المحاضرة الرمضانية الثامنة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1441هـ

 

أُعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.

أيُّها الإخوة والأخوات: السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

وتقبَّل الله منا ومنكم الصيام والقيام وصالح الأعمال.

اللهم اهدنا وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

نواصل الحديث في هذه المحاضرة عن غزوة بدرٍ الكبرى، وعلى أساس التقديم لهذه الغزوة من خلال الآيات القرآنية المباركة، والتي اختلف اسلوبها في تقديم هذه الغزوة عن طريقة أصحاب السِّير والتاريخ؛ لأن القرآن الكريم كتاب هداية، فهو قدَّم هذه الغزوة وضمَّنها الدروس والعبر، والتعليمات المهمة، التي تحتاج إليها الأمة، وتستفيد منها الأمة جيلاً بعد جيل إلى آخر أيام الدنيا.

ونحن كمسلمين في أمسِّ الحاجة إلى العودة إلى القرآن الكريم، وإلى أن نستفيد منه في النظرة إلى الجهاد في سبيل الله، هذه الفريضة العظيمة التي لقيت من جانبٍ: تثبيطاً، وتخذيلاً، وإعراضاً، وتجاهلاً، وشطباً، وإلغاءً، حتى كأنها ليست من فرائض الإسلام، وكأنها لم ترد عنها ولا حتى آية واحدة في كتاب الله، ولقيت من جانبٍ آخر: تشويهاً شنيعاً، حتى قدِّمت بشكلٍ بشعٍ، وبشكلٍ مشوِّهٍ للإسلام نفسه، وبشكلٍ يقدِّم أسوأ صورة ممكنة عن الإسلام، وعن الدين الإسلامي، وعن فرائضه، وعن تعليماته، وعن توجيهاته، كما فعل ذلك التكفيريون، التكفيريون هم قدَّموا ولا زالوا يقدِّمون صورةً مشوَّهةً سوداء عن مفهوم الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى-.

بعودتنا إلى القرآن الكريم، ومن خلال الآيات المباركة التي تحدثت عن الجهاد بشكلٍ عام، أو قدَّمت لنا الغزوات والجهاد في حياة رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله-، وهو القدوة والأسوة، وما ضمَّنته مع هذا العرض من دروس وتعليمات وتوجيهات، تقدِّم لنا صورةً إيجابيةً مكتملةً راقيةً عظيمةً عن هذه الفريضة المقدَّسة، التي لا بدَّ منها؛ لكي تحظى الأمة بالمنعة والقوة، ولتدفع عن نفسها أخطار العدو، ولتصون أمنها واستقرارها، ولتحافظ على استقلالها وكرامتها، ولتكون أمةً عزيزة تدفع عن نفسها الذل والاستعباد.

سورة الأنفال هي السورة التي عرضت إلى حدٍ كبير غزوة بدرٍ الكبرى، وكما قلنا عرضاً تضمن الدروس والعبر والتعليمات التي تحتاج إليها الأمة في كل أجيالها، وفي كل مراحلها، وفي مواجهة كل التحديات الحاضرة والمستقبلية.

يقول الله -سبحانه وتعالى-:

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }[الأنفال: الآية1].

تاريخياً بدأت بالعرض من حيث انتهت المعركة، ما بعد المعركة، حيث تشاجر البعض من المسلمين من المجاهدين الحاضرين في تلك الغزوة، تشاجروا على الأنفال، وساء ذات بينهم، وسألوا رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- من موقع الخصومة التي دارت بينهم، والتشاجر والحساسيات التي نتجت عن التركيز على موضوع الغنائم، عندما حرص البعض أن يحصل على قصدٍ وافر، وأصبحت المسألة حسَّاسة، أثَّرت على ذات بينهم.

الدروس: القرآن الكريم جعل المدخل إلى مسألة الجهاد في سبيل الله -سبحانه وتعالى- في هذه السورة المباركة، من نقطةٍ مهمةٍ جداً: فالجهاد في سبيل الله ليست مجرد عملية عسكرية تنطلق فيها وأنت تحمل هاجس النصر والغنيمة، إنما هي مسيرةٌ عظيمةٌ مقدَّسةٌ، تنطلق معتمدةً على أسس، وعلى مبادئ، وعلى تعليمات، وعلى أخلاق، وعلى قيم، وأول خطوةٍ فيها في هذه السورة المباركة هي: التجرد من الأطماع المادية والمكاسب والمقاصد الشخصية.

وفي القرآن الكريم حديثٌ واسع يركِّز على هذا الجانب في صياغة الشخصية المسلمة، وفي بناء الإنسان المجاهد في سبيل الله -سبحانه وتعالى-؛ كي يتطهر من الطمع، كي يخلص من التوجه الذي يغلب عليه المقاصد والمكاسب الشخصية والأنانيات، مثل هذا التوجه الخاضع للطمع، ومثل هذا التوجه الذي يركِّز بشكلٍ رئيسي على المقاصد والمكاسب الشخصية، سيؤثر سلباً على المسيرة الجهادية، التي تحتاج إلى الألفة، وإلى التعاون، وإلى تظافر الجهود، وإلى أن تكون الأمة والقوة التي تتحرك في هذا العمل المهم أن تكون متآخية بالأخوة الإيمانية، أن تكون متعاونة، أن تكون متظافرةً في جهودها، أن تكون متآلفةً، أن تكون مستويات التعاون والتنسيق بينها على أرقى مستوى، وأعلى مستوى.

