الكاتب والباحث فب العلاقات الدولية في جامعة بولونيا الإيطالية علي جزيني يكتب :حين يتحول “التمرد” إلى حربٍ نظامية: من فيتنام إلى اليمن

الحقيقة/علي جزيني

ماجستير علاقات دولية – جامعة بولونيا الإيطالية

المسألة ليست ببساطة الرومنسيات الثوريّة، أو موضوع المعنويات والروحيّة، بل هي تتعداها إلى الجانب اللوجستي، البشري، الاستخباريّ، وحريّة الحركة. أي أن البيئة الحاضنة لحركة المقاومة يمكن أن تسهّل عمليّة تموينها.

“لكل عصرٍ صنفه الخاص من الحروب، وظروفه المقيّدة الخاصّة، ومفاهيمه المسبَّقة الفريدة”- كارل فون كلاوسويتز.

“محيط الأرض عاملٌ مساعدٌ للجيش. قياس حجم الخصوم لقياس النصر، تقدير الأخطار والمسافات، من يقومون بالمعركة.. بدون معرفة هذه الأمور سيخسرون” – سون تزو.

بعيداً عن التشبيه البديهيّ لحرب التحرّر في فيتنام بحرب التحرّر في اليمن، من ناحية كونها حرباً بطوليّة استنزافيّةً طويلةً تجاه عدو أقوى كثيراً، سنحاول، في هذا المقال، الإضاءة على تحوّل المقاومة الشعبيّة أو “التمرّد” (insurgency) إلى حالة تخرج فيها من هذا الإطار لتصبح سلطةً شرعيّة، من الناحية السياسيّة، تملك بنيّة عسكريّة نظاميّة، وإن استمرّت في الاعتماد على بعض تكتيكات المقاومة الشعبيّة.

فيتنام، ديان بيان فو: البداية

في الخامس عشر من شهر آذار/مارس 1954، أقدم قائد قوات المدفعيّة الفرنسية المحاصَرة في وادي ديان بيان فو، العقيد تشارلز بيروث، على الانتحار باستخدام قنبلة يدويّة مخلّفاً نحو عشرة آلاف جندي محاصَرين في هذه المنطقة. انتحار العقيد جرى بعد أن عجزت قوات المدفعيّة الفرنسية عن إسكات مدافع الفييت مين باستخدام البطاريّة المضادة (counter battery)، وهي عصبة استقلال فيتنام التي يقود قوّاتها الجنرال فو نغويين جياب. في إثر ذلك، دُفن الضابط الفرنسيّ في سريّة تامّة كي لا يؤثّر ذلك في معنويات القوات المحاصَرة.

كانت القوات الفرنسيّة في وضع سيئ للغاية بعد أن أحكمت نيران المدفعية الفيتنامية الطوق على التحكُّم الفرنسي في الوادي. في اليومين السابقين للحادث،  قتلت هذه النيران قائد كتيبة مع طاقمه الحربي بقذيفة أصابت مركز قيادتهم، بينما لم يكن مصير  قائد المحورالأوسط، المقدّم جول غوشيه، أفضل أيضاً. شبّه قائد القوات الفيتنامية الوضع الذي يوجَد فيه الفرنسيون بـ”صحن الأرزّ”، بحيث يوجَد الفرنسيون في وسطه، بينما يتمترس الفيتناميون على أطرافه العاليّة. والتوصيف دقيقٌ للغاية، إذ إن أرض المعركة هي عبارة عن وادٍ سهليّ واسع، عرضه 6 كلم وطوله 20 كلم، وتحيط به التلال من جميع الاتجاهات. من حقّ أيّ عاقلٍ يرى طوبوغرافية المنطقة، أن يسأل نفسه عن السبب الذي دفع قائد القوّات الفرنسيّة في المنطقة، هنري نافارّ، إلى أن يزجّ بقواته المكوّنة من عدّة ألوية في “صحن الأرزّ” هذا.

