علاقة الإدارة الأمريكية بتصريحات برنامج الأغذية العالمي ضد حكومة صنعاء

يرسل عدوك الباغي مجموعة مسلحة لاقتحام واستباحة منزلك، فتستبسل مع إخوانك وأبنائك مدافعين لتخوضوا معركة ’’نكون أو لا نكون‘‘ المصيرية.

وبعد ليالٍ ضروسٍ خسر فيها المعتدي كثيراً يقتنع بوصوله لطريق مسدود. تهدأ المعركة تماماً، تنزل لاستطلاع الميدان الذي ما إن تفتح باب منزلك ببطء، لتستغرب من رجلٍ ببدلة رسمية يأتي من بين المتارس باتجاهك، فارداً ابتسامته رافعاً ذراعيه للأعلى مؤكداً لك بأنه ’’مدني‘‘ يود الحديث لا أكثر..

وفي الوقت الذي لم يعد لدى أسرتك ما يكفيها من الغذاء، يخبرك بأن دافعه الإنساني لم يترك له مجالاً إلا للمجيء لتنفيذ مهمته في مساعدة أسرتك الجائعة.. فتستبشر وتفرح، ثم تسأله عمن عينه لهذا العمل الشهم، فيفاجئك بأنه نفسه قائد هذه المجاميع المسلحة التي قتلت طفلك وأخاك وأدمت أمك وزوجتك!

إن كان لديك من التعقل أدنى مستوياته، فهل ستقتنع أن تلك السلة الغذائية التي يشير إليها تحوي فعلاً ما يخفف معاناة أسرتك التي تسبب بها أصلاً نفس الطرف الذي ما زالت متارس مقاتليه محيطة لمنزلك؟

هذا ما لن ينطلي حتى على قطٍ عرفك بحجارتك التي ترميها به كل صباحٍ حينما تحاول إعطاءه فتات طعامك للإيقاع به مهما نمقت مظهرك أمامه، فهو يعرف يقيناً من أنت!
لكنه ما تريد أمريكا، عبر رئيسها لبرنامج الغذاء العالمي، أن ينطلي على 29 مليون يمني ما زالوا يُقتلون بقنابلها ويموتون بحصارها للعام الخامس على التوالي.
———-

يسمع الكثيرون تعدداً في أوجه النظر ناحية المنظمات، فمنهم من يؤمن بالقيم التي تُرفع في عناوينها ومنهم من يجزم بأنها أجهزة استخباراتية تتخذ الأنشطة الإنسانية غطاءً لأنشطة خفية تخدم أجندة الدول التي تتبعها.

وبين هذا وذاك قناعاتٌ تولدت ومصالح تعززت بتصاعد النشاط الإنساني في البلد، لكن دعونا نحدثكم عن معلوماتٍ بحتةٍ عن منظمة برنامج الأغذية العالمي بالتحديد والتي قد تغير كثيراً في نظرتكم لهذه المنظمة.

تعيين من يرأس هذه المنظمة منذ تأسيسها مطلع الستينيات مبني على الترشيحات التي يرفعها كلٌ من رؤساء الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن وكبار المانحين، إلى الأمين العام للأمم المتحدة الذي بدوره يقر الاسم النهائي لهذا المنصب بالتوافق مع رئيس منظمة الـ ’’فاو‘‘ (منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة).

لكن وفي مطلع التسعينيات أصبح هذا الإجراء شكلياً حينما فُسح المجال أمام أمريكا لبسط هيمنتها السياسية على العالم بعدما كان يعرقله الاتحاد السوفييتي الذي نجحت بتفكيكه في 1991 لتبدأ أمريكا تشييد أعمدة مشروع ’’النظام العالمي الجديد‘‘ الذي حينما نقول ’’عالمي‘‘ فذلك يعني أن سقفه هو فعلاً العالم بكل ما فيه، أي أنه حتماً لن يتجاهل أكبر منظمة هي الأكبر في مجالها ويتجاوز عاملوها اليوم أكثر من 17 ألف عامل ينشط بأوساط أكثر من 93 مليون مواطن في 80 دولة مختلفة حول العالم، 30 منها عربية وإسلامية.