إذا دخلت المكاسب والمقاصد الشخصية، وحضرت الأطماع المادية، وغلبت الأنانية؛ فهذا سيوجه ضربة قاضية لما لا بدَّ منه للنجاح في العمل في سبيل الله، من ألفة، من تعاون، من تنسيق، من تآخٍ، يساعد على العمل الجماعي؛ لأن العمل في سبيل الله هو عمل جماعي، ومسؤولية جماعية، وحينها لا يمكن النجاح، النتيجة التي تترتب على فساد ذات البين، على ضعف التعاون، على الخلل في الألفة، على الخلل في التنسيق، على الخلل في تظافر الجهود، التي تسبب الخلل في مدى اللحمة والتعاون، هي ستكون نتيجةً حتميةً هي الهزيمة، الهزيمة ستكون هي النتيجة الحتمية لذلك.

فالموضوع مهم جداً بكل الإعتبارات، كقيمة أخلاقية ودينية وإيمانية؛ لأن من أهم ما يركِّز عليه الإيمان في العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين هو: إرساء دعائم الأخوة، والمحبة، والمودة، والاستقرار، والتعاون، والألفة، وعندما تأتي الحساسيات والنزاعات والخلافات، هي تفسد ذات البين، ثم تؤثِّر على التعاون، وهذا بلا شك.

فالله -سبحانه وتعالى- يربينا في القرآن الكريم على أن نتجرَّد من الأطماع، أن نتخلص من المقاصد الشخصية، والأنانيات، وهو في نفس الوقت سيمنُّ علينا هو من واسع فضله؛ لأنه عندما قال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}، بعد أن يجرِّد الشخصية المسلمة من الأطماع، والمقاصد الشخصية، والمكاسب الشخصية، هو لا يحرمها من ذلك، في نهاية المطاف إنما تتجه الأنفال التي هي لله والرسول، وما يمنُّ الله به سواءً على مستوى الغنائم أو غيرها، إنما يتجه في نهاية المطاف إلى ما يمثل عاملاً مساعداً لتنفيذ المسؤوليات والأعمال، فرعاية الله تتجه إلى عباده، والخير من الله -سبحانه وتعالى- واسع، والبركة واسعة، إذا تجرَّد الناس من الأنانيات، والأطماع، والحساسيات الشخصية، والتنافس على الغنائم.

ثم يرسِّخ عندنا هذه النظرة، ويقررها كحكمٍ شرعي: أنها لا تعود إلى الملكية الشخصية أبداً، لا يتجه الإنسان ابتداءً وهو يرى أن له فيها ملكية شخصية، أو استحقاق شخصي، وأنَّ هذه النظرة إذا تعامل الإنسان على ضوئها، وأخذ شيئاً بناءً على ذلك، أو طمع شيئاً بناءً على ذلك، فهذا يعتبر من الغلول، ومن الخيانة التي نهى الله -سبحانه وتعالى- عنها، فهي بدءاً تدخل في إطار الحق العام، على هذا النحو الذي يخضع لتوجيهات الرسول وتعليماته كقائدٍ للمسلمين، وهذا ما يزيح عن الناس التنافس والحساسيات، إذا بقيت المسألة مسألة أطماع ومكاسب شخصية، سيترتب عليها الحساسيات الكبيرة، والفتن، والتنافس غير الإيجابي، التنافس السلبي، التنافس غير الشريف، التنافس المطبوع بالطابع المادي والطمع.

{فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، الأمر بتقوى الله -سبحانه وتعالى-، وبصلاح ذات البين، وبالطاعة لله والطاعة لرسوله -صلوات الله عليه وعلى آله-، ركائز أساسية في العمل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، وتتحقق عليها النجاحات، ويبنى عليها الخير كله، سيأتي الخير، وتأتي الأنفال، وتأتي الغنائم، وتأتي الانتصارات، ويأتي التمكين الإلهي، ويأتي الرزق والبركة من الله -سبحانه وتعالى-، ويترتب عليها كل خير، وهذا ما يجب أن نرسِّخه؛ لأن البعض يكون مهووساً وراء أن يسعى هو شخصياً إلى أن يحقق مثل هذه المكاسب، وتتحول حالة الطمع لديه، والتنافس غير الشريف على اقتناء الغنائم، أو الحصول على مكاسب مادية من وراء عمله وتحركه في سبيل الله، تتحول إلى سلوك سلبي، وسلوك هدَّام، وسلوك يخرِّب حالة الألفة والتعاون، وسلوك يؤثِّر في نهاية المطاف على زكاء النفوس، وعلى التأييد الإلهي، وسلوك يؤثِّر حتى على النجاح في الميدان، يؤثر على النجاح في الميدان؛ لأنه يتحول إلى هدف، يوم تحوَّلت المكاسب المادية والحصول على الغنائم إلى هدف في معركة أحد؛ سببت هزيمة المسلمين، والإسلام يربي تربية عالية وعظيمة وأخلاقية وناجحة عملياً، فتبقى الذهنية، ويبقى التركيز، ويبقى التوجه على نحوٍ يساعد على النجاح، يوم يتجه إلى الغنائم، يوم يتجه إلى الأطماع والمكاسب المادية، لا يمكن أن يحقق نجاحاً في الواقع العملي.

