عملية “طوفان الأقصى”.. وانقلاب الموازين في المنطقة

 

عملية “طوفان الأقصى”.. وانقلاب الموازين في المنطقة

صحيفة الحقيقة/خاص

شنّت حركات المقاومة الفلسطينية صباح السابع من أكتوبر 2023 هجومًا مباغتًا استهدف مواقع للجيش الإسرائيلي في غلاف قطاع غزة، وتمكنت من السيطرة على قاعدةٍ عسكرية كبيرة وعددٍ من المواقع ونقاط المراقبة الإسرائيلية المنتشرة على حدود القطاع. كما سيطرت وحدات كوماندوس تابعة لحركة حماس على نحو 20 مستوطنة إسرائيلية داخل ما يسمى “الخط الأخضر”. وأسفرت هذه العملية، غير المسبوقة وفق المعطيات التي أعلنها الجيش الإسرائيلي ، عن مقتل أكثر من 1400 إسرائيلي، وإصابة نحو 3000 جريح، بينهم العديد من كبار الضباط، كما أسرت حماس وفصائل أخرى أكثر من 200 إسرائيلي.

الخلفيات والنتائج

جاءت العملية التي أطلق عليها اسم “طوفان الأقصى” على خلفية الاعتداءات المستمرة للكيان الصهيوني، ضد الشعب الفلسطيني في غزة وفي الضفة وفي الداخل الفلسطيني واستمرار انتهاكات المستوطنين الصهاينة واقتحام وتدنيس المسجد الأقصى والاعتقال والقتل على الحواجز ومصادرة الأرض والسجن، والحصار وترتيب الجيش الصهيوني لعملية تهجير أبناء غزة بهدف إنهاء القضية الفلسطينية التي تزايد بها بعض الأنظمة العربية ويرى الكيان أنها حجر عثرة أمام تطبيع الدول العربية ولذلك حشد الجيش الصهيوني خلال الأيام التي سبقت معركة طوفان الأقصى نحو 30 كتيبة من قوات الجيش في الضفة الغربية المحتلة لردع أي رد فعل فلسطيني على ممارسات المستوطنين، وتمهيدًا لاقتحام المخيمات والبلدات والمدن الفلسطينية التي تشهد عمليات مقاومة ضد قوات الاحتلال والمستوطنين. أما في قطاع غزة، فتستمر إسرائيل في حصاره منذ عام 2006، وتقلّص حقوق الأسرى الفلسطينيين، وتزيد سوء معاملتهم، وترفض عقد اتفاق لتبادل الأسرى، مستغلةً ضعف الموقف العربي واستعداد دول عربية عديدة لتطبيع العلاقات معها بمعزل عن الحقوق الفلسطينية، وبعيدًا عن صيغة الأرض مقابل السلام.

طوفان الأقصى ..انقلاب الموازين

 بحسب تقرير نشره (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) فإن عملية “طوفان الأقصى” تحظى بأهمية استراتيجية كبرى نظرًا إلى أنها تؤسس لتغيير الواقع الذي حاولت إسرائيل تكريسه في قطاع غزة منذ انسحابها الأحادي الجانب منه في عام 2005. وأدت هذه العملية المباغتة إلى انهيار الاستراتيجية الإسرائيلية في التعامل مع غزة وحكم حركة حماس فيها، فضلًا عن كشف الفشل الذريع لمختلف مكونات المنظومة العسكرية والأمنية التي استندت إسرائيل إليها في تنفيذ استراتيجيتها؛ ما أدى إلى تكبّدها خسائر بشرية جسيمة بلغت ضعفي مجمل خسائرها في حرب عام 1967، سقط غالبيتهم في اليوم الأول من العملية. وفاق فشل المنظومة العسكرية والأمنية الإسرائيلية فشلها في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، والذي يعرف في المصطلحات الإسرائيلية بالتقصير (همحدال). وسيتمخض عن ذلك، مهما كانت نتيجة الحرب على غزة، تداعيات كبيرة داخل أجهزة الدولة وفي المجتمع الإسرائيلي، ويؤجج الجدل حول من يتحمّل المسؤولية عن هذا الفشل غير المسبوق، الذي سقط نتيجته أكثر من 4400 بين قتيل وجريح، فضلًا عن اهتزاز ثقة الإسرائيليين بمنظومتهم الأمنية والعسكرية وقدرتها على حمايتهم.

