في الذكرى الـ 103 لمذبحة تنومة..جردة حساب بالدم اليمني الذي سفكته السعودية

وصية الملك ونهج أبنائه.. السعودية لم تكن يوماً صديقاً لليمن ولن تكون إلا عدواً يتأبط الشرور باليمنيين

قبيل “عاصفة الحزم” التي شنتها مملكة العدوان السعودية على اليمن بتحالف دولي وإقليمي، ليلة 26 مارس 2015م، جاء في كلمة تنصيب الملك الجديد حينه سلمان بن عبدالعزيز، هذه الجملة القطعية الحاسمة:” إن المملكة لن تحيد عن النهج القويم الذي رسمه لها الملك عبدالعزيز”، وفي بلد لا تحكمه قيم إنسانية أو إسلامية ولا نهج دستوري، فما هو “النهج القويم” الذي قصده سلمان الذي بدأ منذ أيامه الأولى حربا إجرامية على اليمن!
يراجع ملوك آل سعود المتعاقبون وصية أبيهم الأول عبدالعزيز دائما، ويحتكمون إليها، ليس فقط كالتزام يضبط الضمير الأخلاقي للعائلة المالكة، ويستأنسون بها، بل كنهج عدائي دائم تجاه اليمن، والأهم من ذلك؛ كاستراتيجية ثابتة يحكمون بها، ويتعاملون مع اليمن بناء عليها، والواقع منذ نشأة هذا الكيان وإلى اليوم يؤكد ذلك.
منذ تأسيسها، الدولة السعودية الثالثة، على يد الملك عبدالعزيز آل سعود، وجغرافية هذا الكيان الجديد – الناهض من وسط صحراء الجزيرة العربية – تتسع. وعلى طول الخط الزمني للقرن العشرين، عصفت باليمن عشرات الحروب والنزاعات، وظلت بائسة طوال العهود الملكية، ولم تستقر اليمن في العهد الجمهوري كذلك، فالمملكة الطارئة على الجوار ترى في استقرار اليمن ضعفا لها وفي وحدته ضعة كذلك.
لقد حارب الملوك السعوديون اليمن وهي ملكية، ثم حاربوها جمهورية، وتصدوا لها جنوبية وشمالية، وموحدة، ولم تكن مملكة العدوان السعودية، على جانب بعيد من هذه الحروب والإعاقات في طريق أجيال اليمن، سواء في الشمال أو الجنوب، فقد وقفت السعودية دائما على الضد في وجه أي تحول يجري في اليمن، وضد أي مشاريع تحررية.
في البدء وبعد سنوات قليلة من إعلان عبدالعزيز مملكته الطارئة في صحراء نجد والحجاز بدعم بريطانيا، ارتكب جيشه مذبحة تنومة قاتلا ثلاثة آلاف حاج يمني كانوا يلبسون الإحرام، بالسيوف وبالبنادق قتلوا الحجاج، ثم نهبوا أمتعتهم ومآكلهم وتجهيزاتهم اللازمة لأداء فريضة الحج.
وتلك هي المذبحة الأولى التي كانت تعبيرا عن نهج آل سعود العدائي تجاه اليمنيين، وعقب ذلك أشعلت حروبا ومؤامرات ضد اليمن ملكية وجمهورية وموحدة وانفصالية، اقتطعت نجران وجيزان وحاولت التهام الجوف، وأجزاء من تهامة، ثم أطلقت حربها العدوانية الاحتلالية الإجرامية في 26 مارس 2015، على الشعب اليمني، واستجلبت الجيوش والمرتزقة والمأجورين لاحتلال اليمن من مارب إلى الجوف إلى تهامة وشبوة وحضرموت والمهرة، وغيرها، وفرضت حصارا جويا وبحريا وبريا مطبقا على اليمنيين، فمات الألوف قتلا بالطائرات، ومات أضعافهم بالتجويع والحصار.
