أميركا تنكفئ عن اليمن: لا جدوى من «إلقاء القنابل»
الانكفاء الأميركي عن البحر الأحمر واليمن يفاقم مأزق الردع التقليدي ويُظهر محدودية الهيمنة الغربية أمام تحوّلات ميدانية منخفضة الكلفة.
لا يبدو أنّ الغرب قد نجح في بلورة خطّة واضحة للتعامل مع أزمة البحر الأحمر، بعدما أدّى تكرار الفشل في إدارتها، إلى حالة استعصاء، توصف بأنها «الجرح النازف» في بنية القوى العسكرية الغربية المنتشرة في الإقليم، لا سيّما مع بروز البحر الأحمر والقرن الأفريقي كمركزَي ثقل جديدَين في خارطة الصراعات الدولية.
وفي هذا الإطار، سلّط تقرير صادر عن مؤسسة «فيسيغراد بوست» الأوروبية، الضوء على التعقيدات غير المتوقّعة التي واجهتها قوات البحرية الأميركية في البحر الأحمر. وذكر التقرير أنّ سلسلة الحوادث التي تعرّضت لها تلك القوات، دفعت «البنتاغون» إلى مراجعة خططه العملياتية، وإعادة تقييم جاهزيته الإستراتيجية، في ظلّ تكتيكات جديدة أربكت أنظمة الردع التقليدية، ونجحت في استنزاف النفوذ الأميركي بأساليب منخفضة الكلفة ومرتفعة الفاعلية.
وأشار التقرير خصوصاً إلى الأثر النفسي والمادي الذي خلّفته هذه الحوادث على سمعة الأسطول البحري الأميركي، مؤكّداً أنّ ما واجهته حاملة الطائرات، «ترومان»، في البحر الأحمر، «لا يمكن اعتباره مجرّد أخطاء معزولة، بل يمثّل اختباراً حقيقياً لقدرة البحرية الأميركية على التكيّف مع طبيعة الحروب الحديثة، إذ لا تمنح الطائرات المسيّرة، والصواريخ الدقيقة، والضربات الرمزية، فرصة للتردّد أو مساحة للخطأ».
وممّا يثير القلق الغربي أيضاً، أنّ أحداً لا يمتلك تصوّراً واضحاً عن الخطوات المقبلة للرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ما يزيد من منسوب الغموض والارتباك الاستراتيجيَّين. ورغم سخونة التصعيد المتجدّد الذي بدأته أخيراً إسرائيل في ما سُمّي عملية «الراية السوداء» التي استهدفت اليمن، إلّا أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ الولايات المتحدة تخطّط في الوقت القريب للانخراط مجدّداً في تصعيد إقليمي مباشر في هذا البلد.
ذلك أنّ واشنطن، وإنْ بدت داعمة علنيّاً لتوسيع هامش الردّ الإسرائيلي، لكنها لا تزال تنظر إلى اليمن من زاوية أمن الملاحة الدولية في البحر الأحمر وباب المندب، لا من زاوية المواجهة العسكرية المفتوحة؛ وبالتالي، فإنّ سلوكها هنا «محكوم بميزان دقيق بين دعم الحلفاء، واحتواء التورّط العسكري».
ووفقاً لمصادر متعدّدة، فإنّ الإدارة الأميركية لم تَعُد تَعتبر اليمن من بين أولويّاتها السياسية، في ظلّ تغييرات متسارعة طرأت على الساحتَين الدولية والإقليمية؛ وإنّ واشنطن لا تسعى حالياً إلى دفع جهود حلّ النزاع اليمني، في وقت تتصدّر فيه ملفات أخرى جدول اهتماماتها، من مثل المواجهة مع إيران، والصراع في غزة، والتنافس الإستراتيجي مع الصين. ويترافق الانكفاء الأميركي مع إحجام القوى الدولية والإقليمية الأخرى عن تحمّل مسؤولية الملف اليمني أو رعايته، ما يكرّس حالة الجمود القائمة ويطيل أمد الأزمة.