ويُسجَّل الفشل الأكبر للأجهزة الأمنية في إخفاق الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) والمخابرات العامة (الشاباك) في توقّع العملية أو الوصول إلى معلومة بشأنها. وما زاد من مرارة هذا الفشل الاستخباراتي، في دولة طالما تبجّحت بقوة أجهزتها الأمنية، وقدراتها التجسسية حول العالم على المستويين التقني والبشري، أن الفشل نتج من قطاع غزة الذي تراقبه هذه الأجهزة وتجمع المعلومات عنه على مدار الساعة بمختلف الوسائل البشرية والإلكترونية. أما الفشل الثاني الكبير فتمثل في هشاشة الجدار الأمني الذي بنته إسرائيل حول غزة، وراهنت على قدرته في منع المقاتلين الفلسطينيين من اختراقه، حيث تمكن مقاتلو حماس من اختراقه والعبور من خلاله بأعداد كبيرة إلى أكثر من 20 موقعًا. فقد بنت إسرائيل منذ انسحابها الأحادي من قطاع غزة، جدارًا من الإسمنت المسلّح على طول حدود القطاع البالغة نحو 65 كيلومترًا، وبعمق 7 أمتار في باطن الأرض، و7 أمتار فوقها، ونصبت فوقه أحدث أجهزة الرقابة الإلكترونية، كما أقامت عليه أبراجَ مراقبة في مواضع مختلفة لرصد كل حركة خلفه.

وتمثل الفشل الثالث في إخفاق الجيش الإسرائيلي في حماية قاعدته العسكرية الواقعة بالقرب من الحدود الشمالية لقطاع غزة، وفي حماية النقاط العسكرية العديدة وأبراج المراقبة الممتدة على طول حدود القطاع، فضلًا عن فشله في حماية أكثر من 20 مستوطنة واقعة في غلاف القطاع داخل ما يسمى “الخط الأخضر”؛ إذ تمكنت الوحدات العسكرية لحماس من اقتحامها وفرض سيطرتها عليها، موقعةً خسائر بقوات الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن المختلفة.

يبدو أن هذا الهجوم المباغت الذي شنّه المقاتلون الفلسطينيون، وأداءهم الجريء، وقدراتهم التنظيمية، وخبراتهم العسكرية، قد تسبّب بشلل القيادة العسكرية والسياسية الإسرائيلية وأفقدها توازنها. وعلى الرغم من تبجّح الجيش الإسرائيلي المستمر بجاهزيته الدائمة لمواجهة كل الطوارئ والاحتمالات وقدرته على حشد ما يكفي من قوة لمواجهة أي هجوم خلال ساعات من وقوعه، فإنه لم يفشل في حماية قواعده العسكرية فحسب، وإنما فشل أيضًا في التدخل سريعًا لاستعادة المواقع العسكرية والمستوطنات الإسرائيلية التي سيطر عليها المقاتلون الفلسطينيون وظلوا يتحركون فيها لمدة لا تقل عن يومين، بينما يستغيث المستوطنون الذين كانوا يختبؤون في أجزاء منها.

أما الفشل الرابع فقد تمثل في إخفاق الجيش الإسرائيلي وأجهزة الأمن المختلفة في تأمين الدفاع عن حفل ترفيهي شارك فيه بضعة آلاف من الشبّان الإسرائيليين. وقد أقيم الحفل في أرض مفتوحة تبعد عن حدود قطاع غزة بضعة كيلومترات بالقرب من قاعدة عسكرية بعد حصول أصحابه على جميع التصاريح الأمنية المطلوبة. علاوة على ذلك، تسبّبت عملية حماس بشلّ قدرة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية على اتخاذ القرار والتجاوب مع متطلبات الوضع الأمني والعسكري، وامتد الارتباك إلى مؤسسات الدولة الأخرى التي أقعدتها صدمة الهجوم عن التعاطي سريعًا مع نتائجها، بما في ذلك الوصول المتأخر إلى القتلى والجرحى، والفشل في تقديم المعلومات الأولية لأهالي القتلى والجرحى والمفقودين، حتى بعد مرور عدة أيام على بدء العملية)) انتهى.