وفي ظل اتساع رقعة الهيمنة الأمريكية بشكل متسارع من 1991 وإلى اليوم، بات دائماً من يتعين رئيساً لهذه المنظمة هو الشخصية السياسية الأمريكية التي يرفع بها الرئيس الأمريكي القائم والتي تكون منتمية لحزبه، وسنسرد لكم قائمة بأسماء الرؤساء المتعاقبين لهذه المنظمة منذ مطلع التسعينيات وإلى اليوم مع نبذة بسيطة لكل منهم، والتي يمكنكم التحقق من صحتها بأنفسكم من موقع ويكيبيديا:

• كاثرين بيرتني (1992 – 2002) / الحزب الجمهوري
تم تعيينها بتوصية الرئيس بوش الأب قبل عام من انتهاء رئاسته التي تولاها عن الحزب الجمهوري.
عقب حصولها على بكالوريوس في العلوم السياسية (وليس الإنسانية)، باشرت بيرتني عملها السياسي مبكراً كرئيسة للجنة الوطنية للجامعيين الجمهوريين التي تعنى باستيعاب مؤيدي الحزب الجمهوري في الوسط الطلابي الجامعي ولها نشاط استقطابي فعال بداخله، لتتولى بيرتني لاحقاً عدة مناصب داخل الحزب كمديرة للشباب ومديرة للحملات الانتخابية للكونغرس لممثلي حزبها.

• جيمس موريس (2002 – 2007) / الحزب الجمهوري
هو أيضاً خريج علوم سياسية وقد عمل بداية مشواره السياسي مديراً لمكتب عمدة مدينة إنديانابوليس بولاية إنديانا.
تم تعيينه رئيساً لبرنامج الأغذية بناءً على توصية الرئيس الجمهوري بوش الابن.
تشيد المنظمة في موقعها بإنجازه النوعي فيما أسمته أكبر عملية إنسانية في تاريخ المنظمة، حيث تقول بأنها تمكنت من إطعام 26 مليون عراقي حسب زعمها؛ بينما نعرف جيداً ما الذي كانت تفعله أمريكا داخل العراق خلال تلك الفترة الزمنية بالتحديد، والتي لن يتواجد هناك أحد القيادات السياسية المقربة من رئيسها إلا ليكون يداً ضاربة له في تنفيذه أحد أكبر عمليات الغزو في تاريخ أمريكا والتي ما زال يعاني العراق من ويلاتها إلى اليوم.

• جوزيت شيران (2007 – 2012) / الحزب الجمهوري
تمكنت حاملة بكالوريوس الصحافة والاتصالات وماجستير العلاقات العامة من تقلد عدة مناصب رفيعة عن حزبها.
فقد استغلت شيران علاقاتها القوية بشخصيات ذات نفوذ في البيت الأبيض مثل كونداليزا رايز وزيرة خارجية بوش التي عينتها وكيلة لها بالوزارة في 2005 لمدة عامين كانا كفيلين لإثبات جدارتها السياسية والدبلوماسية ليتم تعيينها رئيساً لبرنامج الأغذية العالمي، ورغم الاعتراضات الحادة من الاتحاد الأوروبي على تعيينها لكنها تلاشت أمام الضغوطات القوية لصالح شيران من قبل إدارة جورج بوش – حسب صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.

