لماذا الموتُ لأمريكا؟ أمريكا بين أخلاق السياسة وسياسة بلا أخلاق

 

سعت أمريكا إلى تقديم نفسها للعالم بوصفها حاملة الخلاص للإنسانية، والنموذج المطلق لقيادة العالم، وعملت ذلك من خلال اعتماد مسارين مختلفين، متناقضين أشد التناقض، ففي المسار الأول:- قدمتها الماكينة الإعلامية الغربية والأُخرى الموالية لها، في طهر الملائكة، وإيمان القديسين، وتقوى العارفين، وتضحيات الأبطال، صانعة من ذلك الخليط صورة مضطربة، تدّعي أنها صورة الإنسان الكامل، والنموذج المثالي المطلق، الذي يناط إليه دون سواه، حمل مشروع الخلاص، وصناعة مستقبل البشرية، مقدماً من خلال تعميم نموذجه الحضاري، يد العون لتلك الشعوب، لتجاوز مظاهر تخلفهم، ويساعدهم على اللحاق بركب الحضارة الأمريكية، وتحقيق السعادة والرفاه والرقي والتطور.

وفي المسار الثاني:- تقدم السياسة الأمريكية -نفسها- من خلال ممارساتها، في صورة مغايرة لسابقتها تماماً، خالية من أي مظهر للفضيلة، ويطغى عليها قبح العنصرية والتوحش والإجرام والإرهاب، بما تحمله نزعتها الاستعمارية، القائمة على الاستعلاء ومركزية الذات، مقابل إلغاء وتهميش وإقصاء ومحو الآخر، ومنح الذات الحق المطلق بالتدخل في شئون الآخر، وتقرير مصيره نيابة عنه، وُصُـولاً إلى الحق في صياغة ملامح العالم وجودياً وسياسيًّا، بما يخدم المصالح الأمريكية الاستعمارية، بشتى الوسائل والطرق، دون مراعاة لأي قدر من الأخلاق أَو القيم أَو الضوابط، عملاً بمبدأ الغاية تبرّر الوسيلة.

وبين ادّعاء الفضيلة في أبهى تجلياتها، وممارسة الرذيلة في أقذر صورها، تقف أمريكا في صورتها الحالية وتموضعها الراهن، بما تنطوي عليه من التناقض المزري والشيزوفيرينيا الحادة، ولا يقف التناقض عند مستوى معين في هذه الصورة، بل يمتد وينمو كورم سرطاني باستمرار، ليصل إلى حالة من العبث السياسي والفكري العلني، وَإذَا كانت الإدارة الأمريكية قد حاولت تلافي تناقضاتها وهفواتها وسقطاتها الكبرى، بسلسلة من الاعتذارات عن جرائمها وأخطائها، مثلما فعلت بعد احتلالها للصومال والعراق وغيرهما، فإنها الآن في عهد ترامب لم تعد تتحرج من تناقضاتها وعنجهيتها وتكبرها، وإعلان مشاريعها الاستعمارية على الملأ، دون خجل أَو حياء أَو خوف من ردة فعل الشعوب، وهنا تبلغ عقد النقص الأمريكية ونفسيتها المريضة، ذروة اضطرابها وشيزوفيرينيتها، على كافة المستويات والأصعدة.

أنكرت أمريكا الدين، وحاربت التدين، وأعلنت العلمانية نهجاً، وقامت -في نفس الوقت- معطيات الدين ونصوصه لتأكيد هيمنتها، وشرعنة تسلطها، وتبرير حروبها وجرائمها بحق الشعوب، مدعية أن غزوها العراق بأمر الرب، واحتلالها لمختلف البلدان، وإشاعة القتل والدمار فيها، تنفيذ لمشيئته، وتتجلى المفارقة الأغرب -في هذا السياق- في التمثيلية الهزلية التي قام بها الرئيس الأمريكي ترامب، حين وقف على باب الكنيسة، رافعاً الكتاب المقدس بيده، ليوجه بذلك رسالة إلى المتظاهرين، مستجدياً عاطفتهم الدينية، معتبرًا خروجَهم عليه مخالفة لله والدين، بعد أن عجز عن احتوائهم وقمعهم عسكريًّا، ورغم أحقية المطالب ومشروعية المظاهرات، التي خرجت ضد التمييز العنصري والعرقي، عقب إقدام شرطي أبيض بقتل مواطن أسود خنقاً، بدم بارد، بعد اعتقاله وتكبيله بالقيود، في مشهد ينم عن وحشية وعنصرية وعنجهية لا حدود لها، وبدلاً من أن تقوم الإدارة الأمريكية باستدعاء ومعاقبة الشرطي الأبيض، والاعتذار للشعب الأمريكي، وكافة شعوب العالم عن تلك الصورة المقززة من العنصرية المقيتة، جاء خطاب ترامب مخيباً للآمال، حاملاً لعبارات التهديد والوعيد والتحريض ضد المتظاهرين، داعياً حكام الولايات إلى استخدام قوة الجيش في قمع المتظاهرين، وقتلهم إن لزم الأمر.

