حول خصائص منهج الشهيد القائد: الدين كمسؤولية

 

مقدمة لا بد منها:

معظمُ الخِطابِ الذي يهاجِمُ مشروعَ السيد حسين بدر الدين الحوثي لا يتناوَلُ الأفكارَ والأدبياتِ الفعليةَ للمشروع، بل يندفعُ من عصبيات عدائية مسبقة، إما مذهبية وطائفية، كما هو الحالُ مع الوهَّـابيين والإخوان الذين يتهمون الرجل بأنه “اثنا عشري” و”مُدَّعٍ للنبوة”.. هكذا لمُجَـرّد التشويه، وبدون الاستناد إلى أي أَسَاس، أَو عصبيات “سياسية” وهذه تأتي كَثيراً مقنَّعةً بشعارات “الحداثة والتقدم”، لكنها في الحقيقَة سياسيةٌ؛ لأَنَّ أصحابَها قد يستخدمون لُغةً “عِرقيةً” أَو ينطلقون من قاعدة أن الخطاب الديني نفسه ليس صالحاً كمشروع جامع، لكنهم مستعدون في الوقت ذاته للقبول بخطاب ديني آخر، بل ومتطرف، والتواطؤ مع كيانات سُلالية فعلاً، تحت مبرّر “المصلحة العليا”، وبالتالي فهي عصبية سياسية. وفي المجمل تجد أن هؤلاء وأُولئك يستكثرون على الرجل أن يكون له “رأيٌ آخر” بالمرة، ناهيك عن أن تتم مناقشةُ هذا الرأي ومعارضته بشكل واقعي وموضوعي.

 

 إعادةُ تعريفِ الانتماء للإسلام

عند الحديث عن مشروع السيد حسين الحوثي، أول نقطة يجب تثبيتها هي أن الرجلَ كان يخاطِبُ مجتمعاً مسلماً، والحقيقةُ أن تجاهُلَ هذا الانتماء في أي مشروع ثقافي وفكري وتوعوي موجَّهٍ للشعب اليمني، هو أمرٌ غير واقعي، ومحاولةٌ بائسة لإلغاء مكون جوهري من مكونات هُــوِيَّة شعب كامل، أَو اختزال هذا الشعب كله في فئةٍ بسيطةٍ جِـدًّا من أُولئك الذين يحاولون “عولمة” أنفسهم، أَو بالأصح “تغريبها”، إلى درجة الانفصال عن طبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه.

يجادلُ بعضُهم بأن الإسلامَ لا يحتوي على خطوطٍ عريضةٍ كافيةٍ لتشكيلِ مشروعِ حياةٍ شامل وعملي ومجمع عليه، وهذه الفكرةُ كانت في مرحلةٍ معينةٍ من “البُكائيات” التي تُستخدَمُ عند الحديث عن نتائج الانقسام الطائفي والمذهبي، لكنها فيما بعد غُلِّفَت بشكل مريبٍ كحقيقة ثابتة أُلصقت بالإسلام نفسه، ثم تم استخدامُها بعنجهيةٍ من قبل كثير من “المثقفين”، حتى أن جزءاً كبيراً من جمهور الإسلام بات يصدّقها ويتواطأُ معها، على الرغم من أن نصوص القرآن تعارضُها، بل وتؤكّـد على أن الدين لا يمكن أن يكون إلا مشروعَ حياة جامعاً وشاملاً.

ومن أهمِّ ركائز خطاب السيد حسين بدر الدين، في رأيي، أنه أعاد تقديمَ قضية “الانتماء” للإسلام كأمرٍ حسَّاسٍ وبالغِ الخطورة من حَيثُ المسؤولية، وخَاصَّة في التعامل مع القرآن. وبعبارة أوضح وأبسط: إذَا كنت مسلماً فهذا يعني أنك تصدق، وبدون أي تشكك، كُـلّ ما يقوله الله، وبالتالي لا يوجد أمامك أي عذر لعدم تطبيق تعليماته كلها، وإلا لن تكونَ صادقاً في انتمائك، وهو ما سيعرِّضُك للعقاب بدون شك.

أقولُ: إن هذه النقطةَ كانت أهمَّ ركائز خطاب السيد الشهيد؛ لأَنَّها –باعتقادي- مثّلت الزاوية الرئيسية للنظرة المتميزة التي تجاوزت/ ردمت الفجوات بين المنهج والجماهير، بما في ذلك فجوة التفرق المذهبي والطائفي؛ لأَنَّ بيانَ حساسية وخطورة مسألة التعامل مع الكتاب المقدس، يخلق انتباهاً عاليًا عند قراءة نصوصه، وعندما يكون هناك شعور بمسؤولية شخصية وجماعية ملحة تتطلب تحَرّكًا عمليًّا لتطبيق التعليمات الإلهية، تصبح الآيات القرآنية واضحة جِـدًّا، ويتبين أن المعنى الأَسَاسي للآيات لم يكن أبداً مبهماً، وبالذات الآيات المتعلقة بالتوجيهات والتحذيرات.