قبل ذلك وفي كل مراحل تاريخ وجودها بالجوار، كانت مملكة ابن سعود تشهر سيوفها في وجوه اليمنيين وتشعل الحروب والمؤامرات مستفيدة من الدعم الغربي والبريطاني ومن ثروة النفط التي طرأت عليها، فأشهرت سيفها في مواجهة حركات التحرر الوطني بعد 26 سبتمبر، ومضت في غيها وإجرامها إلى اليوم.
ثم إنها قررت دعم “شيوخ” القبايل واعتماد مرتبات وامتيازات شهرية لهم، ليكونوا أصحاب السلطة الفعلية في اليمن، بدءاً برئيس النظام وانتهاء بأصغر مرتزق عميل يتجند لها، ومن خلال ذلك فعلت ما فعلت من مؤامرات ونهب وتعد واقتطاع للأراضي ووصاية على القرار.
تتغير السنوات وتتبدل الأحوال، ومملكة العدوان السعودية لا تتعامل مع اليمن إلا كحديقة خلفية تريدها، ولهذا النهج ما له من أساس متأصل لدى ملوك آل سعود.
على الطريق السريع من “مكة”، إلى “الرياض”، وعلى بُعد60 كم، تعترض وجوه المسافرين “بندقية”، ناهضة تكاد تلامس خشومهم، تلك “البارودة”، أو “البندقية”، طولها ( 200 متر)، وهي عبارة عن مجسم ضخم، وُضعتْ بكيفية مائلة، على نحو قتالي متأهب، يتناسب مع تصويب دقيق باتجاه “اليمن” كـ”نشان”.
هذا التجسيد الرمزي، لـ”بندقية”، من نوع “مُقمع”، التي كانت على كتف عبدالعزيز آل سعود، عشية دخوله “الرياض”، سنة 1920، تختزل في جوهرها، دلالات ومعاني كثيرة، لا تزال مستقرة في الجانب العميق من وعي العائلة السعودية المالكة: أبناء المؤسس وأحفاده.
أحد إخوة الملك فهد، أخبر الصحفي الكبير الراحل محمد حسنين هيكل، بأن والدهم، أي الملك عبدالعزيز أوصى أبناءه، وهو على فراش الموت، قائلا:” احذروا من يمن موحد، فهذا خطر عليكم وعلى المملكة”، وأضاف، إلى ذلك، قول الملك المؤسس لأبنائه الأمراء المتحلقين حوله:” عليكم أن تتذكروا دوما أن ضمان رخائكم مرهون ببؤس اليمن”.
هل هذه البندقية تأكيد، على الالتزام الحرفي بنص “وصية” الملك الراحل؟! وهل هذا النهج الثابت في السياسة العدائية، تجاه اليمن، أو بتفسير أدق: الخائفة منه، هي التجسيد العملي لفحوى ومضمون تلك الوصية من الملك لأولاده الملوك من بعده؟!
روى محمد حسنين هيكل، هذه الشهادة سنة 1994م في سياق زمني مناسب، ضمن مقال كتبه حينها، عن حرب صيف 94، لصحيفة “يابانية” شهيرة، وحين كانت الحرب ضارية بين مشروعي: الوحدة والانفصال، وقد اعترضت قوات دولية حينذاك سفينتين سعوديتين محملتين بالأسلحة أرسلتها “الرياض”، دعما للانفصاليين في “عدن”.
تصفية الحمدي وسالمين
ورغم أن المقدم إبراهيم الحمدي، الذي تسلم الحكم ضمن مجلس قيادة، كان على تفاهم مع السعودية في البدء، إلا أن سنوات الحمدي الثلاث، التي عززت الروح الوطنية لدى عموم المواطنين، مع سياسة خارجية منفتحة وغير منحازة، قد أزعجت مملكة آل سعود، فقررت التخلص منه في “صنعاء”، بالموازاة الزمنية نفسها: التخلص من الرئيس “سالمين” في “عدن” وبدأت مرحلة جديدة، ملتهبة بين اليمنيين جنوبا وشمالا كانت السعودية، فاعلا أساسيا في إضرام نار الحرب، وتأجيج الاقتتال الداخلي بين الشطرين، من خلال دعمها لما عرف بـ”الجبهة الإسلامية”، في مواجهة ما عرف في حينها بـ”الجبهة الوطنية”، أو ما بات يعرف بأحداث أو حرب “المناطق الوسطى”.
