بتصدّيه للغطرسة الأمريكية.. اليمن يرسي معادلة استراتيجية جديدة في البحر الأحمر

اليمن بموقعه الجيوسياسي وتحكّمه بباب المندب وإطلالته على البحر الأحمر؛ يشكّل معادلة أرست قواعدها الحرب على غزّة، حيث باتت القوّات اليمنية تتحكّم بمرور السّفن التّجارية في البحر الأحمر ولم يعد البحر الأحمر تحت هيمنة القوّات الأمريكية وقواعدها المنتشرة في المنطقة، ورغم قيام التحالف الأمريكي بشنّ هجماته على القوّات اليمنية وبدلاً من خفض هجماتهم في البحر الأحمر وخليج عدن إثر الضّربات التي استهدفتهم، استمرّ الحوثيون في تحدّي واشنطن ولندن، موسّعين هجماتهم باستهداف سفن أمريكية وبريطانية بعد أن كانت مقتصرة على السّفن المرتبطة بالكيان الإسرائيلي.

منذ نحو ثلاثة أسابيع، تواصل الولايات المتّحدة وحلفاؤها تنفيذ ضربات على مواقع للحوثيين في اليمن، ردًّا على هجماتهم المستمرّة ضدّ السفن المرتبطة بـ”إسرائيل” في البحر الأحمر وخليج عدن. ورغم أنّ هذه الضّربات التي استهدفت مواقع مختلفة في عدّة محافظات، تهدف إلى ردع الحوثيين بغية وقف عملياتهم العسكرية في البحر الأحمر وخليج عدن، إلا أنّها لم توقف عمليات الجيش اليمني الذي يشدّد على ثبات موقفه حتى “وقف العدوان الإسرائيلي على غزّة”.

وتضامنًا مع غزّة التي تتعرّض منذ السّابع من شهر أكتوبر 2023، لحرب إبادة جماعية على يد قوّات الاحتلال الصّهيوني بدعم أمريكي، يستهدف الحوثيون بصواريخ ومسيّرات سفن شحن مرتبطة بـ”إسرائيل” في البحر الأحمر، ما أثّر سلبًا على حركة الشّحن والتّجارة والإمداد. ودخلت التّوترات في البحر الأحمر مرحلة تصعيد لافت منذ استهداف الحوثيين المباشر في 9 جانفي الماضي، سفينة أمريكية، بعد أن كانوا يستهدفون في إطار التّضامن مع قطاع غزّة سفن شحن تملكها أو تشغّلها شركات “إسرائيلية”، أو تنقل بضائع من وإلى “إسرائيل”.

وفي آخر استهدافاتها لـ”إسرائيل” والسّفن المتّجهة إليها، أعلن الجيش اليمني مطلع شهر فيفري الحالي، أنّه نفّذ عملية عسكرية ضدّ أهداف جنوبي فلسطين المحتلّة بـ “صواريخ باليستية”، بينما ذكر في 2 من الشّهر الجاري أنّه استهدف سفينة تجارية بريطانية في البحر الأحمر كانت متّجهة إلى موانئ “إسرائيل”.

الجيش الأمريكي بحسب تصريحات مسؤوليه يخوض أكبر معركة بحرية منذ الحرب العالمية الثّانية مع الجيش اليمني في البحر الأحمر، إذ قال نائب قائد القوّات الأمريكية في الشّرق الأوسط، وقائد الأسطول الأمريكي الخامس، في تصريحات لشبكة “سي بي إس” براد كوبر، “إنّ المواجهة مع اليمنيين هي أكبر معركة بحرية تخوضها الولايات المتّحدة منذ الحرب العالمية الثّانية”.

ورداً على سؤال يتعلق بـ “متى كانت آخر مرّة عملت فيها البحرية الأمريكية بهذه الوتيرة؟” أجاب قائد الأسطول الخامس ونائب قائد القيادة المركزية الأمريكية بأنّ “ذلك يعود إلى الحرب العالمية الثّانية، حيث هناك الآن سفن تشارك في القتال، ويتمّ تبادل إطلاق النّار”. وأضاف كوبر أنّ “الحوثيين هم الكيان الأول على الإطلاق في تاريخ العالم الذي استخدم الصّواريخ الباليستية المضادة للسّفن، وأطلقها ضدّ السّفن”. وتابع: “لم يستخدم أحد مطلقا صاروخا باليستيا مضادا للسّفن، وبالتّأكيد ضدّ السّفن التّجارية، ناهيك عن السّفن البحرية الأمريكية”.