لم تمنح إطلالة التلال المحيطة القدرةَ على مراقبة ما يحدث في القواعد الفرنسيّة فحسب، وحرمان الفرنسيين من عامل السريّة إلى حدّ ما، ولا تكمن أهميّتها في القدرة على الضرب المباشِر بالمدفعيّة وتحقيق السيطرة بالنار على الوادي فقط، وإنما أيضاً بحرمان طواقم المدفعية الفرنسية الأكثر خبرةً من القدرة على الردّ بالنار. وذلك لأن ارتفاع مكان الإطلاق يمنح المدفع مدًى إضافياً، وانخفاضه يحرمه منه. بالإضافة إلى ذلك، فاجأ الفيتناميون الفرنسيين بمتانة تصميم بناء التحصينات التي تغطّي مرابض المدفعيّة، واحترافيتها، والتي لم تقدر قذائف المدافع الفرنسية على اختراقها. ذُهل الفرنسيون من كمّ القوّة الناريّة التي أسقطها الفيتناميون على رؤوسهم، وكانت العقدة الأساسية مفادها: كيف تمّكن جياب ورجاله من حمل كلّ هذه المدافع بسريّة، ونصبها على التلال المحيطة بالوادي؟

للعلم، لم تكن معركة ديان بيان فو حرباً جبهَويّة تقليديّة. فأقرب نقطة فرنسيّة إليها كانت على بُعد أكثر من 400 كلم، بل كانت إنزالاً مظلياً هائلاً، يهدف إلى خلق ما يسمى “القنفذ” (Hedgehog)؛ أي نقطة شديدة التحصين في العمق الاستراتيجي لـ”حركة التمرّد”، تهدف إلى الحد من تحرّك قوّات الخصم من جهة، وإلى جذب قواته إلى معركة مفتوحة تتفوَّق فيها أسلحة الطرف الأقوى ومعدّاته على الأضعف من جهة ثانية. في هذه الحالة، كان اختيار الموقع يهدف، أساساً، إلى قطع التواصل بين لاوس وفيتنام، إذ إن المكان يقع على بعد كيلومترات قليلة من الحدود. في المحصّلة، تعرّضت القوّة الفرنسيّة للسحق حرفياً في السابع من أيار/مايو من العام نفسه، وذلك بعد نحو ستة أشهر ونيّف من وَطْء أول جندي فرنسي أرض الوادي، وأسفرت عن أسر أكثر من عشرة آلاف جندي فرنسيّ. كان لصور طوابير الأسرى، من جنود الإمبراطورية، تأثيرٌ امتدّ إلى خارج جنوبي شرقس آسيا، وحطّم هذه الإمبراطورية الاستعمارية بأسرها.

مفاهيم الحرب الحديثة في مكافحة التمرد

على الرَّغم من تعدّد المدارس الغربيّة في مكافحة “التمرّد”، أو “حركات المقاومة”، فإن هنالك بعض القواسم المشتركة التي يمكننا ملاحظتها فيها. منذ المدرسة الإسبانية، التي أسسها سانتا كروز دي مرسينادو Santa Cruz de Marcenado)) في قرون استعمار القارّة الأميركية الأولى، إلى المدارس الحديثة، تظهر أهميّة الحاضنة الشعبية لأي عملٍ من هذا النوع. يتمّ التركيز هنا على كيفيّة سلخ هذه البيئة الحاضنة عن حركة “التمرّد”، ويذهب المنظّر العسكري البريطاني ليدل هارت (Liddell Hart) إلى حدّ القول إنه يستحيل هزيمة حركة من هذا النوع ما دامت تتمتّع بنوعٍ من الحاضنة الشعبية التي تستمدّ شرعيّتها وروحيّتها القتاليتين منها. في المقلب الآخر، يختصر ماو تسي تونغ العلاقة بين حركة المقاومة والشعب في كتابه “حرب الغيرّيليا” (العصابات)، بحيث يجب أن يكون الأخير كالبحر الذي تسبح فيه الأسماك (أي المقاومون).

