مساعي اختراق صنعاء: الحرب الإلكترونية الأمريكية الإسرائيلية على اليمن

لسدِّ الفراغ الاستخباراتي الهائل بشأن أنصار الله، شنَّت تل أبيب وواشنطن حربًا استخباراتية سرية على اليمن. لكن مجتمعًا متشبعًا بالمقاومة، مقرونًا بعقيدة الصمت التي تتبناها صنعاء، أثبت أنه من الصعب اختراقه أكثر مما كان متوقَّعًا.

انضمت القوات المسلحة اليمنية الموالية لأنصار الله إلى المعركة دعماً لعملية “طوفان الأقصى” التي شنتها المقاومة الفلسطينية، وضد حرب (إسرائيل) على غزة. واليوم، بعد قرابة عامين، ظهرت ساحة معركة جديدة – بعيدًا عن مياه البحر الأحمر أَو سماء فلسطين المحتلّة.

هذه الحرب لا تتضمن طائرات مُسيّرة أَو صواريخ باليستية. إنها غزو صامت ومُستمرّ ورقميّ يهدف إلى زعزعة التماسك الداخلي لحكومة صنعاء من خلال التجسس والتلاعب النفسي وأساليب الاختراق الناعمة.

مكالمات هاتفية من من الكيان الصهيوني:

بدأت الحرب السرية ببراعة. تلقى محمود، الصحفي اليمني الذي يعمل مع إذاعة محلية، رسالة من رقم دولي غريب. لكن ما لفت انتباهه لم يكن الأرقام الغريبة فحسب، بل الدولة المدرجة تحتها: “إسرائيل”.

يقول محمود لموقع ذا كرادل: ” كان الأمر مرعبًا. رحّب بي المُرسِل باسمي الكامل، وأشاد بعملي الإعلامي، ثم دعاني للانضمام إلى فريقهم. حذفتُ المحادثة فورًا قبل أن يتمكّنوا من قول المزيد”.

حالة محمود ليست فريدة. سامي، المقيم في صنعاء، تلقى رسالة مختلفة بنفس النمط. دعاه حساب على فيسبوك، يزعم أنه طبيب فلسطيني، للانضمام إلى “نقاش أكاديمي” مع خبير يمني. تضمنت الرسالة أسماء شخصيات يمنية مرموقة زُعم أنها تزكيه. شعر سامي بوجود أمر غير طبيعي، فتواصل مع من وردت أسماؤهم، لكن لم يكن أحد منهم على علم بالأمر.

وبحسب شهادات موثقة جمعتها منظمة “ذا كرادل” من صحفيين وناشطين في مختلف أنحاء اليمن، فإن هذه الأساليب هي جزء من حملة متسارعة التوسع للتسلل والتجنيد الإلكتروني الإسرائيلي والأمريكي.

وتصاعدت الجهود الاستخباراتية السرية بسرعة بعد 7 أُكتوبر/تشرين الأول 2023، عندما انضمت اليمن إلى المعركة في دعم عسكري مباشر لغزة، مما دفع تل أبيب وواشنطن إلى التركيز على صنعاء كهدف استخباراتي أولوي.

الفراغ الاستخباراتي:

هزّت هجمات الطائرات المسيرة والصواريخ اليمنية ممرات الملاحة الإسرائيلية، كما ضربت عمق الدولة المحتلّة، مستهدفةً بنى تحتية عسكرية واقتصادية رئيسية، ووصلت إلى مطار بن غوريون. وقد كشفت هذه الجبهة المقاومة غير المتوقعة ما اعترفت به النخب الأمنية الإسرائيلية لاحقًا بأنه فراغ استخباراتي كبير.

نُقل عن إيال بينكو، المسؤول الدفاعي الإسرائيلي السابق والباحث البارز في مركز بيغن-السادات للدراسات الاستراتيجية، وهو مركز أبحاث إسرائيلي، قوله: “لدى (إسرائيل) خبرة طويلة مع هؤلاء الأعداء [إيران وحزب الله وحماس]. هناك معلومات استخباراتية، وهناك عنصر مهم وهو المناورة البرية، وفي اليمن لا نستطيع فعل ذلك. النطاق هنا مختلف “.

حتى 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، لم يُعطِ الموساد ولا جهاز الاستخبارات العسكرية “أمان” الأولوية لأنشطة الاختراق وجمع المعلومات في اليمن. ولكن بعد الهجمات المتواصلة من صنعاء، تحوّلت النقاشات الداخلية الإسرائيلية. وظهرت دعواتٌ لـ”الانفتاح الاستخباراتي” تجاه اليمن لتضييق هامش المفاجأة.