فالتقوى لله -سبحانه وتعالى- لا بدَّ منها؛ لأنها تجعل الإنسان يتعامل بمسؤولية، وليس بأطماع، وليس بأنانيات، وليس بأهواء، وليس بمقاصد ومكاسب شخصية، إنما يتحرك في إطار عمله في سبيل الله -سبحانه وتعالى- بمسؤولية، فهو يدرك أنه مسؤولٌ أمام الله، فيلتزم وينضبط وفق التعليمات والتوجيهات الإلهية.

العناية بصلاح ذات البين، لا بدَّ من تقوى الله حتى في ذلك، حتى في صلاح ذات البين؛ لأن البعض ممن هو ناقص الإيمان، وناقص الوعي، يستهتر بأهمية هذه المسألة، ولا ينظر إليها بما تمثله من أهمية كبيرة، وعامل في النجاح، وقيمة إيمانية وأخلاقية، فبكل بساطة لا مشكلة عنده في أن يسوء ذات البين، يعني: العلاقة فيما بين المؤمنين، العلاقة فيما بين المجاهدين كمجاهدين، كمجتمع يتحرك في سبيل الله -سبحانه وتعالى-.

صلاح ذات البين من الأمور المهمة الإلزامية، ويعتبر الاهتمام بها من ضمن الالتزامات الدينية الإيمانية، فالإنسان الذي هو مؤمنٌ حقاً، وصادقٌ مع الله -سبحانه وتعالى-، سيحرص على صلاح ذات البين، وسيحرص أن تكون العلاقة الأخوية مع بقية أبناء مجتمعه المؤمن وإخوته المؤمنين والمجاهدين والعاملين في سبيل الله علاقةً أخويةً إيجابيةً سليمة، ويسعى لصلاح ذات البين، بكل ما يساعد على صلاح ذات البين: من حسن التعامل، من بذل المعروف، من الاحترام المتبادل، من الإنصاف عند الخطأ، من العدل في المعاملة… بكل ما يساعد وهي تعليمات كثيرة جعلها الله -سبحانه وتعالى- سبباً لصلاح ذات البين.

ويحذر في نفس الوقت مما يفسد ذات البين، مما يفسد العلاقة الأخوية: من سوء تعامل، من أوهام، من سوء الظن، من تصرفات سيئة، من معاملات سلبية ظالمة… كل التصرفات، وكل التأثيرات النفسية التي تفسد ذات البين يتجنبها ويحذر منها، فهذه مسألة مهمة جداً، وهي تدخل ضمن الالتزامات الإيمانية، بمعنى: أنَّ من يخل بها، من يستهتر بها، ومن لا يلتزم بها، فهو يبرهن على أنه ليس بمؤمنٍ حقاً، أنه ناقص الإيمان، لم يصل بعد إلى مصداقية تامة مع الله -سبحانه وتعالى- في انتمائه الإيماني، ولا يبرر للإنسان وجود إشكالات في الواقع العملي أن يتعامل مع ذلك بإفساد ذات البين، لا يبرر ذلك أبداً؛ لأن هذا يخالف توجيهات الله وتعليمات الله -سبحانه وتعالى-، طريقة التعامل مع الإشكالات هي: الحلول بأسلوب عملي، المعالجة بطريقة عملية، وليس بإفساد ذات البين، وليس بنشر البغضاء، والكراهية، والكلام السيء، وتعزيز حالة سوء الظن، وتوجيه الاتهامات، وكذلك نشر الكلام السلبي الذي يهدم هذه الحالة من الأخوة الإيمانية، التي هي فريضة  إيمانية بحد ذاتها، فصلاح ذات البين من ضمن الالتزامات الإيمانية التي يجب أن تراعى إيمانياً، بدافعٍ إيماني كطاعةٍ لله -سبحانه وتعالى-، والتزامٍ بتوجيهاته وتعليماته -سبحانه وتعالى-، وأنَّ أيَّ أسلوبٍ آخر يخالف ذلك في التعامل مع الأمور مع القضايا في معالجتها، هو مخالفةٌ لهذا التوجيه الإلهي.