المسألة ليست ببساطة الرومنسيات الثوريّة، أو موضوع المعنويات والروحيّة، بل هي تتعداها إلى الجانب اللوجستي، البشري، الاستخباريّ، وحريّة الحركة. أي أن البيئة الحاضنة لحركة المقاومة يمكن أن تسهّل عمليّة تموينها، ومدّها البشري، والمعلومات عن قوّات العدوّ، وتخفي حركتها ضمن الحركة الطبيعية لهؤلاء السكّان متى قرّروا أن يتبنّوها بصورة كاملة. 

بالعودة إلى فيتنام، انتقلت حركة المقاومة الفيتنامية في خمسينيات القرن الماضي، من كونها حركة مقاومة تقليديّة تواجه الاستعمار الياباني للبلاد في الأربعينيات، ثمّ وريثه الاستعمار الفرنسي، إلى سلطة شرعيّة ذات تمثيل شعبيّ واسع، وسيطرة ثابتة على الأرض، وعمقٍ استراتيجيّ، وقوّة ناريةّ كبيرة. كما مارست تكتيكات هجينة، تراوحت بين عمليّات المضايقة الخاصة بحركات المقاومة الشعبية والهجمات العسكريّة التقليديّة الواسعة. في “ديان بيان فو”، التي حُصِر تموين القوات فيها بالإسقاط المظلي، تعرضَت القوات الفرنسية لهجمات تقليديّة بالمدفعيّة، تحقَّق فيها التفوّق الناري، وتمّ تحريم الأجواء على أي هبوط للطائرات في المدارج التي كان الفرنسيّون قد أنشأوها باستخدام مدافع سوفياتية مضادة للطيران، وجيّدة التمويه، من عيار 37 ملم. إن الدور الذّي أمَّنته الحاضنة الشعبيّة المدنيّة في العمل العسكري المباشر، هو الاقتصار، أساساً، على المساهمة في نقل عشرات آلاف الأطنان من العتاد والسلاح دورياً باليد وعلى ظهور الحيوانات إلى مواقعها في التلال المشرفة قبيل الهجوم.

اعتقد الفرنسيّون، بقيادة هنري نافارّ (Henri Navarre)، قائد ما يسمى القوات الفرنسية في الهند الصينيّة، إمكانَ استدراج المقاومة الفيتنامية التي انتقلت إلى هذا النوع من الحروب؛ أي إلى حربٍ مفتوحة تكون الأفضلية فيها للفرنسيين، كما حدث في معركة “نا سان” التي انتصرت فيها القوّات الفرنسيّة قبل سنتين. ووصل بهم الأمر إلى الإيمان بإمكان النصر، على نحو كامل، في أرض معاديّة يسيطر عليها عدوّهم، فألقوا أنفسهم بأنفسهم في الحصار. خلال هاتين السنتين، استخلص الفيتناميون، بقيادة جياب، الدروسَ من تلك المعركة. كما يعبّر لاحقاً المنظّر الثوري الفيتنامي ترونج شينه (Truong Chinh) في “الممهّد للثورة”، عن أن طول الحرب يخدم الثورة، ويتيح لها مزيداً من فرص التدريب، والتعلّم، واستنزاف العدوّ، بصورة مستمرّة. ويبدو ذلك واضحاً من الناحية التكتيكية بين المعركتين، بحيث أخذت القوّات المقاتلة وقتها في استنزاف العدوّ، قبل تسديد الضربة القاضية على هيئة هجوم تقليديّ ساحق.