كانت العلمانية هي المنفذ الذي عبّرت من خلاله الإدارة الأمريكية إلى فضاء سياستها الرأسمالية، ومنطقها البراغماتي النفعي، الذي لا يعترف بأدنى مستوى من القيم والأخلاق والمبادئ، ويرفض الالتزامَ بأي شكل من أشكالها، الأمر الذي جعل أمريكا تقع في مأزق أخلاقي على المستوى المحلي والدولي، حيث فصلت سياستها عن المضمون الأخلاقي، وغاب عن مفرداتها مفهوم الواجب، في الوقت الذي تعلن فيه زعامتها للعالم، وتبشر بحلم الخلاص للبشرية جمعاء؛ لذلك سارعت إلى تبني مجموعة من المفاهيم السياسية في سياقها الأخلاقي المثالي، وعملت على تعميمها على بقية الشعوب، من منطلق الواجب، بوصفها -حَــدَّ زعمها- إحدى مفردات التجربة السياسية الأمريكية في سياقها الحضاري؛ ولأَنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، سرعان ما وقعت أمريكا في مستنقع تناقضاتها، فشتان بين ما تدعيه من أخلاق السياسة نظرياً، وما أسفر عنه تطبيقها من انحطاط ووحشية، وبذلك فشلت أمريكا في إكساب مشروعها السياسي نظريةً أخلاقية، نظراً لتعارض ماهية المشروع السياسي الإمبريالي الرأسمالي النفعي، في أسوأ تموضعاته قذارة ووحشية، مع ما يتضمنه الطرح النظري من فصيلة الأخلاق وشرف الواجب.

انطوت النظرية الأخلاقية الأمريكية المزعومة، على عدد من المفاهيم السياسية، التي تحمل في طياتها قيماً أخلاقية، تعكس مستوى معيناً من الواجب والالتزام الأخلاقي تجاه المجتمع في صيغته العامة، ومن تلك المفاهيم، الحفاظ على السلام والأمن العالمي، وهذا مفهوم ينطوي على قدر كبير من المسئولية، ويحمل قيمة أخلاقية عالية، لكن تطبيق أمريكا لهذا المفهوم، أسفر عن متوالية لا نهائية من الحروب والصراعات والمشاكل والمخاطر، التي هدّدت السلام والأمن العالمي فعلاً، وأصبحت أمريكا هي مصدر الخطر الأول، وكذلك الشأن فيما يتعلّق بمفاهيم محاربة الإرهاب والعنصرية، ونشر الحرية والديمقراطية، حيث عملت على إعادة صياغة تلك المفاهيم وفقاً لرغباتها، وخدمة لمشاريعها ورؤيتها الاستعمارية؛ ولذلك أصبحت في عرف السياسة الأمريكية، مقاومةُ المحتلّ المشروعة، والنضال ضد الاستعمار، إرهابًا يهدّد أمن المجتمعات؛ لأَنَّه في الحقيقة يهدّد مركز الهيمنة والتسلط الاستعماري، وكذلك الحال بحق كُـلّ من يقف في وجه أمريكا، ويناهض مشاريعها الاستعمارية وصلفها، فهو إرهابي ومجرم، يمثّل خطراً وجودياً على البشرية، حسب قاعدة “من لم يكن معنا فهو ضدنا”، ومن كان ضد أمريكا، فهو عدو البشرية، كما تروج لذلك، جاعلة من نفسها مركزاً سلطوياً مطلقاً، ومتحدثاً رسميًّا باسم العالم بأسره، في أقبح صورة من صور الاستعمار الفكري، وإلغاء أي قيمة أَو مكانة أَو دور للآخر المتحالف معها، ناهيك عن المخالف لها.