• إيرثارين كازن (2012 – 2017) / الحزب الديمقراطي
بدكتوراة في القانون نالتها في الخامسة والعشرين من عمرها، باشرت كازن مشوارها السياسي بالحزب الديمقراطي لتتعين في 1993 نائبةً لرئيس عمال اللجنة الوطنية الديمقراطية التي تعتبر الهيئة الرسمية الحاكمة للحزب الديمقراطي.
عينها بعدها الرئيس كلينتون (الديمقراطي) مندوبة للبيت الأبيض بوزارة الخارجية التي كانت أحد كبار مستشاريها، وهي التي قادت حملته الانتخابية في ولاية إلينوي لفترة رئاسته الثانية في 1997، ليعيّنها البيت الأبيض في نفس العام عضواً بمجلسه للتنمية الدولية للأغذية والزراعة، وكأن الحزب الديمقراطي بدأ في تأهيلها باكراً لما رأى لديها من بذرات لرئيسة مستقبلية عن حزبه لبرنامج الغذاء العالمي.
وحرصاً على تأهيل على أرقى مستوى، وعقب تنصيب أول رئيس أسود في تاريخ أمريكا، قام أوباما بتعيين ابنة عرقه كازن سفيرةً للبعثة الأمريكية لمنظمات الأمم المتحدة في روما، العاصمة الإيطالية التي تحتضن المقرات الرئيسية للمنظمات الأممية المعنية بشؤون الغذاء والزراعة (برنامج الأغذية العالمي، منظمة الأغذية والزراعة ’’فاو‘‘، الصندوق الدولي للتنمية الزراعية).
وبعد ثلاث سنوات تم تعيين كازن رئيسة لبرنامج الأغذية العالمي، التعيين الذي وصفت وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون صاحبته بأنها ’’تستوعب تصميم وتنفيذ السياسات الأمنية الغذائية لبلدنا‘‘

• ديفيد بيزلي (2017 – إلى الآن) / الحزب الجمهوري
الرئيس الحالي للمنظمة، وهو شخصية سياسية لا خبرة سابقة لديها أبداً في المجال الإنساني.
تعيّن في 1979 نائباً بمجلس النواب الأمريكي عن الحزب الديمقراطي الذي مثله هناك حتى 1991 قبل أن يلتحق بالحزب الجمهوري الذي كان لاحقاً مرشحه الذي تعين حاكماً لولاية كارولاينا الجنوبية.
تشكل المنح الأمريكية 28% من المنح التي تعتمد عليها الأمم المتحدة، وهي تعتبر حصة كبيرة بالنظر إلى أن الـ72% الأخرى من المنح تعتمد بشكل رئيسي على 38 دولة. وحسب فورين بوليسي الأمريكية، فإن لبيزلي علاقات شخصية وثيقة بقيادات سياسية قوية من كارولاينا الجنوبية تشغل حالياً مناصب حساسة للأمم المتحدة تضع المصير المالي للمنظمة تحت قبضتها. تلك الشخصيات هي:
– نيكي هايلي: الحاكمة السابقة للولاية، السفيرة الحالية لأمريكا لدى الأمم المتحدة المعينة من ترامب
– ليندسي غراهام: عضو مجلس الشيوخ عن نفس الولاية، الرئيس الحالي للجنة اعتمادات تمويلات الأمم المتحدة
– ميك مولفيني: عضو سابق للكونغرس عن الولاية، المسؤول الحالي لميزانية البيت الأبيض الذي قام باستقطاعات مالية حادة على حساب الأمم المتحدة

يُذكر من بعض التعليقات حول تعيين بيزلي، ما قاله بيتر يو (نائب رئيس مؤسسة UNF) بأن بيزلي الشخص المناسب للمهمة كونه ’’يعرف كل السياسيين المناسبين في واشنطن‘‘ حسب قوله. كما علقت بيرتني (الرئيسة السابقة للمنصب المذكورة أعلاه) بأن رفض تعيين بيزلي كان ’’سيقدم عذراً كبيراً‘‘ لإدارة ترامب لتمضي قدماً في خطة تقليص مُنحها للأمم المتحدة.
———-

الحرب الاقتصادية

في إطار حاجة ملحة على أمريكا للسير في خطة مالية تعينها في حربها الاقتصادية مع الصين، فلا بد لها أن تسلك مسارات اقتصادية في كل المجالات حتى الإنساني منها، لكنها أيضاً لن تتخذ أي خطوات اقتصادية إلا بما يخدم أجندتها سياسياً وعسكرياً في نفس الوقت.

وبالحديث عن الجانب الإنساني فيتمثل مسارها الاقتصادي في التقليص المالي التدريجي للمنح الطوعية والإسهامات الإلزامية للأمم المتحدة التي تكلف أمريكا ما يصل إلى 10$ مليار دولار سنوياً، وهو المسار الذي لم يخفه ترامب في كلمته باجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة العام المنصرم حينما قال: ’’نعمل على مزيد من التقليص في تمويلنا للهبات الإلزامية والتطوعية لكي نتمكن من تخصيص الموارد الأمريكية للبرامج التي تحمل أفضل سجلات النجاح‘‘.