استنجاد إسرائيل بالولايات المتحدة

وأمام هول الصدمة التي حلت بالكيان الصهيوني سارع للاستنجاد بأمريكا وأوروبا وسرعان ما وصل وزير الخارجية الأمريكي إلى تل أبيب ليعلن أنها قدم بصفته يهوديا إضافة إلى عمله كوزير للخارجية الأمريكية وهذا مما يؤكد أن الحالة النفسية للصهاينة كانت في الحضيض، إنّ استنجاد إسرائيل بالولايات المتحدة من جانب، وإرسال واشنطن، المنهمكة بالانقسامات الداخلية العميقة، حاملة طائرات إلى المنطقة لإظهار دعمها لإسرائيل من ناحية أخرى، لن يكون مفيداً بحالٍ لإسرائيل في هذه المعركة ولا بعدها، فالولايات المتحدة يُستبعد أن تخاطر بالدخول بشكل مباشر في مغامرةٍ غير محسوبةٍ ضدّ الفصائل الفلسطينية، وهي التي لم تنتصر فعلياً في أي حربٍ من حروب العصابات التي اضطرت لخوضها ضدّ حركاتٍ وفصائل وتنظيماتٍ مقاتلةٍ سواء في فيتنام أو لبنان أو أفغانستان أو العراق، على عكس انتصاراتها في حروبها ضدّ الدول.

وفي الحقيقة، إنّ هذا الاستنجاد بالولايات المتحدة إنّما يزيد صورة إسرائيل ضرراً، فهو يُظهرها بمظهر المشروع العاجز عن حماية نفسه بنفسه أمام التهديدات الوجودية، وبذلك فإنّ ضرر هذه الخطوة على المدى البعيد قد يكون أكبر من فائدتها!

نسف مشروع التطبيع

كما وجهت عملية طوفان الأقصى ضربة أخرى لأهم حدث كان بانتظار الصهاينة وهو اكتمال عمليات التطبيع مع الدول العربية وفقد كان النظام السعودي على وشك استكمال إعلانه الدخول تحت المظلة الصهيونية ولذلك فإن أهم واسع أثر لهذه العملية يتعلق بضرب مشروع التطبيع الإقليمي مع تل أبيب، فإسرائيل التي بدت عاجزةً عن حماية نفسها لن تكون ذات فائدةٍ تُذكر للقوى التي تروّج للتطبيع معها، سواء خوفاً من قوتها المتوهَّمة وطلباً لحمايتها، أم طمعاً في الحصول على التقنيات الدفاعية التي كانت إسرائيل تبيعها وتدّعي كفاءتها العالية قبل أن يظهر فشلها الذريع في هذه العملية.

لا أبالغ إنْ قلت إنّ عملية “طوفان الأقصى” سيكون لها دور كبير في تغيير موازين القوى والردع في المنطقة إلى الأبد، فما كان بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول لن يكون كما كان قبله، وستتمخض عن نتائج المعركة حسابات سياسية جديدة في المنطقة بعد هذه الحرب، ومَن لا يرى هذه الحقيقة سيبقى يعيش وهمَ الماضي فقط.

