باب المندب وغزة في حرب الجيوبوليتيك …

 

ليس بلا معنى ربط ميناء حيفا بما بات يعرف بالإبراهيمية السياسية والتعبير عنها اقتصادياً بمشروع ضخم للسكك الحديدية والطرق البرية بين الخليج وفلسطين المحتلة.

الجيوبوليتيك، حقل سياسيّ ازدهر كعلم مع نهايات القرن التاسع عشر على يد الألمان خصوصاً راتزل (فكرة المجال الحيوي)، وتطوّر هذا الحقل على يد البريطاني ماكندر وآخرين مثل سبيكمان، قبل أن يستعيده في الحرب الباردة، بريجنسكي، عقل الإمبريالية العالمية وتركيزه على فكرة “الهارت لاند” الروسي في المشروع الأوراسي، كما قدّمت مصر أسماء مهمة على هذا الصعيد مثل الرئيس جمال عبد الناصر (تقاطع فكرة الأمة مع المجال الحيوي)، وجمال حمدان في كتابه “شخصية مصر”، والصحافي محمد حسنين هيكل.

فيما يخص المنطقة، فالشرق العربي والإسلامي عالم من الجغرافيا السياسية بسبب الموقع الحسّاس لهذا الشرق في خارطة التجارة والحروب عبر التاريخ، وانعكاس ذلك على التركيبات والتحوّلات الاجتماعية والأيديولوجية، كما في حالات (نمط الإنتاج الآسيوي) والإيلافات التجارية والحربية وثقافة الغزو المرتبطة بها (مقاربات فكتور سحاب وسمير أمين)، وكذلك العديد من المشاريع السياسية التي عرفها القرن العشرون، مثل الهلال الخصيب وسوريا الكبرى وصولاً إلى المشاريع الأخيرة المرتبطة بحرب الموانئ والطرق التاريخية، مثل طريق الحرير والمشروع الأميركي المقابل، طريق الهند.

إلى ذلك، وفيما يخص الحرب الدائرة وظلال الجغرافيا السياسية لها، لا يمكن عزلها عن الإطلالة الواسعة للمنطقة كإقليم، من خلال مشاريع وتصوّرات سياسية ذات بعد استراتيجي، مثل القوس المصري – السوراقي (سوريا – العراق)، فعلى أرض هذا القوس تشكّلت واندثرت أمم كبرى، وارتبط كلّ ذلك بجغرافيات وممرات برية وبحرية مثل باب المندب وحيفا وغزة وعسقلان.

وليس بلا معنى هنا، الاهتمام الصهيوني والاستعماري بمنع هذا القوس من الاستكمال، سواء زمن محمد علي أو زمن جمال عبد الناصر (انفصال الوحدة السورية المصرية)، وتمزيق بديله السوراقي عبر سايكس بيكو ووعد بلفور، وشيطنة أيّ محاولة لتشكيل سوراقي موحّد (خطاب المقاومة) والتحريض عليه بوصفه هلالاً شيعياً فيما يتشكّل هلال إبراهيمي بين الخليج وحيفا المحتلة.

باب المندب وغزة في حرب الجيوبوليتيك

إضافة إلى المعطيات والتداعيات المعروفة لملحمة غزة في السابع من أكتوبر وما تبعها من عدوان صهيوني همجي على المدنيين، فإن معركة القوات المسلحة اليمنية حول باب المندب، والمقاومة في غزة، معركة في قلب الاستراتيجية لأكبر وأخطر تجلّيات هذه الحلقات في الشرق الأوسط:

– مشروع قناة بن غوريون – غزة (مشروع إسرائيلي).

–  مشروع نيوم السعودي.

– مشروع تحويل ميناء حيفا كميناء أساسي في الشرق الأوسط.