بالتالي فَـإنَّ هناك بالفعل خطوطاً عريضة كافية لتكون منهجاً قابلاً للتطبيق بشكل جماعي، بل نستطيع القول الآن: إن معظمَ “الاختلافات” حول “معاني” القرآن لم تكن في الواقع سوى أعذار غير مباشرة للتهرب من تطبيق تعليماته الواضحة، وقد تضمنت محاضرات “دروس من هدي القرآن” تشريحاً موضوعياً وواقعياً لقضية الخلافات بين التيارات الإسلامية، ونتائجها الكارثية وأبعادها، وجدواها أَيْـضاً، مع مكاشفات صريحة للجميع، بما في ذلك المذهب الزيدي الذي ينتمي إليه السيد نفسه.

 

“الواقعُ” و “الصراعُ” في المعادلة الرئيسية للدين

لم يقدم السيدُ حسين بدر الدين “تفسيراً” مختلفاً للقرآن، وبالتأكيد لم يقدم قرآنًا جديدًا، لقد قرأ على الناس الآياتِ نفسَها ولكن بوصفها مسؤولياتٍ رئيسيةً ومهمةً في حياة الفرد والأمة، ولا مجالَ للتهرب منها إلَّا بالخروج عن الدين تماماً، أَو تعمد البقاء في حالة “النفاق”.. ثم اتّجه لتسليط الضوء على الجوانب التطبيقية لهذه المسؤوليات، وهذه هي الركيزة الرئيسية الأُخرى لخطابه المتميز، كما سنوضح الآن.

فلسفياً، يتمحورُ الدينُ كُلُّهُ حول العلاقة بين الله والإنسان والكون، والنظرة غير المسؤولة للدين تفسد هذه العلاقة، فقد يُلغى الكون (الواقع) من المعادلة؛ بسَببِ هذه النظرة، ويتحول الدينُ إلى مواعظَ ومشاعرَ داخلية فقط، أَو قد يحاول الإنسان لعب دور “الله”، أَو ينفصل عنه، وفي كُـلّ الحالات ستنعكس صورة اختلال هذه العلاقة على الواقع.

لكن منهجيةَ “المشروع القرآني” ومن خلال تقديم تعاليم الدين كمسؤوليات حساسة وغير خاضعة للمزاج، تستعيد توازن هذه العلاقة، وفي رأيي أن من أهمَّ ما تميز به فكرُ السيد حسين بدر الدين الحوثي، في هذا الجانب، إعادةُ “الواقع” إلى موضعه المهم في المعادلة الرئيسية للدين، وذلك من خلال التذكير بأولوية المسؤوليات “الجماعية” التي تتعلق بالأمة ككيان واحد مصالحه الأمنية والسياسية والاقتصادية مشتركة، ويمكن القول إن السيد الشهيد قد تفرد بتسليطِ الضوء على جانبٍ بالغِ الأهميّة يتعلق مباشرة بمعظم هذه المسؤوليات المهمة في الإسلام، وهو جانب: الصراع/ الجهاد.

إن تقديمَ الصراع في الإسلام كموضوع جدلي، أَو نقطة شائكة، كان أحد أبرز النتائج السلبية لإزالة المسؤولية الجماعية عن التعامل مع الخطاب المقدس؛ لأَنَّ الصراعَ الشاملَ بين الحق والباطل، كان دائماً من أبرز القضايا المحورية التي تناولها الدين، انسجاماً مع كون هذا الصراع في الأصل فطري، ومن الغريب أن تشويه النظرة الدينية للصراع، يأتي غالبًا من قبل أُولئك المنبهرين بما يسمى “الحداثة”؛ لأَنَّ هذه الأخيرةَ وُلدت في الأصل من رحم صراعات. (يقول “إدوارد ترياكيان”: إن “الحروبَ بطبيعة الحال هي التي افتتحت واقعَ الأمر عصرنا الحديث، وأصبحت مبجلةً في الذاكرة الجماعية؛ باعتبَارها طليعةَ الحداثة”).

مفاهيمُ دينيةٌ مثل “الجهاد” و”إعداد القوة” وَ”وحدة الصف” على الرغم من وضوحها، ووضوح سياق الصراع الهُــوِيَّاتي والوجودي الذي جاءت ضمنه في النصوص القرآنية، كانت قد فقدت قيمتها وانحصرت إما في معان ذات تأثير محدود جِـدًّا، يكاد يكون فردياً، أَو في معانٍ منعدمة التأثير تماماً، ترف وعظي، لا تخلقُ أي دافع ملح للتحَرّك والعمل، والأخطر من ذلك، أن بعضَ هذه المفاهيم كان قد وظّف بشكل عكسي، ضد الدين نفسه وضد الجماهير الإسلامية.

