العابرون إلى فلسطين…مناورة اقتحام الجليل: الكابوس يتحقّق

 

فراس الشوفي

قدّمت المقاومة أمس، جانباً صغيراً من قدراتها الفنية والبشرية في مناورة عسكرية نادرة لحزب الله أمام مئات الصحافيين. رسائل بالجملة ورموز ووسومٌ تخللت العروض القتالية على بعد كيلومترات قليلة من «الخطّ الأزرق»، تكشف إصرار المقاومة على بناء القوّة لتحرير فلسطين. قالت المقاومة «سنعبر… فإذاً نحن عابرون»

ضبابٌ رقيقٌ، ارتمى على التلال والهضاب في الطريق من جزين إلى عرمتى، صباح أمس. الشمس اهتدت إلى الصنوبر والسنديان، فلمعت معها أزهار الأشواك البنفسجية وبعض شقائق النعمان الباقية فوق السفوح الخضراء. وعلى ضفتي الدرب إلى معسكر للمقاومة في «كسارة العروش»، التحمت بَتَلَاتُ الوزّال الصفراء برايات حزب الله.

كان يوماً مشوقاً لأكثر من 650 صحافياً وإعلامياً ومصوراً، لبنانياً وعربياً وأجنبياً، لبّوا دعوة العلاقات الإعلامية في الحزب، لحضور مناورة عسكرية تظهر استعدادات المقاومة، حملت اسم «سنعبر». مفارقة، تختصر الزمن والتحوّلات. قبل 23 عاماً، كانت الأرض محتلّة، وفوق هذه البقعة بالذات، أنشأ العدو الإسرائيلي وجيش العميل أنطوان لحد موقع بئر كلّاب الشهير.

مقاومة حديثة

من مدخل المعسكر نزولاً نحو باحة العرض، اصطفت يساراً آليات عسكرية، حملت أصنافاً متنوّعة من الأسلحة: صواريخ مضادة للدروع منسّقة على عربات خفيفة الحركة، راجمات صواريخ متعددة الأحجام والمديات، ومدفع 130 ميدان ضخم فوق شاحنة بتركيب محلّي! بينما توزّع جنود «الرضوان»، قوّة النخبة في حزب الله، طواقم فوق آلياتهم بعتادهم المميّز، وأقنعتهم المتّسقة مع بزاتهم المرقّطة، يخفون بها وجوههم عن مئات الكاميرات والهواتف، والبثّ المباشر… المسموح لكل من يرغب من الضيوف.

فريق التنظيم وجّه الكاميرات المحترفة نحو منصّة مخصصة للتصوير، وبقية الضيوف نحو منصّة ملاصقة، جلس في مقدّمها رئيس الهيئة التنفيذية في حزب الله السيد هاشم صفي الدين، ورئيس وحدة الارتباط والتنسيق وفيق صفا ومسؤول العلاقات الإعلامية محمد عفيف، بينما تربّع في وسطها منبر، ترجم منه صفي الدين بعد انتهاء العرض، رموز المناورة، وأعلن الرسائل المحدّدة للعدوّ الإسرائيلي.
كلّ شيءٍ أعدّ بعناية شديدة. ثقة المنظّمين بدقّة العمل واحترافية الجنود، سمحت بأن لا تبعد المنصة كثيراً عن ساحة العرض، رغم استخدام الذخائر الحيّة.
في البدء، استعرضت قوّة من الدراجات الناريّة مهاراتها في القيادة والقتال والعمليات السريعة، ثمّ قدّمت قوّة من المشاة حلقات من الاشتباك الفردي، تعكس تدريباً عالياً ومهارات متنوّعة، قبل أن يبدأ «الثقيل»، ويهزّ هدير العبوات الناسفة الأرض، وتنبعث رائحة البارود، وتنهمر الرّصاصات على نجمة داوود الزرقاء، وما تمثّل من أهداف رمزية لمواقع العدوّ.