ابتداء، وفيما يخص تداعيات الموقف الشجاع للقوات المسلحة اليمنية حول باب المندب، من مفارقات ما يجري حالياً في البحر الأحمر وبحر العرب، أن تحتفظ الطرق الدولية للتجارة العالمية بمكانتها الاستراتيجية كما كانت قبل الميلاد على طريقي التوابل والبخور الهندية، وطريق الحرير الصيني.

الفارق البسيط هو أن صعوبة الملاحة القديمة في البحر الأحمر ولجوء القوافل إلى الطرق البرية الموازية، لم تعد كما كانت فصار بالإمكان استخدام البحر نفسه للملاحة والإبحار، كما نعرف أن حرب الموانئ منذ وقت عبّرت عن نفسها في استئجار وبناء أرصفة واسعة في العديد من موانئ البحر، من جيبوتي إلى بورسودان قبل التفرّع بين العقبة والسويس، ويشار هنا إلى أكثر من حيثية:

– إضافة إلى أهمية باب المندب كممرّ للتجارة الدولية، فهو ممرّ مهم على طريق الصين، ومدخل إلى بحر الصين والصراعات حوله.

– استخدام أنصار الله الاسم التاريخي لإيلات، وهو “أم الرشراش”، في البيانات العسكرية التي رافقت قصفها، وفي ذلك تأكيد الحق العربي فيها، وذلك علماً بأن أم الرشراش لم تكن ضمن الجزء العبري في قرار التقسيم، بل احتلتها العصابات الصهيونية وانتزعتها من الأردن لكسر الطابع العربي للبحر الأحمر تحضيراً للمشاريع الصهيونية البديلة عن قناة السويس.

– من الحيثيات الأخرى أن حرب الموانئ في البحر الأحمر قد تتحوّل إلى تصدّعات في قلب مجلس التعاون الخليجي، فالسعودية تعوّل كثيراً على مشروع نيوم وترصد له مبالغ كبيرة مقابل مشروع دبي.

مشروع نيوم

في التفاصيل الميدانية أعلن عن مدينة أو مشروع نيوم 2017 وتشكّلت لجنة لإدارته برئاسة أحد أركان منتدى دافوس (هيئة رأسمالية عالمية معروفة)، وهو كلاوس كلاينفيلد، ورصد للمشروع في إطار رؤية السعودية 2030 نصف ترليون دولار من صندوق الاستثمارات العامة وذلك للإنفاق على سلسلة مشاريع مثل: تقنيات النانو، التقنيات الحيوية والرقمية، الهندسة الحيوية والخلايا الجذعية، وغير ذلك من القطاعات الصناعية والتكنولوجية والإعلامية.. إلخ.

أما منطقة المشروع في مرحلتها الأولى، فتقع شمال الحجاز على البحر الأحمر، حيث تمتد من (البدع) إلى غرب تبوك والتي تعرف أيضا بالجزء الجنوبي من أرض مدين (أو مديان) التي تصل إلى مدينة الكرك الأردنية، وتشمل جبال السراة أو الشراة ووادي عربة وجنوب البحر الميت والعقبة.

يشار هنا إلى أن المنطقة الأردنية المذكورة قد تكون مشمولة في المرحلة التالية من مشروع نيوم وفق تصريح لمفوض العقبة السابق (جريدة الغد الأردنية 25/3/2018، والمدينة نيوز 27/10/2017)، كما يشار إلى ارتباط ذلك بأفكار سابقة لشمعون بيريز حول وادي السلام.

أما ما وراء التفاصيل، فثمة معطيات تؤشّر على مقاربات سياسية لها علاقة بما يسمى الشرق الأوسط الجديد كما ورد في كتاب شمعون بيريز وفي الاتفاقيات الإبراهيمية:

1- إن الاسم نفسه محلّ روايات عديدة متضاربة، من ربطه بالمفردة الشائعة في الخطاب التوراتي (نعوم)، التي ربطت بدورها بما سمّي خروج بني “إسرائيل” من مصر واستقرارهم في هذه المنطقة كنعمة إلهية، ومن الروايات الأخرى الرواية السعودية التي تذهب إلى أن الكلمة مركّبة من الإنكليزية والعربية معاً، نيو ومستقبل (حرف الميم).