وتأتي فرادة السيد حسين بدر الدين الحوثي في إعادة المعاني “الواقعية” إلى هذه المفاهيم، من خلال عدة سمات تميز بها خطابه، أبرزها الإسقاط المكثّـف للنصوص القرآنية المتعلقة بالمسؤوليات الجماعية على تفاصيل الشأن العام للمنطقة الإسلامية، وهو أمر لم يكن مألوفا من قبل، أَو على الأقل ليس بذلك الشكل الذي يمكن معه بالفعل أن تُقرأ الأخبار والمعلومات وتحلل من زاوية قرآنية شديدة الوضوح، بل ومدهشة في انسجامها مع الواقع، حَيثُ أصبحت الحيوية تنبعث من النص نفسه، وبدون حاجة إلى كثير من الشرح، وهذه هي الحالة الأصلية للنص القرآني، فالصراع الذي يتحدث عنه القرآن لا يدور على مسافة قرون في الماضي، أَو في المستقبل، بل هو مستمر دائماً، وعلى الجميع تسجيل موقف فيه.

هذا هو منطق القرآن عندما يتم قراءته؛ باعتبَاره موجها بشكل مباشر لمن يقرأه، وباعتبار جميع أبناء الإسلام مسؤولين عن أخذه بأقصى جدية ممكنة.

وقد كان الواقع الذي فتح الشهيد القائد عليه هذه النافذة بائسا جِـدًّا، لكن بؤسه كله يتمحور حول “الصراع” الذي تحدث عنه القرآن باستفاضة، وبالتالي فقد كان الميدان غنياً جِـدًّا بالشواهد الصريحة على الآيات المتعلقة بالمسؤوليات الجماعية، والتي أفرغت من معانيها لفترة طويلة، واستطاع السيدُ حسين بدر الدين أن يربطَ ببصيرةٍ نافذةٍ الكثيرَ من تفاصيل الواقع بتفاصيل الخطاب القرآني، فعادت الحيويةُ إلى مفاهيمَ مهمةٍ كثيرة كالولاية، والعمل الجهادي، والثقة بالله، وغيرها، وتبلورت من خلال ذلك أول رؤية دقيقة، معتمدة على القرآن بالكامل، لإصلاح وضع البلدان الإسلامية، سياسيًّا وعسكريًّا وأمنيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، من منطلق تحديد الأعداء الذين تسببوا بتدهور هذا الوضع، وتحمل مسؤولية “مواجهتهم”، وليس من منطلق تنظيري أَو وعظي، وسرعان ما قاد السيدُ بنفسه أولَ شرارات تلك المواجهة ليثبت مدى واقعية وإمْكَانية تطبيق هذه الرؤية وفاعليتها.

وإذ نصلُ إلى هذه النقطة، فَـإنَّ من الضروري الإشارة إلى أن منهج السيد حسين بدر الدين الحوثي لم يقتصر على محاضراته ودروسه، فمن ضمن النقاط التي أعاد إحياء حيويتها ومركزها الحساس جِـدًّا والضروري في الدين، مسألة القيادة، والحديث يطول عن ذلك، لكن ما أريدُ الإشارة إليه هنا هو أن رؤيته الفريدة اكتملت بسلوكه العملي ومواقفه التي لم تتناقض مع فكره، في اختبار “التطبيق” الذي يسقط فيه العديد من المنظرين والزعماء المزيفين، والجماهير العربية والإسلامية بالذات قد عانت كَثيراً من الفجوات بين النظريات والواقع، حتى بات الحديث عن أمور مثل “إصلاح واقع الأُمَّــة” مُجَـرّد شعار، نظرية، وأعتقد أن قيامَ السيد حسين بإثبات “إمْكَانية” تطبيق مثل هذا الأمر عمليًّا، بل وفي ظروف صعبة، يعتبر ركيزةً أُخرى من الركائز الرئيسية لمشروع المسيرة القرآنية.

ختامًا، الحديثُ عن المشروع القرآني ومميزاتِه الفريدة، يحتاجُ إلى أكثرَ بكثير من هذه السطور، وأريدُ أن أعودَ إلى المقدمة التي كان لا بُـدَّ منها، لأقول: إن خصائصَ فكر الشهيد السيد حسين بدر الدين وأدبياته إن تمَّت قراءتُها بموضوعيةٍ في إطار طبيعتها الدينية، وبدون تعصُّبٍ مسبق، سيكون من الإنصافِ الإقرارُ بأن الرجلَ قدم أهمَّ مشروع عملي جامع منسجم بالكامل مع الهُــوِيَّة الإسلامية ويلبي كُـلَّ متطلبات تغيير واقع العالم الإسلامي إلى الأفضل، بل إنه يرسُمُ طريقاً إنسانياً نحو الحرية، لمن هم حتى خارجَ نطاق الخصوصية “الإسلامية”؛ لأَنَّ الإسلامَ بطبيعته منسجمٌ مع القيم الإنسانية التي فشلت كُـلّ النظريات الأُخرى في الإتيان بمشروع حياة صالح يحافظ عليها.

 

صحيفة المسيرة

قد يعجبك ايضا