وبصرف النظر عن توزع اليمن بين معسكري الحرب الباردة، إلا أن لغة التحريض على العنف قد استنهضت هويات مناطقية ومذهبية، على الضد من وعي الهوية الوطنية الجامعة التي كانت، رغم ذلك، توحد الوجدان الرسمي والشعبي عند اليمنيين جميعا، فتوقفت الحرب، لكن العبث بـ”الهوية” – من خلال المعاهد الإخوانجية التي مولتها في اليمن والقوى العميلة التي ارتبطت بها السعودية والتي جاءت بعد الحمدي – قد أغرقت اليمن في بحر المؤامرات والعداوات السعودية.
ما تفعله السعودية اليوم لا يختلف كثيرا عما فعلته سابقا في تحفيز الهويات المفتتة والصغيرة، وفي دعم وتمويل المليشيات العميلة لها في الساحل وفي عدن وحضرموت وشبوة ومارب وغيرها، فاستراتيجية السعودية هي تمزيق اليمن وتفتيته.
والملاحظ أن اليمن التي افترقت بنادقها بفعل الانقسام بين الشرق والغرب، تركت السلاح في 22 مايو 1990م، وذهبت إلى الوحدة، وكان ذلك مزعجا “للرياض”، استنادا إلى منطق الوصية:” احذروا يمناً موحداً”. وقد عبّرت المملكة، عن رفضها لهذا التحول، من خلال سياساتها أولاً، وأيضا من خلال رفض القوى الإخوانجية التي دعمتها السعودية، لفكرة الوحدة من الأساس، عشية إعلانها التاريخي، حيث رفضت تلك القوى بشكل قاطع الوحدة، باعتبارها مع كفار اشتراكيين!! واعتلت أصوات التكفير، والتحريض ضد قيادات الحزب الاشتراكي، وشخصيات ورموز ثقافية وسياسية.
وقفت السعودية مع الانفصال ليس حباً في الانفصاليين، بل بغضاً في وحدة اليمنيين، وارتاحت إلى نظام الوحدة حينما سلّم لها البلاد على طبق من ذهب، وهو ما يجب أن يدركه المتجندون اليوم للسعودية، أكانوا دعاة الانفصال أو دعاة التقسيم باسم الدولة الاتحادية.
السعودية التي بُنيت شواهقها بسواعد اليمنيين، تمارس سياسة استعباد ورِق بحق المغتربين، وتتخذ قرارات متهورة وجائرة تجاه كل المغتربين اليمنيين، معتمدة “نظام الكفيل”، وتعرض الكثير منهم للطرد والسجون والمحاكمات والإعدامات والنهب للممتلكات والأموال، والأرقام تتحدث.
وعوداً على بدء تنومة، فإنه وإن عكست الوجه القبيح والغادر لمملكة طارئة نهضت من وسط الصحراء بدعم بريطانيا ومساندتها، فهي أيضاً عبّرت عن العداء الدفين والموغل تجاه اليمنيين، وعن فاشية أنشأتها بريطانيا وسط المنطقة لتلهبها بالحروب والدم.
ونحسب أن هذه الحرب التي تتعرض لها اليمن منذ ثمانية أعوام ونيف بقيادة السعودية، بنتائجها ستكون سبباً تاريخياً كبيراً ليس في نهاية مؤامرات آل سعود على اليمن، بل في نهاية الدولة المارقة وسقوطها، فالدماء التي سالت محرمة ومقدسة من الله العزيز، ولن يستطيع فيه اليمنيون نسيان أنهر الدم التي سالت وحرائق الحرب التي أشعلتها السعودية وما زالت مستمرة إلى اليوم.