2- تقاطع منطقة المشروع في مراحله التالية مع قناة بن غوريون من جهة، ومع شبكة الطرق والمصالح الخليجية من جهة ثانية، كما نعرف أن منطقة الشمال الصحراوي، أي البادية الشرقية الأردنية، مرشحة لبناء عدة مدن صحراوية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين.

3- إن المشروع انعكاس لاستراتيجيات الرأسمالية العالمية فيما يخصّ السوق المالي وموقعه في النظام المالي والنقدي للرأسمالية الإنكلوسكسونية، فبعد هونغ كونغ واستعادتها من قبل الصين، اخترعت المتروبولات الإنكلوسكسونية جزيرة سنغافورة ثم دبي التي احتفظت بأهميتها داخل هذا النظام رغم محاولات موانئ أخرى في الخليج مثل البحرين والكويت.

أما نيوم التي تنطوي على مجالات أوسع فقد تتحوّل بسبب وقوعها على الجانب البحري الآخر، البحر الأحمر، إلى منافس استراتيجي قد ينعكس سلباً على مجلس التعاون الخليجي الذي بالكاد يحافظ على تماسكه في ضوء التباينات بين أطرافه، من سلطنة عمان إلى قطر والكويت.

ومن الواضح أن سيطرة أنصار الله في اليمن على المجال الحيوي لباب المندب لا تعجب السعودية، التي ترى في ذلك تأثيرات استراتيجية على مشروع نيوم، وبالمثل تأثيرات ذلك على محاولات إحياء طريق الهند الشرقية، وهو المشروع الذي أعلنه الرئيس الأميركي بايدن من الرياض.

4- إن أكبر شركاء المشروع، هو شركة “بكتل” الأميركية المتعددة الأغراض (هندسة، طرق، مطارات، صناعة طائرات وسفن، نفط، مشاريع نووية.. إلخ)، والأهم أن هذه الشركة بالذات كانت الشريك الأكبر لواشنطن في معظم غزواتها ونهبها للعالم بما في ذلك تدمير العراق، كما هو معروف أن العديد من ممثّلي هذه الشركة تولّوا مناصب أساسية في الإدارات الأميركية المختلفة، مثل عائلة بوش ووزراء دفاع مثل واينبيرغر وشولتز.

5- تقاطع منطقة المشروع مع أفكار لمستشرقين وإنثروبولوجيين ورجال آثار يهود تابعين لصندوق اكتشاف فلسطين البريطاني الصهيوني، ومن هؤلاء بول فريدمان صاحب أول مستوطنة هناك وصاحب كتاب (أرض مدين) الذي صدر في أواخر القرن التاسع عشر، ودعا فيه إلى إقامة مستوطنات يهودية بين شمال الحجاز وجنوب الأردن، كما دعا إلى شقّ قنوات تربط البحرين، الأحمر والميت مع البحر المتوسط عبر ممر قريب من غزة، كما سنرى.

يشار كذلك إلى دراسات حاولت الربط بين المنطقة المذكورة وبين ما قالت إنه المكان الذي استقرّ فيه اليهود بعد خروجهم من مصر، مع تحوير لأسماء مناطق وجبال مثل جبل الطور الذي قالت إنه جبل اللوز (دراسة للباحث الأميركي رون وايت).

من اللافت أيضاً تقاطع المشروع مع أفكار إسرائيلية ازدهرت بعد كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة تحت عنوان (طريقا إبراهيم وموسى)، الأول استدعى تحطيم العراق ثم محاولة تحطيم سوريا واختراع عناوين بديلة لذلك مثل كونفدرالية الأراضي المقدّسة، والثاني طريق موسى الذي يربط الخروج بمنطقة نيوم مع جنوب الأردن.