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ لأن الالتزام العملي والطاعة هي التي لا بدَّ منها تجاه كل هذه التوجيهات، الإنسان الذي يسمع ثم لا يطبِّق، لا يلتزم، لا يعمل، ليس بمؤمنٍ حقاً، أو يطبِّق جزئياً ويرفض الجزء الآخر بحسب مزاجه الشخصي، لا يجوز أبداً أن يكون المزاج الشخصي هو الذي يحكم عملية الالتزام والتنفيذ العملي، لا يجوز ذلك، يجب أن يكون الإنسان مطيعاً لله -سبحانه وتعالى- طاعةً تامة، قانتاً لله، وأن يتعامل مع هذه التوجيهات سواءً في صلاح ذات البين، أو في تقوى الله -سبحانه وتعالى- والالتزام بتقواه في أداء المسؤولية، أو في التجرد من المقاصد الشخصية، والأطماع الشخصية، والأطماع المادية، يجب التعامل بطاعة وتنفيذ لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-، وأن تكون عملية الالتزام هي الطابع الذي يحكم الواقع العملي، والتنفيذ في مسار العمل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-،

{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، إن كان الإنسان مؤمناً حقاً فمصداقية إيمانه تتجلى من خلال هذا الالتزام: الالتزام بتقوى الله، الالتزام بصلاح ذات البين، الطاعة في الواقع العملي وفي مسار العمل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: 2-4].

مسيرة الجهاد في سبيل الله هي مسيرة إيمانية، يجب أن تكون منطلقاتها إيمانية، إذا غاب الدافع الإيماني والمنطلق الإيماني، تحول العمل في سبيل الله إلى عمل روتيني، وعمل تحكمه أطماع وأهواء، فيمثل هذا إنحرافاً يترتب عليه سلبيات كثيرة في الأداء العملي، وتتحول المسألة إلى مسألة أخرى خارجة عن مفهوم الجهاد في سبيل الله، عمل لتحقيق المطامع، للحصول على مناصب، للحصول على أموال، للحصول على مكاسب شخصية، وبسلوكيات سلبية غير إيمانية، خارجة عن الاستقامة؛ حينها يحصل الظلم، حينها يحصل الفساد، حينها يحصل الشتات، حينها تظهر السلبيات الكثيرة، وهذا غير مقبول أبداً، ولا يمثِّل الجهاد في سبيل الله، فالجهاد في سبيل الله هو عمل إيماني، منطلقاته إيمانية، دوافعه يجب أن تكون إيمانية، والالتزام فيه في كيفية الأداء، في عملية التنفيذ، في كل تفاصيلها، يجب أن تكون محكومةً بالإيمان، الإيمان أخلاق، الإيمان تشريع، الإيمان كذلك توجيهات وتعليمات، الإيمان ضوابط يلتزم بها الإنسان.

فالمؤمنون حقاً هم الملتزمون بهذا، وهم من: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}؛ لاستشعارهم لعظمة الله، لخوفهم من الله، لمحبتهم لله، لرجائهم في الله، قلوب ملؤها الإيمان، الإيمان حاضرٌ فيها، يحل محل الأطماع، محل الأنانيات، إيمانٌ يعمر هذه القلوب ويؤثِّر فيها، فإذا ذكر الله، وذكر الله -سبحانه وتعالى- هو ذكرٌ في مقام العمل، في مقام المسؤولية، في مقام العبادة والطاعة؛ وبالتالي تتأثر وتتقبل، الإنسان الذي يوجل قلبه من ذكر الله -سبحانه وتعالى-، إذا ذُكِّر بالله حتى في حالة الغفلة التي كان فيها قد خالف، أو أخطأ في شيءٍ ما، أو كان توجهه في موضوعٍ ما توجهاً خاطئاً، فهو بالتذكير له بالله -سبحانه وتعالى- يتأثر، ويخاف من الله -سبحانه وتعالى-؛ فيتقبل، وينضبط، ويلتزم، ويطيع الله -سبحانه وتعالى-، وينفِّذ تلك التعليمات مهما كانت مخالفةً لهوى نفسه، مهما كان بمزاجه الشخصي لا ينسجم معها، مهما كان في حالة غضبٍ وانفعال، أو في حالة اغراءٍ وأطماع، أو في حالة مخاوف ضاغطة سلبية، فالتذكير له بالله -سبحانه وتعالى- يترك أثراً إيجابياً في نفسه يساعده بل يدفعه إلى الالتزام العملي.

{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، فهم إذا ذُكِّروا بآيات الله -سبحانه وتعالى- يزداد وعيهم، يزداد فهمهم، تزداد بصيرتهم، تزكو نفوسهم، يتأثَّرون؛ فيتقبَّلون، وفي نفس الوقت تتجلى لديهم الحقائق في الواقع العملي بما يزيدهم بصيرةً، بما يزيدهم قناعةً، بما يزيدهم يقيناً، فزيادة الإيمان عند التذكير بآيات الله هي زيادةٌ في الوعي، زيادةٌ في الفهم، زيادةٌ في البصيرة، زيادةٌ في المعرفة، زيادةٌ في زكاء النفس، زيادةٌ في إصلاح الإنسان وتهذيبه، وتصحيح وتصويب تصرفاته وأعماله وسلوكياته ومواقفه، وفي تصحيح توجهاته واندفاعاته ومنطلقاته، وهي أيضاً تجلٍ في الواقع بشكل حقائق تظهر في الواقع العملي، ونتائج تظهر في الواقع العملي، تمثل شواهد لتلك الآيات التي سمعها الإنسان في كتاب الله -سبحانه وتعالى-؛ فيزداد يقيناً بهدي الله وبآيات الله -سبحانه وتعالى-.