دعا وزير الحرب الإسرائيلي السابق أفيغدور ليبرمان علنًا إلى إنشاء قنوات استخباراتية داخل اليمن، بما في ذلك دعم القوات المحلية بالوكالة لتقويض أنصار الله. وبالمثل، أقرّ مستشار الأمن القومي السابق، يعقوب أميدرور، بأن أجهزة الأمن في تل أبيب أساءت فهم اليمن وحسابات أنصار الله الاستراتيجية بشكل جذري.

جاء هذا التحول متأخرًا جِـدًّا. فقد زعزعت صنعاء بالفعل عقيدة الردع الإسرائيلية، وأجبرتها على توسيع نطاقها الاستخباراتي بشكل محموم.

استهداف اليمنيين عبر الإنترنت:

في ظل الفراغ الاستخباراتي الإسرائيلي بشأن اليمن، بدأت تل أبيب بتعويض ذلك من خلال عمليات تسلل وتجسس معقدة. وصرح مصدر أمني لصحيفة “ذا كرادل” أن “جهود التجنيد تبدأ بالبحث عن يهود يمنيين يجيدون اللهجة الصنعانية أَو غيرها من اللهجات المحلية؛ بهَدفِ استخدامهم كعملاء لجمع المعلومات الاستخبارية من داخل البلاد”.

بالإضافة إلى ذلك، يُسلّط المصدر الضوء على طريقة أُخرى متنامية: الإعلانات الجماعية عبر الإنترنت. تظهر هذه الإعلانات أثناء تصفح مواقع التواصل الاجتماعي، وغالبًا ما تَعِد بمكافآت مالية – تصل إلى مليون دولار – أَو معلومات تُفضي إلى شخصيات من أنصار الله، أَو بيانات مرتبطة بـ”عمليات الدعم البحري”.

بعض الإعلانات تأتي من صفحات مشبوهة تابعة للموساد، لكن بعضها الآخر يأتي من صفحات أمريكية رسمية مثل وزارة الخزانة أَو السفارة الأمريكية، تحت ستار “حماية المصالح البحرية” أَو ضمان أمن الملاحة العالمية.

ويقول المصدر الأمني إن “الهدف هو جمع معلومات استخباراتية عن مناطق أَو أهداف محدّدة مرتبطة بالجبهة البحرية النشطة – أي شيء مرتبط بالقوة العسكرية لصنعاء في ساحة البحر الأحمر”.

يكشف أن بعض الجواسيس المعتقلين تلقوا تدريبات استخباراتية متقدمة في دول أُورُوبية، وعادوا إلى اليمن تحت غطاء منظمات دولية أَو وسائل إعلام أَو وكالات تنمية، مما أتاح لهم قدرة واسعة على الحركة يصعب رصدها في الظروف العادية.

شملت مهامهم الرئيسية مراقبة المواقع العسكرية الحساسة، وجمع معلومات استخباراتية دقيقة عن القوات البحرية، وجمع بيانات تقنية وعملياتية عن الصواريخ والطائرات المسيرة. كما نفذوا عمليات تخريب واغتيال، ونقلوا إحداثيات لتسهيل الغارات الجوية، واستخدموا أجهزة مشفرة، وبرامج تجسس متطورة، وأنظمة اتصالات عبر الأقمار الصناعية يصعب تتبعها بالوسائل التقليدية.

وتشكل هذه العمليات جزءاً من استراتيجية ممنهجة للتسلل إلى اليمن عبر منظمات تبدو ظاهرياً وكأنها تركز على التنمية والتعاون، لكنها في الواقع تعمل كأذرع تجسس وتخريب في القطاعات الاقتصادية والزراعية والتعليمية والأمنية.

وتعمل الشبكات تحت أغطية مختلفة – دبلوماسية، وإنسانية، واقتصادية، وأكاديمية – تخدم مصالح الاستخبارات لوكالة المخابرات المركزية والموساد.

في السنوات الأخيرة، تزايدت الأنشطة المشبوهة في قطاع الإعلام. وتعمل هذه الجهود تحت شعارات جذابة، لكنها تخفي وراءها أجندات أكثر خطورة. يصف الصحفيون أنماط استهداف متكرّرة: منظمات غير حكومية ومؤسّسات ثقافية، وورش عمل في فنادق مغلقة، واستطلاعات رأي تطرح أسئلة مريبة حول الانتماءات السياسية، ودعوات بعد الجلسات لمتابعة خَاصَّة، وعروض غير رسمية لتمويل تحقيقات موجهة.