يعمل فريق السفير الأميركي بشكل نشط للحفاظ على حالة الجمود الراهن في الملف اليمني
ويُثير الانكفاء الأميركي عن الملف اليمني، قلقاً متزايداً لدى القوى المحلّية المرتبطة بالرياض وأبو ظبي، من انزلاق الأوضاع نحو سيناريو أكثر تعقيداً، من مثل اندلاع مواجهة مباشرة بين صنعاء وتل أبيب، تتخلّلها ضربات متبادلة، ما من شأنه أن يحرج تلك القوى أمام الرأي العام اليمني. كذلك، تبرز هواجس في شأن إمكانية تجدّد المواجهات العسكرية على الساحة الداخلية، الأمر الذي سيعيد البلاد إلى مربّع الحرب المفتوحة، ويحرج الرعاة الإقليميين الذين استثمروا طويلاً في مشاريع احتواء التصعيد.
وبحسب المعلومات، فإنّ واشنطن أبلغت الأطراف المعنيّة بأنّ حدود تدخّلها في الملف اليمني بلغت ذروتها أثناء موجة الضربات التي استمرّت 50 يوماً، وأنها لا تعتزم تعميق انخراطها في هذا الملف في المرحلة المقبلة. وتُقرّ الإدارة الأميركية بأنّ حركة «أنصار الله» باتت تمتلك زمام المبادرة لجهة توسيع عملياتها خارج الحدود، في ظلّ قناعة متزايدة بأنّ القصف الجوي لن يغيّر من موازين القوّة القائمة. كما تشير المعطيات إلى تراجع ملحوظ في مستوى ثقة واشنطن بالحكومة في عدن والفصائل المحسوبة على التحالف.
من جهتهم، أبلغ مسؤولون أميركيون، قناة «العربية» السعودية، بأنّ بلادهم خفّضت، في الأسابيع الماضية، فرق العمل المعنيّة بالشأن اليمني إلى أدنى مستوى، إذ لم يَعُد هناك أيّ متخصّص في هذا الملف داخل البيت الأبيض، كما تقلّص فريق وزارة الخارجية إلى الحدّ الأدنى، وجرى تعليق جزء كبير من المساعدات، لا سيّما تلك التي كانت تمرّ عبر «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية» (USAID). ونقلت القناة عن مصادرها، قولها إنّ «واشنطن أبلغت الأطراف المعنيّة، عقب الحرب الإسرائيلية التي استمرّت 12 يوماً ضدّ إيران، أنها لا تعتزم تنفيذ أيّ تحرّكات عسكرية إضافية في اليمن، وأنّ طهران، رغم الضربة الموجّهة إليها، تمكّنت من الحفاظ على بنيتها الحاكمة، ما يجعل أيّ تصعيد جديد غير وارد في الحسابات الأميركية حالياً».
وبرأي مصادر خليجية، فإنّ من بين مؤشرات التراجع الأميركي، نقل السفير الأميركي المعتمد حالياً لدى اليمن، ستيفن فاجين، أخيراً، إلى بغداد، كقائم بالأعمال في السفارة الأميركية هناك، رغم احتفاظه بمنصبه الأول. ووفق المصادر، يعمل فريق السفير بشكل نشط للحفاظ على حالة الجمود الراهنة، ومنع أيّ تفاهمات مباشرة بين سلطتَي صنعاء وعدن. ويأتي ذلك في وقت كشفت فيه حكومة عدن عن خطّة اقتصادية للخروج من أزمتها المستعصية، تقضي بالاتفاق مع صنعاء على استئناف تصدير النفط من الموانئ الجنوبية مقابل تقاسم العائدات، إلا أنّ تدخّل السفير الأميركي حال دون تنفيذ تلك المبادرة.
لقمان عبد الله الأربعاء 9 تموز 2025