رئيس المجلس السياسي الأعلى اليمني، مهدي المشّاط، ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في تصريحاته التي أطلقها قبل يومين، عندما قال “أمريكا تتدخّل لدعم “إسرائيل”، ونحن نتدخّل لدعم أشقائنا في قطاع غزّة”، وطالب واشنطن رسميا “بتسليم قتلة الجنود اليمنيين الشّهداء العشرة”، وأكّد أنّ “حكومة صنعاء مستمرّة في سياساتها وهجماتها لدعم الأشقاء في قطاع غزّة من خلال إغلاق البحر الأحمر في وجه السّفن “الإسرائيلية”، والأخرى الحاملة لبضائع إلى موانئ الاحتلال الصهيوني حتى يتمّ رفع الحصار ووقف حرب الإبادة في قطاع غزّة”.

وفي جديد المواقف، أصدر رئيس المجلس السّياسي الأعلى في اليمن، مهدي المشّاط، قرارا يصنّف الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا دولتين معاديتين، وفقاً لما نقلته وكالة “سبأ” اليمنية، وينصّ القرار على تصنيف واشنطن ولندن معاديتين لصنعاء، كونهما داعمتين وحاميتين وراعيتين لكيان الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى أنّهما مشاركتان في جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال بحقّ الشّعب الفلسطيني.

ويتضمّن القرار أيضا على تعامل صنعاء مع واشنطن ولندن وفقا لمبدأ المواجهة، بينما يتولّى مركز تنسيق العمليات الإنسانية “HOCC” اتخاذ الإجراءات والتّدابير اللازمة من أجل تنفيذ التّصنيف، كما تتولّى أجهزة الأمن المختصّة مواجهة أنشطة الدّولتين داخل اليمن، بالتّنسيق مع الجهات ذات العلاقة.

يُذكَر أنّ الولايات المتحدة الأمريكية، أدرجت حركة أنصار الله اليمنية “منظمةً إرهابيةً عالميةً”، في الـ 17 من جانفي الماضي، ودخل هذا التّصنيف حيّز التنفيذ قبل يومين. وفي أعقاب إعلان واشنطن دخول التّصنيف حيّز التّنفيذ، ردّ المتحدث باسم أنصار الله، محمد عبد السّلام، على الأمريكيين، مؤكدا أنّهم يريدون من هذا القرار “الإضرار باليمن، دعما لـ”إسرائيل”، وتشجيعا لها على مواصلة حرب الإبادة الجماعية ضدّ الشّعب الفلسطيني في قطاع غزّة”.

هذه الغطرسة الأمريكية وجدت أخيرًا من يتصدّى لها ويمرّغ أنف أمريكا وحلفائها في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، هذا الموقف اليمني بمثابة رسالة لكلّ العرب أنّه بمقدورهم التصدّي للغطرسة الأمريكية إذا توفّرت الإرادة الوطنية والقرار السّيادي وأنّ حربها ضدّ اليمن حرب خاسرة وربّما لا تستطيع الخروج منها إلا وهي مهزومة لتجرّ خيبات دعمها ومساندتها لـ”إسرائيل” واليمن برجاله وتضاريسه وجغرافيته كان عصيًا على كلّ الغزاة عبر الأزمنة والعصور.