حاول الفرنسيون استخلاص الدروس من حرب فيتنام وتطبيقها في الجزائر، مع اختلافات جذريّة متعددة بين مسرحَيِ العمليّات، على مستوَيي التسليح والجغرافيا مثلاً، بحيث كانت كلٌّ من الصين والاتحاد السوفياتي في ظَهر الفيتناميين، إلاّ أن النتيجة لم تكن مغايرة في المحصّلة. على الرغم من كلّ الأدبيّات الفرنسيّة، التي تحدّثت عن ضرورة فصل السكّان عن حالة المقاومة الشعبيّة، كما كتابات الفرنسي دافيد غالولا (David Galula)، فإن الفرنسيين مارسوا سياسات العقاب الجماعي، والتجويع، والإبادة العرقيّة، وجميع صنوف التعذيب الشنيع، في البيئة المدنيّة المؤيدة للثورة، الأمر الذي انتهى بهم إلى الفشل أيضاً في التجربة الجزائرية، بالإضافة إلى عدد من العوامل الأخيرة. يعبّر المنظّر “الإسرائيلي” مارتين فون كريفيلد (Martin van Creveld) عن المسألة على نحو طريف، فهو يقول إن أي محاولة لدراسة عمليّات “مكافحة التمرّد” تتطلّب رمي 99% من الأدبيّات بشأن الموضوع، لأنها مكتوبة من جانب الطرف المهزوم.

ظواهر الحرب النظاميّة في اليمن: عملية “نصر من الله” 2019

تشكّل الجبال اليمنيّة، بطبيعتها الصعبة، وتكوين أهلها الاجتماعي، وعقائدهم الصلبة، واحداً من الأماكن القليلة العاصية في هذا العالم على الدول والإمبراطوريّات. هذه التوصيفات تنطبق أيضاً على جبال أفغانستان. في كلتا الحالتين، كانت العاصمة السياسيّة للبلاد تسقط أحياناً، فكابول خضعت للسيطرة البريطانية فترةً وجيزة في حروب الإمبراطوريّة البريطانيّة، كما الحرب الأطلسيّة الأخيرة في أفغانستان. أمّا صنعاء، العصيّة على غزوين عثمانيين في القرنين السادس عشر والسابع عشر، فلم تدخلها هذه القوات إلا يوم دبّ الخلاف بين أعيانها، كما في القرن التاسع عشر. في كلتا الحالتين، عندما كانت النخبة المدينيّة تتنازل، كانت القبائل تعود إلى الجبال العصيّة، كأن شيئاً لم يكن، لتعود وتثور بعد عدّة عقود على الحكم القائم. وفي هذا نموذج من “حركة التمرّد”. 

المُغاير، على نحو جذريّ في الحرب المستمّرة على اليمن، أننا لا نتعامل مع “تمرّد”، أو “حركة مقاومة” حالياً بالمعنى الأكاديمي. لا صنعاء سقطت، ولا عدد من المدن الإستراتيجيّة في اليمن. حتى مدينة الحُدَيدة، التي تتوسط السهل الساحليّ الغربي من اليمن، على الرغم من تعرّضها لجميع أنواع القصف الجويّ، والمدفعيّ، براً وبحراً، فإنها لم تسقط ليخرج منها الثوار ليعودوا إلى الجبال، كما تفعل حركات المقاومة في الحروب اللامتكافئة. كلّ محاولة لاحتلال العاصمة صنعاء في السنوات الماضيّة، انتهت بهزيمة مُخزية لقوّات التحالف السعودّي. إذاً، هنالك قدرة استثنائية على المحافظة على الأرض المكتسَبة. كما أن الأهم من ذلك للقوات المسلحة اليمنية ولـ”أنصار الله” هو القدرة على خوض نمط مشابه من “معارك مرتّبة” (Pitched battle)، لا يَضرب فيها الطرف الأضعف تسليحاً ويهرب، بل يلتزم الحفاظ على الأرض وتحقيق التقدّم أحياناً أخرىـ في ميدان “مرتّب” معروف قبل المعركة.