قناة بن غوريون – غزة بديلة لقناة السويس

منذ تدشين قناة السويس 1869 ودور ذلك في الانقلاب البحري الكبير على مستوى العالم، فيما يخصّ التجارة وحروب التدخّل العالمية وإضعاف رأس الرجاء الصالح والطرق البرية الآسيوية الشمالية، والقناة في قلب المقاربات الاستراتيجية الدولية وقواعدها في اتفاقية القسطنطينية عام 1888، بل إنّ وعد بلفور نفسه كان من تداعيات ذلك.

وبالرغم من اتفاقيات مثل كامب ديفيد، إلا أن العدو الصهيوني لم يكفّ عن القلق بل الخوف من مصر التاريخية العميقة والقوس المصري – السوراقي في العقل الجمعي العربي كما تجلّى في مشروعي محمد علي وجمال عبد الناصر.

ولم تتوقّف المحاولات الصهيونية عن شقّ قناة بديلة للسويس تربط البحار الثلاثة: الأحمر، الميت، المتوسط، مع طرق برية وخطوط أنابيب للنفط والغاز الخليجي، ومطارات وبنى اقتصادية وسياحية.

بدأت المحاولات الأولى قبل إنشاء الكيان الصهيوني بعقود، بل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر سواء من جهات وأوساط ترغب في التخلّص من اليهود ونقلهم إلى الشرق، أو من جهات صهيونية.

من مفارقات ذلك ومن تداعيات الحملة الفرنسية واهتمام بونابرت بالمسألة اليهودية وتوظيف اليهود في كيان شرق السويس، أن الفيلسوف الفرنسي المتهم بالعداء للسامية، شارل فورييه (1772-1837)، من أوائل الذي فكّروا في شقّ هذه القناة وإسكان يهود أوروبا حولها، وتكرّرت هذه الأفكار في الوسط البريطاني بشكل خاص كما في مشروع وليم ألين 1855، وما ورد في جريدة المقتطف المصرية عام 1878 (جريدة مدعومة من بريطانيا)، ثم مع الصهيوني بول فريدمان المشار إليه.

وستمرّ عقود طويلة قبل أن يعيد هرتزل طرح أفكار كهذه شكّلت لاحقاً أساس الفكرة المعروفة بقناة بن غوريون، بالتزامن مع العدوان الثلاثي على مصر عام 1954، وقد أعيد النقاش حولها مجدداً عام 1963 في مذكّرة أميركية سرية، ثم بعد أوسلو ووادي عربة وخاصة عبر شمعون بيريز في كلمة ألقاها في قمة عمّان الاقتصادية عام 1995، كما في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، وأخيراً في مقال حديث جداً لـ شارلوت دينيت في مجلة “كاونتر بنش أورغ” (جريدة الغد الأردنية 2/1/2024).

ميناء حيفا

ويتطلّب اعتماده وتطويره كميناء أساسي للشرق الأوسط الإبراهيمي إضعاف دور قناة السويس وضرب التجارة الدولية البرية عن طريق سوريا – لبنان، مما يثير الشبهات حول دور العدو الصهيوني في تفجير ميناء بيروت وفي توتير العلاقات على الحدود السورية الأردنية تحت ذرائع مختلفة.

وليس بلا معنى ربط هذا الميناء بما بات يعرف بالإبراهيمية السياسية والتعبير عنها اقتصادياً بمشروع ضخم للسكك الحديدية والطرق البرية بين الخليج وفلسطين المحتلة، كما ازدادت أهمية هذا الميناء بعد الحديث الأميركي عن مشروع طريق الهند كمشروع منافس لطريق الحرير الصيني.

ومن هنا نفهم أيضاً خطورة مشروع قناة بن غوريون (البحر الميت – غزة)، ونفهم بالمحصّلة الأهمية الاستراتيجية لمعركتي غزة وباب المندب في مواجهة المشاريع السابقة.

موفق محادين

كاتب ومحلل سياسي أردني
قد يعجبك ايضا