تصاعدت الحماسة، وتصاعدت معها رمايات الأسلحة الثقيلة، من الصواريخ والقذائف، وسط هجوم على مستعمرة للصهاينة. أمطر المقاومون المواقع الدفاعية في المستعمرة المفترضة، قبل أن تتقدّم آليات خفيفة لتحريرها مع استمرار النيران نحوها، في لعبة شديدة الخطورة والحسابات. مصير المستعمرة كما أعلنه المعلّق العسكري، التدمير بعد التحرير. رسالة مدويّة من عشرات الرسائل، سيتردد صداها بين جدران كل بيتٍ مؤقّت، من مستوطنات الجليل إلى جنوب النقب.
يحتدم النزال في العرض، هنا عملية أسر آلية للعدو بخفة متناهية نفذتها دراجتان، وهناك عملية أسرٍ لجنود في دورية افتراضية مؤلفة من سيارتي رانج روفر، خلف سياج شائك. أقلّ من دقيقة، انتشل المقاومون الأسرى المفترضين وحولوا السيارتين إلى ركام، وانسحبوا بهم نحو الأرض المحرّرة. مشهد مكرّر معاد، يعيد إلى الذاكرة عملية شبعا وعملية خلة وردة. ثمّ تتدحرج المعركة، وتشترك الطائرات المسيّرة، الراصدة والقاصفة، قبل أن تعود لإلقاء التحايا على الحضور. أسلحة الدفاع الجوي لم تغب أيضاً، فظهرت بين أيدي المقاتلين صواريخ سام 16 المحمولة على الكتف، الروسية الصنع، ومضادات الطائرات المسيرة المحمولة من الأفراد.

أمّا درّة «العابرين»، فكان اختراق عشرات المقاتلين لمجسم جدارٍ وهمي كالذي يبنيه العدوّ ليحصنّ أمنه خلفه بين لبنان وفلسطين. نسف المقاتلون الجدار محدثين ثغرات متعددة، ثم اندفعوا نحو ساحة العرض، كأنها في الجليل، ولبنان خلف الجدار.

عرضٌ متكامل، لكن يصعب على من راقب قوّة حزب الله العسكرية في سورية، سلاحاً وبشراً، أن ينظر إلى حدث الأمس كمناورة فعلية. عمل الأمس استعراض للقوّة برموز ودلالات، بالأسلحة والقبضات والسواعد المشدودة، ورسائل سياسية وميدانية للعدّو، يُظهر بعضاً قليلاً من قوّة المقاومة وجاهزيتها للقتال.

إنه إعلان عن استراتيجية جديدة لمقاومة جديدة بتكنولوجيا حديثة تضاهي أحدث الجيوش، وجنود شديدي التنظيم والإصرار والعلم، يستطيعون تحويل كل فكرة ممكنة إلى عمل تكتيكي. إعلانٌ، عن عقولٍ مبدعة، تبتكر وتطوّر الأسلحة، تطوّع المادة لتدبّ فيها الروح، فلا يعود مهمّاً نوع السلاح ومصدره وهدف تصنيعه، شرقياً أم غربياً، إنّما كيفية توظيفه وتعديله للتماهي مع منظومة متكاملة من المعرفة والإرادة.
أمرٌ آخر في الشكل والمضمون، بدا عماد مغنيّة حاضراً في كل فعل. من صورته التي ارتفعت بعد أن أصاب قناصٌ من المقاومة أحد الأهداف الرمزية، إلى مشاهد الخطف، إلى كل جندي من جنود الرضوان أخفى وجهه أمس. ليس وفاءً فحسب، بل تمسّكاً بالنموذج والخطة والهدف الواضح والمحدد والدقيق: إزالة إسرائيل من الوجود.

تظاهرة إعلامية غير مسبوقة
منذ عام 2005، تخلّى حزب الله عن القيام بعروض عسكرية كما دأب على القيام بذلك منذ تأسيسه في يوم القدس العالمي من كل عام. حصلت حرب تموز، ثم الحرب على سورية، والكثير من محطات الصراع، من دون أن يفتح الحزب المجال للإعلام الغربي والعربي بتغطية نشاطاته العسكرية، تاركاً الأمر بين يدي الإعلام الحربي ووسائل إعلامه الرسمية. خطوة أمس، لاقت ترحيباً لدى غالبية وسائل الإعلام، حتى الغربي منها، الذي حظي بمشاهد جذّابة، بمعزل عن التموضع السياسي لهذه الوسائل. تميّز الحضور بطيفٍ متعدد وواسع من المشاركين من دول غربية وآسيوية، في عملية لوجستية ضخمة لتأمين انتقال عدد كبير من الصحافيين، والسماح للجميع بتصوير كل شيء تقريباً، وعلى الهواء مباشرةً. ووصف مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله محمد عفيف الحدث بأنه «أضخم مناسبة في لبنان يشارك فيها هذا الكم من الصحافيين منذ مدّة طويلة جداً». وحول المواقف التي صدرت أمس لانتقاد المناورة أو تصويرها على أنها تهديد للبنانيين أو للعرب، شدّد على أن «موقع المناورة واتجاهها ورسائلها نحو الجنوب، والجنوب وحده، والذين يعترضون على المناورة يعترضون على المقاومة نفسها».