خرجت الثورة اليمنيّة أيضاً مما يمكننا أن نسميه “النمط الماويّ” من المقاومة. وهي، في واقع الحال، تتمتّع بدعم شعبيّ واسع من دون شكّ، إلا أنها لا تستخدم هذه البيئة الشعبيّة المدنيّة في الأعمال الحربيّة على نحو مباشر، بل هي تخوض المعارك باستخدام تكتيكات تقليديّة، يدخل ضمنها الكرّ والفرّ، كما المضايقة والكمائن أيضاً. ويظهر العكس تماماً في اليمن، فالمعادلات التي فرضها اليمن على تحالف العدوان أقرب ما تكون معادلات ردع تقليديّة، أكثر من كونها تصرفّات حركات غير نظاميّة؛ بمعنى أبسط: في المراحل الأولى من أي ثورة عادةً، تستخدم الثورة، بسبب ضعف مقدّراتها، عدوان الطرف الأقوى على البيئة والبنية المدنيّة وسيلةً لجذب هذه البيئة إليها. في اليمن، الوضع مُغاير تماماً. للثورة احتضانٌ شعبيّ عالٍ جداً بالتأكيد، ولا شكّ في أن هذه الاعتداءات تشكّل عامل جذبٍ للمجتمع اليمنيّ نحو الثورة المستمرّة، إلاّ أن عمليّات توازن الردع المستمرّة، والتي تفرضها القوات المسلّحة اليمنيّة، تهدف أساساً إلى حماية الشعب اليمني هنا أولاً، ثمّ بنيّة اليمن التحتيّة ومؤسساته.

تشكّل عمليّة “نصر من الله”، التي قام بها “أنصار الله” والقوّات المسلّحة اليمنيّة واحدةً من الأمثلة الأوضح على هذا النمط من الحروب، إذ إن قرب العمليّة من الحدود السعوديّة اليمنيّة الدوليّة، لم يمنع اليمنيين من إيهام قوات التحالف السعودي وألوية مرتزقتها بالقيام بتراجع تكتيكي من المنطقة. في إثر ذلك، كرّ السعوديّيون وحلفاؤهم خلف القوات المتراجعة ليقعوا في فخّ محكَم في وادي جبارة، حيث انقضّت على مؤخرة القوات المتقدّمة من كلا الجناحين قواتٌ يمنيّة لم يلاحظها لا الاستطلاع ولا الاستخبارات العسكريّة. نهاية العمليّة تكلّلت بإبادة عدّة ألوية مشاة، وإخراجها من الخدمة العسكريّة، قتلاً، وجرحاً، وأسراً، فضلاً عن إعطاب ـ وتدمير ـ المئات من الآليّات التي ظهرت أرتالها المحترقة في مقاطع الفيديو التي نشرها الإعلام الحربيّ اليمنيّ. 

عمليّاتٌ، بالتعقيد والضخامة هذين، لا تتطلّب فقط وجوداً مادياً للقوات بحجمٍ معيّن، بل تتطلّب مستوىً عالياً من التنسيق والاحترافية في تحريك القطع العسكريّة والكتائب، فضلاً عن قدرة عاليّة على إخفاء هذه القوّات عن أعين استطلاع العدوّ واستخباراته. هذه الأعمال العسكريّة كلّها تجري  في ظلّ سيطرة جويّة لا لبس فيها من التحالف السعوديّ الأميركي. في المحصّلة، من الصعب للغاية على تنظيمات غير خبيرة، أو تنظيمات حرب عصابات، القيام بها. من هذه الناحيّة، يظهر تفوّقٌ واضح من أنصار الله والقوات المسلّحة اليمنية على القوات السعوديّة التي يفترض بها أن تكون نظاميّة وحديثة، كما تعرّف عن نفسها. جانبٌ آخر من المعادلة كان فرض معادلات التوازن النوعي مع العدوّ الذي يقوم بقصف البنية المدنيّة للدولة اليمنيّة ويرتكب المجازر. تحقَّق ذلك الردع عبر ضرب أهداف حسّاسة واستراتيجية لدول العدوان، كمَرافق النفط، والمطارات الحربيّة، والمراكز العسكريّة، مع إيقاع عددٍ لا يُذكَر من الخسائر المدنيّة في الأرواح. هنا، يتصرّف اليمنييون المتَّهَمون بكونهم “انقلابيين” بأمانة مع أخلاقيات الحرب وقوانينها أكثر من التحالف المدعوم أميركياً، والذي يمارس سياسة العقاب الجماعي وقصف المدنيين بصورة متعمَّدة. فتستخدم الأسلحة الدقيقية، كالتوتشكا (OTR-21)، في ضرب قواعد العدو العسكريّة كما في صافر والمخا وقاعدة خميس مشيط الجوّية. في الأخيرة، صودِفَت إصابة قائد القوات الجوية السعوديّة محمد بن أحمد الشعلان بعد قصفها بأربعة أيام في حزيران/يونيو 2015 بسكتة قلبيّة أدت إلى وفاته في ظروف غامضة.