{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، وهم يعتمدون بشكلٍ أساسيٍ وتامٍ وكاملٍ على الله -سبحانه وتعالى-، اعتمادهم على الله -سبحانه وتعالى- كلياً من منطلق الثقة بالله -سبحانه وتعالى-، من منطلق الالتجاء إلى الله -سبحانه وتعالى-، والاعتماد عليه، والأمل بفضله، والرجاء فيما وعد به، ولذلك لا يعتمدون على أنفسهم، ولا ينطلقون من حسابات يرتكزون فيها على ما يؤملون أن يحققوه شخصياً، بل كل اعتمادهم على الله، وتوكلهم على الله -سبحانه وتعالى-، هذا التوكل الذي يساعدهم على الانطلاق في مواجهة التحديات مهما كانت، في عدم التأثر بالمخاوف والاعتبارات الأخرى، فمثلاً: الخوف من الفقر، أو الخوف من الظروف الصعبة، أو الخوف من نفاد ما يمتلكونه أو ما بأيديهم من وسائل لا يؤثِّر عليهم، وهذا يساعدهم على الاستقامة، إذا ضعف توكل الإنسان على الله، فهذا يؤثِّر عليه تأثيراً سلبياً حتى لو كان يتحرك في سبيل الله.

مثلاً: يظن أنه إذا لم يغل من الغنائم، إذا لم يحسب حساب مصالحه الشخصية، أو حتى في إطار الحسابات العملية، فيتجه إلى اللعب، ويتجه إلى الإخفاء، ويتجه إلى تصرفات سلبية؛ لأنه يظن أنها هي التي ستفيده في المستقبل، هنا لم يعد يحسب حساب الله -سبحانه وتعالى-، يحسب حساب شطارته حسب التعبير المحلي، أنه وبحسب ذكائه وما يفعله من حيل والتواءات وتصرفات فيها غش، فيها غلول، فيها خداع، فيها ابتزاز، وفيها سلوكيات مقيتة، لا تشرفه أخلاقياً، ولا إنسانياً، ولا إيمانياً، فهو يتصرف ليحصل على أكبر حصة ممكنة من الإمكانات على حساب كل الأعمال الأخرى، وكل الجبهات الأخرى، أو يتصرف بأي طريقة غير سوية، ولا سليمة، ولا إيمانية، ولا أخوية، ينطلق وهكذا سجيناً وأسيراً للحسابات الشخصية والنظرة الشخصية، وقد ضعفت ثقته بالله -سبحانه وتعالى-، وأمله بالله، وتوكله على الله -سبحانه وتعالى-.

التوكل على الله ركيزة أساسية في العمل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، أمام كل هذه السلبيات والمخاوف، المخاوف من الأعداء، المخاوف أيضاً على المستوى الاقتصادي، المخاوف على المستوى المادي… المخاوف من كل جانب، الإنسان المؤمن حقاً هو دائماً دائماً في كل الظروف، في كل المراحل، في كل المحطات، تجاه مختلف الأوضاع، هو متوكلٌ على الله -سبحانه وتعالى-، وقدِّمت هذه المواصفات: الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، على ربهم يتوكلون، كلها معطوفةً على بعضها البعض كمواصفات إيمانية موجودة وقائمة ومستمرة ولازمة.

ولاحظوا أهمية ذلك؛ لأن البعض قد تكون منطلقاته إيجابية في البداية وفي مراحل معينة، إلى أن يصل إلى مراحل معينة، في مرحلة من المراحل هي تتغير نفسيته تتغير، يتحول إلى إنسان ضعف التزامه العملي، طاعته العملية، استقامته في مجال العمل، وأصبح لا ينفع فيه التذكير بآيات الله، يصل إلى هذا المستوى من السوء، وهذه حالة لم يعد الإنسان فيها مؤمناً حقاً.

مثلاً: إذا أصر على فساد ذات البين وهو يذكر بماذا؟ بآيات الله، بكلمات الله، بتوجيهات الله، بتعليمات الله، بآوامر الله في إصلاح ذات البين، فيرفض ويصر على فساد ذات البين، عليه أن يعرف حتى وإن كان قد جاهد، حتى وإن كان قد عمل، حتى وإن كان قد ضحى، لكنه وصل إلى وضعية خطيرة وهو في منزلقٍ خطير قد فقد فيه إيمانه بالله -سبحانه وتعالى-، وأصبح أسيراً لأسباب شخصية، لمقاصد شخصية، لأغراض شخصية، لمنطلقات شخصية سجنته وغطت على قلبه، وأفسدت نفسيته إلى درجة فقد فيها التأثر بآيات الله -سبحانه وتعالى-، ليست مسألة سهلة إذا فقد الإنسان تأثره بآيات الله، قضية خطيرة جداً، قضية خطيرة للغاية.

{سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى}[الأعلى: 10-12]، يعتبر هذا مؤشراً خطيراً على الإنسان إذا أحسَّ به في نفسه أن يحذر، أن يسعى للخروج من تلك الحالة الخطيرة جداً.

{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، فهم دائم التوكل على الله -سبحانه وتعالى- في مختلف المراحل والظروف، عندهم ثقة بالله وأمل عظيم بما عند الله، مهما كانت التحديات، مهما حصل في الواقع، لا يفقدون ثقتهم بالله، ولا أملهم بالله، ولا التجائهم إلى الله -سبحانه وتعالى-.

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الأنفال: الآية3]، من الحالات اللازمة لهم الصلاة القيمة، فهم مستمرون على اهتمامهم بالصلاة، وأن تكون صلاةً قيمة، تؤتي ثمرتها في أنفسهم، في استقامتهم، في التزامهم، تنهاهم عن الفحشاء وعن المنكر بكل أشكاله، المنكر الذي يأتي إلى التصرفات والسلوكيات والأعمال والمواقف والتوجهات والنفسيات.

{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، وهم يحملون روحية العطاء بشكلٍ دائم، فكل ما رزقهم الله رزقاً ينفقون منه، وهي حالةٌ مستمرةٌ عندهم روحية العطاء والإنفاق، ولذلك ليسوا ممن يحمل روحية الطمع، ولا يفكر إلا بأن يأخذ، ولا يفكر إلا بأن يحتكر، ولا يفكر إلا بأن يسيطر على المزيد والمزيد، لا، هم يختلفون عن ذلك، روحيتهم روحية عطاء وروحية إنفاق، وهذا على نحوٍ واسع يعني: يشمل الزكاة، يشمل الإنفاق في سبيل الله، يشمل الصدقة في البر، يشمل التعاون في العطاء فيما فيه الخير، فيما فيه العمل في سبيل الله -سبحانه وتعالى-.

{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا}، هؤلاء هم المؤمنون حقاً، غيرهم عنده نقصٌ في إيمانه، قد يصل إلى انعدام حالة الإيمان، {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، مراتب عالية، هذه المراتب عند الله -سبحانه وتعالى- يترتب عليها رعاية من الله، يترتب عليها مستوى العطاء الإلهي لهم، حتى مستوى منازلهم في الجنة، ومستوى ما أعده الله لهم في الجنة، البعض مثلاً في مقابل أن يحصل على رتبة، قد تكون هذه المسألة في غاية الأهمية عنده، وأن تكون رتبة عالية، رتبة عقيد، رتبة عميد، رتبة لواء، رتبة مشير، رتبة فريق… المراتب هذه، طموح إليها، وقد يعمل أي شيءٍ في مقابل الوصول إليها، هذه المراتب أعلى، أعلى من مسألة رتبة عميد، أو لواء، أو فريق، أو مشير… أو غير ذلك، رتبة عند الله ومنزلة عالية عند الله -سبحانه وتعالى-، يترتب عليها أشياء كبيرة جداً في تدبير الله، في رعايته، فيما أعده، فيما يعطيه من واسع فضله -سبحانه وتعالى-، وهذا ما تطمح إليه النفوس العالية، وذوو الهمم العالية والنفوس الرفيعة تطمح إلى المقام والمنزلة العالية عند الله -سبحانه وتعالى-، وهذا هو الأهم.

{لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[الأنفال: الآية4]، (وَمَغْفِرَةٌ): مغفرة على الزلل، مغفرة على التقصير الذي يسعون إلى تداركه، وعلى التقصير الذي قد يحصل- عادةً- في الواقع العملي مهما بذل الإنسان جهده يبقى عنده تقصير، فهم ينيبون إلى الله، وهو -جلَّ شأنه- الذي يغفر لهم بهذا التوجه، بهذا التقبل، بهذا الاهتداء، بهذا التجاوب، هذه الاستجابة مع تعليمات الله وتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-.

(وَرِزْقٌ كَرِيمٌ): وعدٌ من الله -سبحانه وتعالى- بالرزق الكريم، رزقٌ كريمٌ في الدنيا وفي الآخرة، في الآخرة الجنة، رزقٌ كريمٌ جداً وعظيمٌ جداً، وفي الدنيا يمنحهم الله ما يمنُّ به عليهم من الرزق بكرامة، من دون تحيلات، من دون أساليب سلبية، ووسائل غير مشروعة للحصول على المال من هنا أو من هنا، أو للخيانة، أو للغلول، أو للحيل والالتفافات للحصول على المزيد والمزيد من الأموال، الطرق غير الكريمة، الطرق التي هي سلبية وسيئة ودنيئة؛ أما هم فيحصلون على رزقٍ كريمٍ من الله لالتزامهم وإيمانهم وتقواهم.