وقد شرع البيت الأبيض في هذا المسار من بعد تولي ترامب مقاليد السلطة فقلص دعمه لعدد من المنظمات والبرامج الأممية وأوقفه تماماً على أخرى. حيث أوقف دعمه لصندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA) وكذا لمنظمة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (UNRWA) التي تعتمد حوالي ثلث موازنتها على أمريكا التي انسحبت أيضاً من منظمة اليونيسكو (UNESCO) التي كانت تعتمد مالياً عليها بنسبة 22%؛ وهي خطوات وفرت على موازنة البيت الأبيض مئات الملايين من الدولارات. أما تقليص الدعم فقد نالت منه كلٌ من الـ(UNICEF) والـ(UNDP) بما يعادل 360$ مليون، كما قامت إدارة ترامب بتخفيض مساعداتها للمنظمات الإنسانية داخل فلسطين ليقوم برنامج الأغذية بحرمان 27 ألف فلسطيني في الضفة الغربية من المساعدات الغذائية ديسمبر الماضي. أما فيما يخص أنشطة حفظ السلام فقد كان آخر مبلغ قدمته أمريكا قبل رئاسة ترامب لحساب هذه الأنشطة هو 2.53$ مليار، ليقلصه ترامب في العام التالي بنسبة 23% إلى 1.9$ مليار، ثم ليقلصه أكثر فأكثر ليصل لقرابة النصف في الميزانية المرفوعة للعام 2019 بمبلغ 1.19$ مليار.

كل هذا ليس بمعزلٍ عن اليمن التي كان بيزلي قد صرح سابقاً نهاية 2018، عقب مفاوضات السويد بيوم، بأن برنامج الأغذية الذي تعتمد موازنته على أمريكا بنسبة 41% (2.51$ مليار للعام 2019)، قد لا يتمكن من تلبية الاحتياجات الغذائية للبلد، أي قبل ترويجه للافتراءات حول نهب حكومة صنعاء للمعونات الأممية، والتي بدون ذريعة كهذه سيكون محرجاً لترامب أمام المجتمع الدولي شطب اليمن في هذا التوقيت من ملفه الإنساني وهو البلد الذي يمر بأكبر كارثة إنسانية، فلذا فإن الذريعة لا تخلص ترامب من الحرج فحسب ولكنها في نفس الوقت ستخدمه سياسياً بتثوير الناس ضد حكومة صنعاء ما إن مكنته بالانسحاب.
أما في حال رضخت حكومة صنعاء لهذا الابتزاز الممنهج وقبلت بالحل المطروح من المنظمة الذي يهدد السيادة كونه يقتضي أن تقوم المنظمة بمسوحات ميدانية في كل المحافظات والمديريات لجمع كل البيانات الشخصية للمستفيدين (بصمات العشر أصابع، بصمة العين، صور وأسماء وأعمار كل فرد في أسرة المستفيد، والمزيد)، فيكون الأمريكي قد تقدم خطوة كبيرة للأمام في نشاطه الاستخباراتي داخل المناطق التي لم يتمكن عملاؤه دخولها عسكرياً لأكثر من أربعة أعوام حتى الآن.
———-

الخلاصة

بعد المعلومات السابقة أعلاه التي حاولنا اختصارها قدر الإمكان، يمكن لأي عاقل أن يدرك أن منظمة برنامج الأغذية العالمي باتت منظمة سياسية بحتة بيد القبضة الأمريكية التي وجهت كل أنشطتها بما يخدم الأجندة الأمريكية في المنطقة، ولمن ما يزال ينتابه شكٌ حول ذلك، نقتبس لكم ما يذكره صراحة الموقع الإلكتروني الخاص بالبعثات الأمريكية للأمم المتحدة:

’’كأكبر مساهم لمنظومة الأمم المتحدة حول العالم، لأمريكا نصيب كبير في تأمين أنشطة هذه المنظمات لتدار جيداً بما يكمل ويعزز أهداف السياسة الخارجية والداخلية للولايات المتحدة.‘‘
———-

قد يعجبك ايضا