الإدارة الأمريكية تعيش في مأزق نتيجة دعمها لحليفتها “إسرائيل” بعد أن حاولت تجنّبه في ذروة الحرب اليمنية التي استمرت 8 سنوات، من خلال تصحيح خطئها الكارثي، وسحب اسم حركة “أنصار الله” اليمنية من قائمة الإرهاب، لتعود وتدرج “أنصار الله” على لوائح الإرهاب الأمريكية، وهذا من شأنه عدم استقرار المنطقة، بخاصة أنّ “إسرائيل”، كما تؤكّد في سرديتها الأمنية والسّياسية والجيوإستراتيجية، أنّها من دول البحر الأحمر، ولها حضور لافت من خلال ميناء إيلات التّجاري والعسكري، حيث يبلغ طول السّاحل “الإسرائيلي” على البحر الأحمر عشرة كيلومترات تمتدّ عليها مدينة إيلات الصّناعية والتّجارية والسّياحية ما يجعل من هذه المدينة مركزا ترفيهيا ومنتجعا شتويا ينافس شرم الشيخ، نظرا إلى وجود شاطئ مرجاني ومنشآت للرّياضة البحرية، ويتلقّى ميناؤها النّفط عبر الأنابيب إلى مصفاة حيفا.

الأمر الذي يؤكّد أنّ الوجود العربي هو الأساس في إطار هذه المنظومة من التطورات المفصلية في البحر الأحمر، لاعتبارات متعدّدة وتداخل المصالح العربية الإقليمية والعربية الدّولية، وسيظلّ عنوان البحر الأحمر من الآن فصاعداً هو “عدم الاستقرار”، ليس بسبب الحرب الدّائرة في غزّة، وارتدادات ما يجري، إنّما أيضا لتوجّهات بعض الدّول، فمن جيبوتي عبر البحر الأحمر إلى البحر المتوسط، هناك توسّع في الاستثمار بالبنية التّحتية لمبادرة الحزام والطّريق إلى جانب الوجود العسكري الصّيني، مع وجود قوى أخرى أكثر نشاطا أيضا، والتوسّع الكبير الذي قامت به مصر لقاعدة “برنيس” البحرية.

وإلى الجنوب، تطوّرت الموانئ في السّودان أيضا في سياق الجغرافيا السّياسية للمنطقة، لا سيما إعادة تأهيل الصّين وتوسيعها لمحطة حاويات بورتسودان، التي أصبحت الآن جزءا من مبادرة الحزام والطّريق، كما أصبحت منطقة البحر الأحمر ممرّا، ونقطة التقاء لعديد من كابلات الاتصالات العابرة للقارات عبر البحار.

ووفق كلّ ذلك لم يعد البحر الأحمر منطقة مستقرّة آمنة، ولم يعد يخضع للسّيطرة والهيمنة الأمريكية الغربية، بل بات مدخل لصّراعات قد تجري أو تحدث جراء استمرار الصّراع الرّاهن في حرب غزّة، وما يؤكّد هذا أنّ خيار التّصعيد والعسكرة سيظلّ مطروحا بقوة في المدى المنظور، بخاصّة أنّ تشابك المصالح الكبرى سيكون عنوانا لما سيجري، بخاصّة في منطقة مضيق باب المندب، الذي يمثّل المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وفي اتّجاه المحيط الهندي وبحر العرب، على حدود 3 دول، وهي: اليمن وجيبوتي وإريتريا، ويفصل عمليا بين قارتي آسيا وإفريقيا، وهو يستمدّ أهميته الاستراتيجية كونه المنفذ الوحيد الذي يتحكّم تماما في البحر الأحمر من النّاحيتين العسكرية والتّجارية.

وفي ظلّ تحرّكات الولايات المتّحدة، التي تقود سباقا دوليا كبيرا من أجل تغيير الجغرافيا السّياسية للبحر الأحمر في ظلّ التّنافس الإقليمي والدّولي، للسّيطرة على الممر المائي الاستراتيجي، وهو ما يؤكّده إعلان الولايات المتّحدة عن تدشين التّحالف البحري لحماية الملاحة والسّفن التّجارية في البحر الأحمر، وجاء ذلك إثر قيام “أنصار الله” في اليمن بشنّ هجمات صاروخية، وبمسيرات في مسعى لاستهداف السّفن، التي تمرّ عبر مضيق باب المندب. 

 

بقلم: علي أبو حبله – محام فلسطيني- الأيام نيوز

قد يعجبك ايضا