ثلاثية الأسرى والمقاومة والمحور تكبِّل الصهاينة عن اجتياح غزة برياً

في ضوء استحالة تحقيق أي نصر من خلال القصف الجوي الصهيوني الوحشي والذي أدى إلى استشهاد أكثر من 5000 فلسطيني جلهم أطفال ونساء وجرح عشرات الألاف فإن الكيان أمام خيار وحيد اقتحام غزة بريا وبذلك يكون امام مفاجئات المقاومة الفلسطينية وسيشعل الاقتحام البري حرب إقليمية واسعة أو الهزيمة العسكرية كما أن الجيش الصهيوني يعاني ثقته بنفسه وانهياره معنويا ونفسيا وقد تعرض الكثير من الجنود الصهاينة لحالات نفسية بينها انتحار أربعة مجندين، كما اشتغل الداخل الصهيوني وظهرت وتزايدت المطالبة بتشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة طوارئ. وقد تعززت هذه الدعوات بعد اتضاح حجم الخسائر الكبيرة التي وقعت في صفوف الإسرائيليين،

وإذا ما انتهت الحرب من دون القضاء على حكم حماس، حتى لو تكبدت الحركة خسائر فادحة، فستواجه القيادة الإسرائيلية فشلًا ذريعًا آخر يضاف إلى سلسلة إخفاقاتها الاستراتيجية؛ فبقاء سلطة حماس يعني العودة إلى الوضع الذي كان قائمًا قبل العملية.

وثمة خشية في إسرائيل من أن تقود الحرب على غزة، التي يرجّح أن تكون صعبة وطويلة، إلى امتداد نطاق المواجهات إلى لبنان، حيث يزداد التوتر مع حزب الله؛ ما يعني أن إسرائيل قد تضطر إلى خوض غمار مواجهة على جبهتين أو أكثر؛ ما يؤدي إلى وقوع خسائر جسيمة وإلحاق دمار كبير في البنية التحتية الإسرائيلية.

خاصة وأن حزب الله وحركات المقاومة في العراق وكذلك اليمن وإيران بدأت تصل إلى قناعة بضرورة التدخل لحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة الصهيونية وبدأت تظهر عمليات قصف على قواعد أمريكية في العراق وسوريا وتردد تصريحات صهيونية وأمريكية عن تعرض إسرائيل إلى قصف بالطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة من اليمن..

كما يمثل مصير الأسرى الإسرائيليين من المدنيين والعسكريين الذين تحتجزهم حماس عقدةً مهمةً في حسابات الاجتياح البري لغزة.. وتذهب التقديرات إلى أن عددهم يصل إلى 200 أسيرًا، على أقل تقدير، وهو أكبر عدد على الإطلاق يقع في يد المقاومة الفلسطينية في تاريخ الصراع مع إسرائيل. ويولي الرأي العام الإسرائيلي أهمية قصوى لمصيرهم، وهو أمر يضعف تحرك الحكومة الإسرائيلية ضد غزة. بناءً عليه، حاولت الحكومة الإسرائيلية إعطاء انطباع بأنها ذاهبة باتجاه استعادة هيبة الردع التي فقدتها، حتى لو أدى ذلك إلى التضحية بالأسرى، وقد جاء هذا الموقف نتيجة إدراكها أنها لن تستطيع استعادتهم أحياءً من دون عقد صفقة مع حماس، تشمل الإفراج عن جميع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. والحكومة الإسرائيلية غير جاهزة حاليًا لعقد مثل هذه الصفقة.

خاتمة 

أصابت عملية “طوفان الأقصى” أسطورة إسرائيل الأمنية والعسكرية والاستخبارية في مقتل، وفضحت هشاشة التحصينات والجدران التي أنشأتها لحماية نفسها وعزلها عن “الآخر” الفلسطيني المحاصر. وثمة فرضية أساسية لا تزال تتبناها إسرائيل، على الرغم من ثبوت فشلها المتكرر، وهي أنه في الإمكان الاستمرار في احتلال الأرض الفلسطينية من دون دفع الثمن وإجبار الشعب الفلسطيني على القبول بهذا الواقع. إن الحالة الهمجية والغرائزية المتخلفة التي تسود في إسرائيل، وارتكاب المزيد من العدوان والمجازر بحق الفلسطينيين، لن تُخضع الشعب الفلسطيني في غزة أو في أماكن تواجده الأخرى، ولن تكسر إرادته، وسيبقى يناضل من أجل نيل حريته من الاحتلال، حتى لو نجحت إسرائيل في إسقاط حكم حماس في غزة، وهو أمر مستبعد.

 

…………………………

المصادر بتصرف:

  • المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

قد يعجبك ايضا