حتى أن بعضهم تلقى دعوات للسفر أَو مقترحات للانضمام إلى مشاريع إعلامية دولية، ليكتشفوا فيما بعد أنها تخدم أجندات أجنبية.

مُوِّلت معظم هذه المبادرات من قِبَل جهات مرتبطة بالولايات المتحدة، غالبًا عبر دول وسيطة أَو سفارات أَو أذرع ثقافية إقليمية. وقد كشفت المخابرات اليمنية عن مجموعة تعمل تحت اسم “المختبرات” لقيامها بعمليات تجسس مباشرة متنكرةً في هيئة إعلام تنموي.

التجسس في وضح النهار:

تتبع أساليب التسلل التي كشفها موقع “ذا كرادل” نهجًا متناسقًا ومقلقًا. أفاد يمنيون بتلقيهم رسائل غير مرغوب فيها من أرقام هواتف أجنبية – غالبًا ما تحمل رموزًا لدولة إسرائيلية أَو أُورُوبية – تعرض وظائف مربحة في وسائل الإعلام أَو المنظمات غير الحكومية.

في كثير من الأحيان، تنتحل هذه الرسائل شخصيات أكاديميين أَو محترفين، وتستشهد بشخصيات محلية معروفة لبناء الثقة، وتتحقّق من معلومات مفصلة حول المواقع الحساسة، وقادة المجتمع، والبنية التحتية العسكرية.

يتذكر عبد الرحمن، وهو صحفي في صنعاء، تلقيه رسائل من حسابات تُقلّد أصدقاء أَو زملاء على فيسبوك. “بدأ الأمر برسائل خَاصَّة من حسابات بأسماء مألوفة، وأحياناً بصور شخصية لأصدقاء أَو زملاء. لكن عندما راجعتُ الحسابات، وجدتُها جديدة، ونادرًا ما تنشر أي منشورات. ”

طلب أحد الحسابات معلومات حساسة عن زميل له؛ وحاول آخر استدراجه إلى نقاش سياسي قبل نشر رابط مشبوه. يقول: “الأسوأ من ذلك، أن بعض هذه الحسابات استخدمت لغة متطابقة، كما لو كانت تُدار من قِبل نفس المصدر. كما أن استخدام الأسماء والصور الحقيقية زاد من صعوبة كشف الخداع”.

ويحذر سامي من أن الموساد نجح بالفعل في تجنيد عدد من الشباب والشابات خلال الأشهر القليلة الماضية.

في إحدى الحالات السرية التي اطلعت عليها صحيفة ذا كرادل، طُلب من الصحفيين تقديم تقارير مفصلة عن ميدان السبعين، وهو ميدان ذو حساسية سياسية شديدة في صنعاء، وهو هدف متكرّر للغارات الجوية الإسرائيلية. كُلِّفوا بتصوير نقاط التفتيش، وتوثيق استخدامات المباني، وتقييم البنية التحتية للاتصالات.

حرب البيانات تدخل المنزل:

إلى جانب الجواسيس والتصوير السري، يتكشف خرقٌ أكثر صمتًا ومنهجية. يُحدّد عبد الحفيظ مُعجب، المتخصص في الحرب النفسية، نقطتي دخول خطيرتين: العمال الأفارقة غير الموثقين، وانتشار منصات التوصيل غير المنظمة.

ويوضح أن العديد من هؤلاء العمال دخلوا اليمن بشكل غير رسمي ويعملون الآن في أماكن حساسة – الفنادق التي يرتادها المسؤولون أَو داخل المباني الحكومية -، حَيثُ يمكنهم الوصول إلى البنية التحتية الحيوية دون تدقيق.

يقول مُعجب إنّ ما يُثير القلق بنفس القدر هو الانتشار غير المُقيّد لتطبيقات التوصيل في جميع أنحاء المدن اليمنية. هذه المنصات، التي غالبًا ما تفتقر إلى وضع قانوني واضح أَو ملكية معروفة، اندمجت في الحياة اليومية، وتجمع بيانات شخصية مُفصّلة: عناوين المنازل، والتركيبة السكانية للعائلة، وأنماط الاستهلاك، وحتى تفضيلات الوجبات.