عن التماسك العسكري وعمليّة جازان الواسعة 

“في القتال ، يحارب الجنود من أجل رفاقهم. المجموعة الأوليّة تحفّز البشر. التماسك (Cohesion) هو روابط الثقة بين أعضاء مجموعة ما. هناك أربعة أنواع من التماسك: التماسك الأفقي بين الأقران؛ التماسك العمودي، من المرؤوس إلى القائد؛ التماسك التنظيمي داخل الجيش؛ التماسك المجتمعي بين الجيش والمجتمع. تقاتل الوحدات المتماسكة بصورة أفضل، وتعاني عدداً أقل من الخسائر، تتدرب على نحو أفضل، لا تتفكك، تتطلّب دعماً أقل، وتزوّد الأعضاء بنوعية حياة أفضل”.

التعليق الأخير هو من دليلٍ لقوّات البحريّة الأميركيّة من عام 2002، تتبدّى فيه أهميّة تماسك الوحدات العسكريّة على صعيد أدائها، وصعوبة تفكّكها عند تعرضها للهجوم أو للضغط بالنار. خلال الحرب في اليمن، ومنذ بدايتها، أظهرت القوّات السعوديّة تماسكاً وانضباطاً سيئين جداً، حتى في بداية الحرب، ناهيك بتراجعها التدريجي مع امتداد أمد الحرب. يعود ذلك إلى عوامل متعددة، على المستوى الفردي، لا يمكننا الحكم نظراً إلى غياب الدليل الحسّي على مستوى العلاقات بين الجنود، وهي قد تتأثر بالتبديلات الدوريّة المستمرّة، أو بمعدّل الخسائر العالي، فتصبح ضرورية الاستبدال. أمّا على مستوى العلاقة بين القادة والجيش، فالعلاقة سيئة للغاية، ويظهر ذلك من مقال للكاتب علي مراد، بعنوان “ابن سلمان بعيون ضبّاطه: هلكنا هذا الطفل!”. يروي المقال انهيار الروحية القتالية للجنود منذ الشهور الأولى للحرب وعدم إيمانهم بالنتيجة، لا بقضيّتها، ولا بابن سلمان نفسه، الذي يدير الحرب عبر تسريبات من المؤسسة العسكرية نفسها. 

في عمليّة جازان الواسعة الأخيرة، كان الأداء السعوديّ وانضباط جنوده فضائحيَّين. فعلى الرغم من أن عدداً من اللقطات تُظهر فرار مرتزقة من الجنسيتين اليمنية والسودانية، فإنه يظهر بينها بعضُ من يرتدون بزّات القوات البريّة السعوديّة وهم يفرّون من دون خوذهم، ولا أسلحتهم، أو حتى جعبهم. لن نخوض في تفاصيل تعقيدات القيام بعمليّة بالضخامة والسرعة هاتين، ولا صعوبة نقل القوّات الهجوميّة إلى الجبهة من دون ملاحظة العدو، هذا من ناحيّة القوات المسلحة اليمنية، إلاّ أن ذلك ليس مبرّراً بنفسه لانكسارٍ عسكري فضائحي كهذا للقوات السعوديّة. يتضمّن تدريب الجنود، منذ العصور القديمة، ليس فقط الصمود أطولَ وقت ممكن، بل أيضاً الانسحاب المنظَّم متى تطلّب الأمر ذلك، بسبب أن معظم خسائر المهزوم لا تقع ضمن المعركة نفسها، بل في أثناء عمليّة التقهقر. 