 

مناورة اقتحام الجليل: الكابوس يتحقّق

 

لا يمكن العدو الإسرائيلي أن يتجاوز الرسائل الكامنة في مناورة حزب الله أمس، في المضمون والسياق والتوقيت. والمؤكد أنها ستحظى باهتمام المؤسسات المهنية ذات الصلة، تحليلاً واستشرافاً، كما هي الحال في كل محطة للمقاومة في لبنان وفلسطين. في هذا الإطار، أتت دعوة القناة 12 في التلفزيون الإسرائيلي إلى عدم الاستخفاف بهذا الحدث، في إشارة إلى ضرورة استيعاب مؤشراته. ومما يُعزِّز دوافع هذا الاهتمام أيضاً رسائل مضمون المناورة التي تلاقت مع مواقف حاسمة أطلقها رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله السيد هاشم صفي الدين.

مع ذلك، ينبغي التمييز بين اهتمام المؤسسات الاستخبارية والعسكرية والسياسية التي لم يصدر عنها أي تعليق، وما يصدر في وسائل الإعلام الإسرائيلية مما قد يكون انعكاساً لما يدور في أروقة التقدير والقرار أو مجرد قراءات ذاتية تبقى بالإجمال مضبوطة بسقوف المؤسسة الرسمية. ولكن، بعد ساعات من المناورة، يمكن إجمال بعض موارد الاهتمام الإسرائيلي بهذا الحدث، بتركيز بعضها على خلفية إجرائها أمام مختلف وسائل الإعلام المحلية والعالمية، والقدرات التي قرّر الحزب الكشف عنها وتهتم الاستخبارات العسكرية برصدها، وأيضاً في تمحور المناورة، بشكل رئيسي، حول عينة من استراتيجية اقتحام الجليل وأسر جنود والسيطرة على مستوطنات.

بعض المعلقين ووسائل الإعلام ربط بين المناورة والعدوان الأخير ضد الجهاد الإسلامي في غزة. إلا أنها، وإن كانت تشمل هذه المواجهة وما سبقها، تتجاوز في أبعادها ورسائلها إلى ما هو أبعد مدى وأوسع نطاقاً وأشد خطورة في ضوء التحولات التي تشهدها المنطقة. أضف أنه وفق منظور المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، سياسياً واستخبارياً، وبغضّ النظر عما إذا كان سيتم التعبير عن ذلك لاحقاً أم لا، تشكّل المناورة محطة في سياق، لها اتصال بما قبلها وبما بعدها.
في المضمون، أبلغ الرسائل التي ستدوّي في كيان العدو أن حزب الله تعمد أن تحاكي المناورة سيناريو اقتحام مستوطنة وأسر جنود، وليس، مثلاً، التصدي لمواجهة قوة كوماندوس إسرائيلية أو لاعتداء إسرائيلي، ما يعني في ما يعنيه أن خيار اقتحام الجليل يندرج عملياتياً ضمن أولويات سلة الردود على أي عدوان. وهذا أمر، وإن كان حاضراً مسبقاً لدى قيادة العدو، لا يمكن أن يقرأه العدو في سياق منفصل عن التطورات التي تشهدها فلسطين والمنطقة.
لذلك، مما سيشغل الأجهزة الإسرائيلية محاولة معرفة التقدير الذي انطلق منه حزب الله في قرار إجراء المناورة، وما إن كان ينبع من معلومات أو تقديرات لديه حول حماقات قد ترتكبها إسرائيل، أم أنه يرى أن مسار التطورات في المنطقة قد يدفع العدو في هذا الاتجاه، أم هو خطوة تمهيدية لخطوات لاحقة، خصوصاً أن «التوقيت حساس للغاية على مستوى المنطقة» كما لفت إلى ذلك موقع I24news الإسرائيلي.