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6]، تاريخياً عندما خرج رسول الله -صلوات الله عليه وعلى آله- إلى بدر، وبدر منطقة واقعة ما بين مكة والمدينة، وتحرك وخرج من المدينة، وكان البعض ممن خرج كارهون للخروج؛ لأنها ستكون أول عملية عسكرية كبيرة، وأول صدام مباشر وكبير ما بين المسلمين وأعدائهم، وهي أول غزوة بمفهوم الذي اصطلح عليه أهل السير في الغزوات بالمفهوم الحقيقي لها: كغزوة كبيرة، وغزوة يحدث فيها التحام عسكري كبير؛ فلأنها المواجهة الأولى التي سيخرج إليها المسلمون كان البعض متخوفين وقلقين، ولربما يتوقعون- إلى حدٍ كبير- الهزيمة، ويتوقعون أن يسحقهم العدو، وهذا كان حالاً ينم عن قصور، قصور في الجانب الإيماني، وفي التوكل على الله، وفي الثقة على الله -سبحانه وتعالى-.

الرسول -صلوات الله عليه وعلى آله- كان خروجه أولاً بأمرٍ من الله، بتوجيهاتٍ من الله -سبحانه وتعالى-، وهذا هو الذي نتربى عليه في الجهاد في سبيل الله: أن نتحرك بناءً على تعليمات الله، استجابةً لتوجيهات الله -سبحانه وتعالى-، {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ}؛ ولأن هناك توجيهات من الله -سبحانه وتعالى- فهذا كافٍ في أن يتحرك الإنسان، وفي أن يندفع، وفي أن ينطلق، وفي أن يستجيب لله -سبحانه وتعالى-، والدافع الإيماني يدفع الإنسان للالتزام والطاعة والتحرك.

 {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ}، والخروج هو بالحق، عندما تتحرك في سبيل الله فلا بدَّ أن تكون في موقف الحق، وخروجك هو بالحق؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- عندما أمرنا هو يأمرنا بالحق، وبمقتضى الحق؛ لأن هذا هو الحق، والقضية التي تتحرك فيها لا بدَّ أن تكون قضية حق، لا تكون فيها ظالماً، لا تكون فيها مبطلاً، لا تكون فيها متجبراً، لا تكون فيها مفسداً؛ إنما تتحرك وفق التعليمات الإلهية في الموقف الحق والقضية الحق، وهذا يستوجب أن يكون المنطلق منطلقاً إيمانياً، من أجل الله -سبحانه وتعالى-، وأن تكون قضيتك عادلة، لا تقف في موقف الباطل، الذي يقف في موقف الباطل حتى لو سماه جهاداً في سبيل الله فليس بجهاد، عندما يكون ظالماً، مبطلاً، مفسداً، غاشماً، مجرماً… كما يحصل اليوم، التكفيريون يتحركون بظلم وإجرام وإفساد، وخدمة لأعداء الأمة، ويسمون ذلك جهاداً، المعتدون على بلدنا (على اليمن) يسمون ما يرتكبونه من أبشع الجرائم الرهيبة والشنيعة، وسعيهم لاحتلال هذا البلد واستعباد هذا الشعب، جهاداً في سبيل الله، ليست المسألة مسألة عنوان، بل لا بد أيضاً من المضمون، تكون القضية حقاً وبالحق، وهذا كافٍ للخروج والتحرك.

{وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}، فهم يجادلون من منطلق مخاوفهم، وليس من منطلق أن هذا الموقف خاطئ يجب تصحيحه من منظور الحق، ومن معيار الحق؛ وإنما من منظور المخاوف النفسية التي هي ناتجة عن ضعفٍ في الإيمان.

{بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، كانوا يعانون من هذه الحالة: مخاوف شديدة طغت عليهم وأثرت عليهم حتى لم يكونوا مؤملين للنصر وراجين للنصر، كأن المسألة الحتمية هي الهلاك والتوقعات التي أصبحت توقعات رئيسية لديهم هي النهاية، فكانت توقعاتهم وحساباتهم خاطئة، هناك درس مهم من هذا؛ لأن الكثير من الناس لا يزال ينظر هذه النظرة الفاقدة للأمل، اليائسة من النصر، التي لا تثق بالله -سبحانه وتعالى- وترجوه، والتي تنطلق من حساب التكافؤ المادي والعددي، وليس بحساب التوكل على الله -سبحانه وتعالى-، والأخذ بأسباب النصر التي أرشد إليها القرآن الكريم.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[الأنفال: 7-8]، الطائفتين: (طائفة العير) القافلة التجارية التي كان على رأسها أبو سفيان ومعه عددٌ معه، والطائفة الأخرى الجيش المسلح الذي خرج من مكة يقوده أبو جهل؛ بهدف القضاء على المسلمين عسكرياً، الله وعد المؤمنين إحدى الطائفتين (الظفر بإحدى الطائفتين)، فكانت رغبتهم تتجه في أن يظفروا بـ(غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ) يعني: غير الطائفة المسلحة، يعني القافلة التجارية التي على رأسها أبو سفيان ومعه عددٌ معه من المشركين، ومعنى هذا أنهم كانوا يرغبون بالحصول على تلك القافلة التجارية ومن معها، كان أبو سفيان بنفسه هدفاً مهماً بالنسبة للمسلمين؛ باعتباره أحد القيادات البارزة والأساسية للأعداء، ومعه البعض ممن معه، وكانوا لا يرغبون بالاصطدام العسكري، كانوا لا يرغبون بالدخول في المعركة العسكرية، ولكن إرادة الله -سبحانه وتعالى- أن يلتحموا عسكرياً، وأن يكون الظفر بالجيش المسلح الذي خرج للقاتل من جانب العدو؛ لأن  تحطيم قوة العدو العسكرية كان الأهم، والأكثر نتيجة من مسألة الظفر بالطائفة غير المسلحة، التي هي طائفة القافلة التجارية (أبو سفيان ومن معه).

{وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}؛ لأن إحقاق الحق يكون بتحطيم قوة العدو العسكرية وبإفشاله عسكرياً؛ هذا الذي يحق الحق في الواقع العملي؛ لأن الحق يبقى عنواناً، ما لم يأتِ التحرك به في الواقع العملي، وإزاحة كل الباطل من أمامه في الواقع العملي، إحقاق الحق يأتي بالتضحية، يأتي بالموقف، يأتي بالعمل، يأتي بالجهاد في سبيل الله وفق التعليمات والتوجيهات القرآنية، لو كنت صاحب حق ومظلومية ولا تريد أن تتحرك، ولا تريد أن تضحي، ولا تريد أن تنهض بهذه المسؤولية؛ فلن يتحقق لك هذا الحق، سيبقى مجرد عنوان، {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}، يعني: عن طريق توجيه ضربة قاضية لتلك القوة العسكرية التي خرجت.

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}، ليحق الحق في الواقع، يتحول إلى حالة قائمة، حالة سائدة في الواقع، وليس مجرد عناوين؛ إنما عملياً من خلال انتصار لهذا الحق ولأهله، فيتحول إلى حالة قائمة في الساحة ولو كره المجرمون. {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} يبطل الباطل كذلك بضربه، وبتحطيم قوته وما يستند إليه وما يعتمد عليه؛ حتى يزاح من الواقع.

{وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}، ولو كرهوا وترتب على كرههم هذا كل ما يستطيعونه، وكل ما يحيكونه من مؤامرات ومكائد؛ لأن تحت عنوان (كَرِهَ) كل ما سيفعلونه من أعمال، وما سيخططون له من أعمال، ويكيدون له من مؤامرات، فكل مؤامراتهم ستبوء بالفشل، عندما تتحرك الأمة بجد، بصدق، بتوكلٍ على الله -سبحانه وتعالى- وفق التعليمات والتوجيهات الإلهية، بصلاح ذات البين، بالتعاون، بالالتزام بهذه التعليمات والقيم، الله -سبحانه وتعالى- يحق الحق، وفعلاً هذا ما حصل، أحق الله الحق، وانتشرت راية الإسلام، وثبت الإسلام، واستقوى أمره، استقوت الأمة الإسلامية ونمت وعظمت، وكانت هذه المعركة بداية السقوط لقوى الشرك والاستكبار آنذاك، حتى اضمحلت وتلاشت وانتهت وهزمت هزيمةً نهائية، وحتى أتى يوم الفتح الذي فتح الله به مكة، وانتشر به الإسلام في أرجاء الجزيرة العربية كافة، فإذاً لا بدَّ من التحرك.

عندما نتأمل مثلاً في نماذج كثيرة في واقعنا المعاصر، مثلاً: في مظلومية الشعب اللبناني كان الحق هو خروج إسرائيل من لبنان، وطرد إسرائيل من لبنان، من الذي أحق هذا الحق، هل مجلس الأمن؟ هل الأمم المتحدة؟ هل الجامعة العربية؟ من الذي أحق هذا الحق؟ الله أحق هذا الحق بجهود وتضحيات المجاهدين اللبنانيين في حزب الله وحركات المقاومة، عندما تحركت، عندما قاتلت، عندما اعتمدت على الله، عندما توكلت على الله، عندما جعلت من المنطلقات الإيمانية منطلقات تتحرك بها في الواقع العملي، ووثقت بالله -سبحانه وتعالى-، في نهاية المطاف أحق الله هذا الحق عملياً، ودحر إسرائيل، وطردت.

ما الذي أحق الحق في غزة؟ ما الذي أحق الحق يوم طردت أمريكا من العراق؟ ما الذي أحق الحق في ثبات شعبنا اليمني إلى اليوم؟ إلا أن يتحرك الناس وفق توجيهات الله -سبحانه وتعالى- من هذه المنطلقات الإيمانية العظيمة التي تمثل وقوداً عظيماً، وتمثل طاقةً هائلة في مواجهة التحديات مهما كانت.

نستكمل- إن شاء الله- في المحاضرة القادمة، ونكتفي بهذا المقدار…

نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

والسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

قد يعجبك ايضا