بالإضافة إلى ما سبق، غاب سلاح المدرّعات، على نحو كامل، عن الواجهة خلال هذه العمليّة. المدرّعة الوحيدة التي ظهرت كانت ناقلة جندٍ من طراز أم -113، إلى جانب العشرات من شاحنات التويوتا المدنيّة. خلال السنوات الماضيّة، كانت تجارب السعوديين في إدخال مدرّعاتهم كارثيّة، وأبدع اليمنيّون في تدميرها، إلى درجة قيامهم بتدمير مدرّعات كنديّة مدوبلة من طراز LAV-25 باستخدام بنادق قنص مضادّة للعتاد (AMR) من عيار 12.7، اخترق رصاصها مؤخرة برجها وأحرقها. بالإضافة إلى ما يطيب لليمنيين تسميته بالمنظومة الإستراتيجية، “ولّاعة”. على الرغم من ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، وفيه إجابة عن التساؤل المرتبط بالمستوى القتالي المتدنّي جداً للجنود السعوديين: ما سيكون موقف جنود أيّ جيشٍ متى سحب الجيش مدرّعاته وآلياته التي تكلّف الملايين إلى الخطوط الخلفية، ووضعهم في خطوط النار بلحمهم الحيّ “الأرخص”؟ في المقابل، يُظهر اليمنييون صلابة، وتماسكاً وانضباطاً عسكريَّين، أعلى كثيراً ممن يقاتلون، وممن تعرّفهم الأدبيات الغربية على أنهم “جيش نظامي حديث”. 

العربي القادر على الحرب والانتصار

تخلّل تاريخنا الحديث تعرُّضُ عدّة جيوشٍ عربيّة نظاميّة لعدد من الانتكاسات والهزائم، من هزيمة عام 1967، إلى الأداء السيئ في معظم الحروب اللاحقة، مع بعض الاستثناءات في بعض المواضع، كما في لبنان خلال الاجتياح الصهيوني عام 1982. نشأت، بالتوازي مع ذلك، ثقافة استشراقية من جهة الباحثين الغربيين تجاه المؤسسات العسكريّة العربيّة، وعنصريّة ذاتيّة عربيّة تتكلم على العربي الذي لا يجيد الحرب. على الرغم من أن تجارب المقاومة في بداياتها، من لبنان إلى فلسطين إلى اليمن، لم تقلّ في إبداعها عن المرحلة الحاليّة، فإن نقطة التحوّل في تغيير هذه الصورة النمطيّة للهزيمة وزرع الأمل في نفوسنا كعرب، لم تتأتَّ بصورة أساسية خلال مرحلة “حرب العصابات” ومرحلة “المقاومة الشعبية”، بعدما يحدث الأمر تحتلّ القوّات الصهيونيّة الأراضي العربيّة. هذه الحقبة التي أسّست للمرحلة الحاليّة، بكلّ تضحياتها وتراكماتها.

 ذلك حدث في لحظات تمكّنت حركات المقاومة -على تنوّع أشكالها – متقنةً فنون الحرب الحديثة، ومسلّحة بروحية عاليّة، وانضباط وتماسكٍ ممتازين، من إيقاف قوات العدوّ البرية في مكانها وردّها على أعقابها، من تموز/يوليو 2006، إلى غزّة 2014، وخلال العدوان المستمرّ على اليمن حتى يومنا هذا. 

كما يُظهر التاريخ أن أيّ هجوم مضادّ يتطلّب إيقاف العدوّ في مكانه بداية. تنطبق ذلك، على الصعيد الاستراتيجي، على حالة المنطقة بأسرها، كما على الصعيد التكتيكي، في حال تحدّثنا عن محاور العمليّات العسكريّة. والمستقبل خير نصير لمسارٍ تصاعديّ كهذا. 

قد يعجبك ايضا