إن الحرب التي تشنها السعودية منذ ثمانية أعوام وإلى اليوم لم تكن الأولى، لكنها الأقسى والأبشع، ونحسب أن هذه الحرب غير العادلة وغير الأخلاقية لن تكون الأخيرة، ولن يستقر يمن ولن يأمن اليمنيون إلا بهزيمة هذه المملكة المعادية التي تتأبط الشر والحروب لليمن وتكنّ لليمنيين العدوات والبغضاء.
إن فهم الحرب الحالية التي تشنها مملكة العدوان السعودية منذ العام 2015م ولا تزال مستمرة ومدمرة لا يستقيم دونما الالتفات إلى الماضي، أو على الأقل إلى بعض صفحاته الدامية لنعرف أن هذه الحرب ليست استثناء، بل هي امتداد لتاريخ طويل من نار العداوات والحقد على اليمن واليمنيين.
وإذا كنا اليوم في الذكرى 103 لمذبحة تنومة التي قتلت فيها مملكة ابن سعود 3000 حاج يمني، ثم حرب العام 1934، ثم الدماء التي سالت غزيرة بعد 26 سبتمبر، ثم تصفية الحمدي وإشعال النظام السعودي حرب الحدود بين اليمنيين عدة مرات بواسطة عملائه، ثم السيطرة على القرار السياسي والعسكري، ولا حدّ لما فعلت السعودية باليمنيين ولا حصر لها.
وإذا كنا اليوم في الذكرى 103 لمذبحة تنومة، فإن ثمانية أعوام من الحرب السعودية الإجرامية على اليمن فعلت ما فعلت باليمنيين من موت ومجاعات وقتل وفتك ودمار ومعاناة وأمراض وأوبئة، والجرح غائر، ومؤامرات آل سعود على الوحدة وعلى الثروات وعلى اليمن ما تزال بوتيرة عالية نشاهدها في المناطق المحتلة.
لا التاريخ ولا الحاضر ولا ما بينهما يشير إلى أن مملكة العدوان السعودية كانت أو يمكن أن تكون صديقاً أو حليفاً لليمنيين، بل ولن تكون مع أي طرف يمني إلا إذا أصبح عميلاً يتجند لصالحها.
ولئن كانت مملكة آل سعود، تمتلك ثروة طائلة وعلاقات سياسية مصيرية مع دول وقوى رأسمالية كبرى، فإن الشعب اليمني لديه من التاريخ والمعرفة ما يجعله يدرك حقيقة آل سعود ولديه من العزيمة والإصرار ما يمكنه من هزيمة هذه المملكة الباغية.
“اليمن”، هي القلب الديمغرافي، لسكان شبه الجزيرة العربية، وفقا لـ”روبرت كابلان”. والخوف الذي تضمنته، وصية الملك الراحل، صار مبدأ أصيلاً من مبادئ السياسة الخارجية السعودية، تجاه جارها الجنوبي، ولم تعد اليمن معنية اليوم بارتدادات هذه الهواجس الخائفة، بل العالم كله بات معنياً بهذا البلد الذي مات ألف مرة تحت سواطير مملكة آل سعود ومناشيرها وطائراتها وقصفها وعصفها وفتكها، وسيتضرر مع السعودية إذا لم ينزل عند الحقيقة الماثلة اليوم بعد ثمانية أعوام ونيف من الحرب.
وبالنسبة لمملكة حديثة النشأة والتبلور، وجدت ذاتها سريعاً بجوار الكعبة وممتدة فوق مساحات صحراوية مترامية الأطراف على خزانات من النفط، فلن تكون أمام الحقائق القوية أصلب من يمن يعرف منذ ألاف السنين، كهوية سياسية وكمكان وكأمة وتاريخ، هي أرض سبأ ومعين وذو ريدان، وحمير، وهي أرض العربية السعيدة، في كتب الإغريق، وهي المدن القديمة والوديان، وتلك الجبال الشاهقة التي لا تزال تحتفظ بالأصول الأولى لبدايات العرب، وجذورهم العتيقة، وسكانه اليمنيون أولو قوة وبأس، وقد جعلوا من هذه البلاد مقبرة الغزاة.

 

الثورة / رئيس التحرير- عبدالرحمن الأهنومي

 

قد يعجبك ايضا