنفاسها .
كنا نتوقع أن نجد تجمعا سكانيا بقدر مسمى مركز لمديرية، فقط وجدنا مركزا صحيا ، يبعد عنه بمسافة مبنى مديرية الأمن المدمر ، وتوجد بعيدا عنهما بمسافة أخرى مدرسة حولها المرتزقة لمخازن سلاح وتصنيع عبوات من مخلفات الذخيرة، وبين تلك المباني الحكومية الوحيدة تتناثر بضعة منازل للمواطنين ، لا وجود بالمعنى الحقيقي لأي تجمع سكاني يجوز أن يطلق عليه مركزا سكانيا.
ليس بعيدا عن مركز المديرية شاهدنا منزلا عليه آثار قصف بالدبابات، استفسرنا عن الأمر إن كانت إحدى الدبابات المتناثرة أخطأت التصويب، فاجبنا بأن أحد أطراف الثأر استعان بدبابات ” المرتزقة ” لقصف منازل خصومه ، وهكذا كان تسعير الثأرات بأسلحة “الدولة” بدل أن تقوم على حلها وتهدئة الخواطر.
المجاهدون عقب العملية العسكرية لتحرير العبدية انسحبوا إلى أطرافها وتركوا للسلطة المحلية إرساء الأمن، بعد أن عقد صلح أمان لمدة عامين في لقاء السيد عبد الملك بمشايخ العبدية الذين استضافتهم صنعاء لعدة أيام، وهناك تلقوا مكرمة بإطلاق جميع أسراهم الـ 52 عادوا وهم معهم، في مكرمة أراد منها السيد عبد الملك أن تكون فاتحة خير لمديرية عانت الكثير من الظلم والعزلة.
على امتداد طريقنا يمكن ملاحظة خصوبة الأراضي لكنها غير مزروعة، الأهالي هنا يعتمدون على ما يقدم إليهم من مساعدات غذائية من المنظمات، وسابقا يعيشون على مؤونة تأتيهم من انتسابهم إلى الجيش.
في طريق عودتنا قابلنا إحدى سيارات الجيش واللجان تحمل على متنها كمية من مادة الديزل في طريقها لوحدة شق استقدمها المرتزقة لصنع السواتر وتمرير الدبابات، وحولها مجاهدو الجيش واللجان لصالح أهل المديرية تعبد الطريق وتعمل على توسيعها.
الدخان لا يزال يتصاعد من البيوت حيث تصنع النساء الطعام في المنازل، فمن الصعوبة بمكان إحضار مادة الغاز إلى قرى العبدية حيث لا طرق تربط بين قراها سوى تلك التي جرى شقها بالأيدي.
حاول الأهالي استبقاءنا للغداء.. كرماء رغم فاقتهم، لكن مجرد التفكير في الطريق جعل من الصعب قبولها .
الأطفال هنا يرددون الصرخة بفرح عارم، يستقبلون كل عابر بترديدها، وصول المجاهدين اليهم ربما كان الحدث الأول والجديد الذي يرونه منذ فتحت أعينهم على هذه الحياة، هم حقا يعيشون في قطعة معزولة من الأرض، أو أريد لها أن تكون معزولة إن أردنا الدقة ، وأريد لأهلها كذلك أن يظلوا ذخيرة في يد قادة ارتهنوا للباطل وحزب يسوق أبناء بلده لمحارق الأجنبي ويقبض الثمن.
سوء حظ العبدية أن أحد أبنائها كان عاقا لأهله ومسقط رأسه قبل أن يكون عاقا لوطنه، ساق أقرباءه للشيطان وسفك بهم دماء شعبه ، ويتناسى أن منهم أويس القرني الصحابي الذي قاتل وثبت في صف الإمام علي والإسلام المحمدي، ولا يزال ضريحه قائما.

 

الثورة / إبراهيم الوادعي

قد يعجبك ايضا