المناورة تتكامل مع مفهوم وحدة الساحات وتؤشر إلى السقوف المفتوحة للرد على أي عدوان

من الرسائل التي حضرت لدى بعض المعلقين أيضاً أن المناورة تتكامل مع مفهوم وحدة الساحات، وهو أمر أكد عليه السيد صفي الدين عندما شدد على أن «مقاومة اليوم هي قوة ممتدّة ومحورٌ كامل سيبقى يتطور من غزة والضفة والداخل المحتل ولبنان انطلاقاً من الجمهورية الإسلامية في إيران»، معتبراً أنَّ «ما يعمل عليه العدو للتفكيك بين جبهات المقاومة خيالي». ولا يخفى أن هذا السيناريو هو الأخطر على كيان العدو، ويشكل تطوراً نوعياً في المسار التصاعدي لمحور المقاومة. وقد فرض نفسه على مؤسسات القرار وشكّل الكابوس الأخطر على الجيش الذي أعلن رئيس أركانه هرتسي هليفي أنه سيطور قدراته وجاهزيته وفقاً لفرضية المواجهة على جبهات متعددة.
وليس بعيداً عما يدور في أروقة القرار والتقدير، أتت قراءة محللة الشؤون الأمنية والعسكرية في قناة «مكان» الإسرائيلية، إيال عليما، التي اعتبرت أن الخطير في المناورة هو الرسائل التي تبثها، كونها حاكت عملية تسلل إلى الجانب الإسرائيلي من الحدود. ورأت أن «النغمة التي نسمعها تدل على جرأة حزب الله بالمبادرة إلى مخاطر مدروسة». واستحضرت في هذا السياق عملية مجدو وإطلاق الصواريخ من لبنان وإطلاق مسيرات نحو منصات الغاز قبل أشهر.

اللافت في المناورة أيضاً أن حزب الله قدم إجابات على مجموعة من الأسئلة الجوهرية حول أهدافها، بإطلاق مواقف دقيقة وحازمة. إذ جدّد رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله ملامح الرد على أي محاولة من قبل العدو لتعديل المعادلات بالقول «إذا ارتكب العدو حماقة وتجاوز قواعد اللعبة سنمطر هذا الكيان بصواريخنا الدقيقة وبكافة أسلحتنا التي نملكها، والعدو سيرى فعل الصواريخ الدقيقة في قلب كيانه»، وبما «لا تستطيعون رده وستشهدون أياماً سوداء لم تروا مثلها». ويؤشر هذا الموقف إلى أن مدى رد حزب الله سيتجاوز أي سقوف قد يتوهمها العدو انطلاقاً من تقديرات خاطئة. ومن المؤكد أن العدو سيلتفت أيضاً إلى دلالة كون الكلمة مكتوبة، ما يعني أن كل حرف فيها أتى بناء على قرار، وأنها تعبّر عن التوجه الرسمي لحزب الله.
وليس من المبالغة القول إن من المعطيات التي ستحضر لدى الأجهزة المختصة هو تعهد حزب الله بـ«إمطار» الداخل الإسرائيلي بالصواريخ الدقيقة التي لم يعد العدو يتحدث عن تقديراته إزاء الأعداد المتوافر منها لدى حزب الله، ما يُشير إلى أنه أدرك خطأ تقديراته ومعلوماته، وبأن حزب الله أصبح في الموقع الذي يمكنه من خوض مواجهة كبرى استناداً إلى ما يملكه منها ومن غيرها من المفاجآت.
في الأبعاد الداخلية اللبنانية، مع أن حزب الله حرص على طمأنة الداخل على لسان السيد صفي الدين، انطلاقاً من أن المقاومة هي قوة لحماية لبنان، إلا أن الرسالة والمؤشر الداخلي الأهم بالنسبة لكيان العدو، أن هذه المناورة تجسد فشل الرهان على متغيرات الداخل اللبناني التي كان سقفها الأعلى تخلي بيئة المقاومة عنها، وسقفها الأدنى أن يتحول الداخل اللبناني، ببعديه السياسي والاقتصادي، إلى قيد على حركة حزب الله في المبادرة والرد على اعتداءات العدو.

قد يعجبك ايضا