تعمل هذه الشركات سرًا، وتتوسع من خلال الخصومات والعروض الترويجية الرقمية دون رقابة من وزارتي النقل والاتصالات. يكمن الخطر في الأسئلة التي لا أحد يُجيب عليها: من يجمع هذه البيانات، وأين تُخزَّن، وإلى من تصل؟

يُردّد سامي هذا التحذير. ويقول إن حرب الاستخبارات تتحول إلى أساليب جديدة وأكثر خبثًا. تُكمّل تطبيقات العمالة المهاجرة غير المنظمة وخدمات التوصيل عمليات الخداع الرقمي التي تجند اليمنيين عبر إعلانات وظائف وهمية، وأرقام أُورُوبية وأمريكية، ومخطّطات هندسة اجتماعية – وكلها تخدم أجهزة استخبارات معادية.

تفكيك شبكات التجسس:

بحسب أجهزة الأمن في صنعاء، فُككت أكثر من 1782 خلية تجسس، وأُلقي القبض على 25665 شخصًا بتهمة التعاون مع جهات استخباراتية أجنبية، بين عامي 2015 ومارس 2024. وفي يناير 2025، كشفت السلطات عن اعتقال خلية تجسس تعمل لصالح جهاز المخابرات البريطاني (MI6) والمخابرات السعوديّة؛ بهَدفِ تقويض دعم اليمن لغزة.

قبل أَيَّـام، أُلقي القبض على خلية مشتركة بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والموساد في صعدة، استهدفت منشآت ومراكز قيادة للطائرات المسيرة. وفي مايو/أيار 2024، نُفذت العملية الأبرز بتفكيك “الوحدة 400″، وهي شبكة تجسس أمريكية إسرائيلية تعمل على الساحل الغربي لليمن.

مهمتها: اختراق الدفاعات الداخلية وتحديد مواقع إطلاق الصواريخ وقيادتها. شكّل تدميرها ضربةً قاصمة لدقة الغارات الجوية لواشنطن وتل أبيب.

قانون الصمت:

يجد اليمن نفسه الآن في حرب من نوع مختلف – حرب تُشنّ عبر الهمسات والتطبيقات والمنظمات غير الحكومية وإعلانات الوظائف الوهمية. تحاول واشنطن وتل أبيب اختراق النسيج الاجتماعي والفضاء الإعلامي لبلدٍ كان، حتى وقت قريب، يُنظر إليه على أنه لاعب هامشي.

لكن التهديدات التقليدية تتسارع هي الأُخرى. في 23 يوليو/تموز، أفادت القناة 14 الإسرائيلية أن جيش الاحتلال يُعِدّ لما أسمته “هجومًا كبيرًا” على اليمن، في انتظار الضوء الأخضر من القيادة السياسية الإسرائيلية. ووفقًا للتقرير، فإن المؤسّسة الأمنية في تل أبيب “تعمل على مدار الساعة على خطة هجومية كبيرة” ضد حكومة صنعاء.

ومع ذلك، لا يزال اليمن يُشكّل التوازنات الإقليمية، والمقاومة التي يُثيرها ليست عسكرية فحسب، بل ثقافية وإعلامية، ومتجذّرة في مجتمعٍ ثبت صعوبة رسم خرائطه أَو اختراقه أَو التنبؤ به.

وردًا على هذه التهديدات المتعددة الطبقات، أطلقت وزارة الإعلام في صنعاء حملة توعية عامة بعنوان ” ميدري ” – وهي عبارة عامية يمنية تعني “لا أعرف” – عبر منصات مثل تيليجرام، وإكس، وفيسبوك، وإنستجرام.

تحثّ الحملة المواطنين على عدم الكشف عن معلومات حساسة على الإنترنت. وينشر حسابٌ مُخصّصٌ بانتظام مقاطع فيديو تُحذّر من التنصت على الهواتف والتصيد الاحتيالي ومخاطر خدمات الأقمار الصناعية مثل ستارلينك، التي يزعم المسؤولون أنها قد تُستغلّ من قِبَل الجيوش المُعادية.

ما بدأ كمصطلح شائع، أصبح منذ ذلك الحين مبدأً للأمن السيبراني وركيزةً أَسَاسيةً في حملة السيادة اليمنية. في بلدٍ يُصبح فيه الغموض درعًا، والتهرب غريزة بقاء، لم يعد “ميدري” مُجَـرّد رد فعل سلبي.

إنها عملية مقاومة متعمدة تحمي النسيج الاجتماعي اليمني من الاعتداءات المعادية وتؤكّـد أن جبهته الداخلية ليست مكشوفة وليست للبيع.

قد يعجبك ايضا