ورغم محاولات أمريكا التظاهر بتحللها من عنصريتها، ومحو جرائمها بحق السكان الأصليين للقارة الأمريكية، وبحق مختلف شعوب العالم، ورغم ادعائها محاربة العنصرية، بإصدار القوانين الشكلية، التي تحرم وتجرم كُـلّ مظاهر التعصب والعنصرية، إلا أنها وقعت كعادتها في شرك التناقض، بين ما تدعيه وما تمارسه، وبقيت سلوكياتها وأفعالها هي الشاهد الأقوى على حقيقة عنصريتها المقيتة، سواء فيما بين أبناء المجتمع الأمريكي أنفسهم، السود والبيض، أَو على مستوى تفضُّل الأمريكي على غيره من الجنسيات المختلفة، ولم تكن هذه هي المحطة الأخيرة في مسلسل العنصرية، التي تمثل روح الإمبريالية الأمريكية، وحقيقة وجودها، وطبيعة سياستها ودورها، الذي أشعلت من خلاله، مختلف بلدان العالم بالصراعات والنزاعات والحروب الطاحنة، تحت مسميات لا تخرج عن حقيقة العنصرية، سواء أكانت مذهبية أَو طائفية أَو عرقية أَو حزبية أَو سلالية أَو غيرها، بل تجاوزت كُـلّ ذلك لتعمل علناً على رعاية وحماية الكيان الصهيوني الغاصب المحتلّ، الذي يعد التجسيد الأبرز للتعصب والعنصرية، لتقدم له كُـلّ أشكال الدعم، وكل وسائل الحماية والرعاية اللامحدودة.

لم تكن مفاهيم كالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، بمنأىً عن التوظيف السياسي الإمبريالي الأمريكي، حيث استعبدت أمريكا الكثيرَ من الشعوب، تحت مسمى تحريرها، وتمكينها من حقها في تقرير المصير، لكنها حرية على الطريقة الأمريكية، ليس فيها سوى الهدم وتدمير مؤسّسات الدولة، وكافة البنى التحتية، بالإضافة إلى هدم المجتمعات دينياً وأخلاقياً وثقافياً واجتماعياً، وتعزيز الفُرقة والشتات والاستلاب، وقتل الهُوية وروح الانتماء، لتسود أخلاقيات وممارسات سلبية، كالتفسّخ والانحلال والعمالة، وغيرها من الرذائل، كسلوكيات عامة، تحت مسمّى الحرية الشخصية، وحرية التعبير والرأي والاعتقاد، وبذلك أصبح الزنا حرية شخصية، والكفر والإلحاد تعبيراً عن الرأي، يحظى بالحماية والرعاية القانونية من دولة الحرية الأولى، بينما أصبحت مناهضة السياسة الأمريكية، ومقاومة مشاريعها الاستعمارية، تمرداً وإرهاباً وخطراً، يهدّد أمن وسلامة المجتمع والعالم، ويعد القضاء عليه من أولويات مهام الإدارة الأمريكية، كما أن التدين والتمسك بالدين، أصبح مظهراً من مظاهر التخلف والإرهاب، بينما الإلحاد ومحاربة الدين والكفر، من صميم التطور والتقدم الحضاري والإنساني.

لعلنا لا نغالي إذَا قلنا إن أمريكا هي الشيطان الأكبر، وهي الخطر الوجودي الحقيقي الأول، الذي يهدّد أمن وسلامة العالم عامة، والمجتمعات العربية والإسلامية خَاصَّة؛ لأَنَّها تحمل المشروع الشيطاني، القائم على إشاعة مشاريع الهدم والقتل والخراب والدمار، والانحلال الأخلاقي والديني والقيمي، حيث تسعى أمريكا -وتاريخها حافل بالقتل والإجرام- من خلال مشاريعها الاستعمارية، وتعاليها السلطوي، إلى تحقيق الهيمنة المطلقة على الشعوب قاطبة، وتدجينها وجعلها تابعة مستلبة مطلقاً، ليتسنى لها بعد ذلك تحقيق سيادة دولة الشيطان، ومحاربة الله في أرضه، وتعبيد عباده للشيطان علناً، وما خفي كان أعظم.

لهذا وغيره صرخنا بالموت لأمريكا، وسنظلُّ نصرخ في وجه هذا المشروع الشيطاني الهدام:

الله أكبر.

الموت لأمريكا.

الموت لإسرائيل.

اللعنة على اليهود.

النصر للإسلام.

قد يعجبك ايضا