السلام عليك أيها اليمن ../الخبير الاستراتيجي المصري أحمد عز الدين
السلام عليك أيها اليمن ..
السلام على أرضك وقد كانت منبع العروبة ، وشريانها الدافق الأول الأصيل .
السلام على سمائك ، وقد كانت سلالم مجدٍ ، وأجنحة أساطير ، وأعمدة تاريخ جزيرة العرب ، من أول الزمان إلى آخره ، ومن منبت الأرض إلى علّيين .
السلام على حدائق الثقافة العربية المثمرة في ربوعك ، وقد كانت ورودها اليانعة زينة للناظرين .
السلام على أهلك الأكرمين ، الذين لم يشتروا السلامة بالرضوخ ، ولم ينحنوا لصواعق النار ، وهي تتساقط كسفا من السماء ، ولم يخونوا صخور الجبال الشامخة التي تخللت أرواحهم ، وكأن عزائمهم قد قُدّت من صلابتها.
السلام على روح العروبة الصافية ، وروح الإسلام النقية ، إذا ما تعانقتا ، وتداخلتا في سبيكة واحدة ، لا انفصام في مركّبها الحضاري الفريد .
السلام على البكارة التي تشبه قلب الموجة العالية ، في قلب العاصفة والمحنة والزلزلة .
السلام عليك أيها اليمن ، وقد تكسّرت النصال على النصال ، في جسدك النازف بكبرياء ، الصامد دون إدعاء ، الواقف وحده كالرمح ، لا تكسره العواصف ، ولا تصده الأنواء .
السلام على هذا الدم الشهيد ، الذي يُذبح من الوريد إلى الوريد ، تحت أنقاض البيوت الآمنة ، وفي زحام الأسواق الرثة ، وفي الشوارع القديمة المختنقة .
السلام على دم أطفال لا يدركون ، من قتلهم ، ولماذا ؟ ، وعلى نساء يحتضن صغارهن وكأنهن يردن أن يعيدوهم إلى أحشائهن ، خوفا من سكاكين الموت المشرعة .
هذه مدن وليست طوابق من شمع .
هذه شوارع وليست قطعا من الصلصال .
هذه بيوت وليست مكعبات من الورق .
هذه جسور وليست جبالا .
هذه أسواق لشراء ملابس العيد ، وليست مرابض نيران ، وقواعد صواريخ.
هؤلاء شيوخ ونساء وأطفال ، وليسوا رسوما في لوحة بألوان مائية لم تجف.
هذا لحم بشري وليس شواء على فحم متّقد .
هذا دم حيّ ، وليس أباريق مملوءة بالعصير .
السلام عليك أيها اليمن .
السلام على هذا الدم الشهيد ، الذي لا ينبت إلا غابات باسقة من الثأر ، وجبالا شاهقة من الانتقام ، وبحورا مفتوحة من الكراهية .
السلام على الأجيال القادمة ، التي ستخرج من برك هذا الدم ، تماسيح مفترسة ، لا تستعيد سكينتها إلا ببرك دم أكثر سخونة واتساعا ، تتمدد على شواطئ الخليج .
السلام على هذا الدم الشهيد ، ولا سلام على الذين لا يدركون أن الدم كالحقيقة ، لا تخيفه شاشات الإعلام الكذوب ، ولا تغطية أوراق الصحف المشتراة ، ولا يردمه تراب الوقت ، ولا يغطيه ضباب الأيام ، وعواصف الأزمنة .
لا سلام على أولئك المخادعين المأجورين الذين يبيعون ذهب أوطانهم ، بغبار سلطة لا قواعد لها ، ويتدثّرون ثياب المحررين ، وهم العبيد ، ويعلقون أوسمة الشجاعة على صدورهم ، ليغطوا بها قلوبا عليها أقفالها .
لا سلام على أولئك الذين يمدّون من ظهورهم جسورا ، كي تعبر عليها القوة الغاشمة ، إلى قبور أمهاتهم ، وملاعب طفولتهم ، ومساكن أهليهم وذويهم ، لا سلام عليهم ، وهم عنوان معركة قتل العربي للعربي ، والأخ الشقيق للأخ الشقيق ، لا سلام عليهم ، ولا مستقبل لهم ، وإن توهموا أنهم الناجون والمفلحون ، فحصاد أعمالهم وأيامهم ، لن تكون غير حصاد الهشيم .
السلام عليك أيها اليمن .
قلنا لهم أنها ليست لعبة ، وليست نزهة ، وليست رحلة قنص .
قلنا لهم أن السيوف التي تلمع في ألعاب الصيد ، وحفلات الشواء ، وطوابير الزينة ، لا تصلح للمبارزة .
قلنا لهم أن اليد التي تطلق الطلقة الأولى ، ليست اليد التي ستطلق الطلقة الأخيرة .
قنا لهم أن الحكمة السياسية أم الحكمة العسكرية ، فإذا غابت الأولى ، غابت الثانية بالضرورة .
قلنا لهم أن التكنولوجيا المشتراة المستعارة ، ليست بديلا صالحا للأيديولوجيا ، التي نبتت أشجارها في تربة الأرض ، وارتوت بمائها .
قلنا لهم أن فرض الاستسلام غير المشروط بالقوة ، بتوسيع مدى القصف والدمار والحرائق ونزيف الدم ، لا يفرض استسلاما ، ولا يحقق سلاما ، لأن الاستكبار في العنف ، والإمعان في غطرسة القوة ، يملأ بنيان الرفض بزاد لا ينفد ، وبطاقة غضب تتجدد كلما أصبح اللجوء إلى القتل والتدمير ، هو القانون الأعلى للحرب .
قلنا لهم أنتم تفتحون أفقا للقاعدة ، وتبنون صروحا لها ، وتحولون الجنوب كله إلى دولة للفوضى ، وإلى دولة لداعش ، تتمدد بين حضرموت وشبوه والمهرة وأبين ولحج .
وهكذا ، فالمشهد أمامكم ناطق ، ليس في المكلا عاصمة حضرموت ، التي لُغّمت وفُجّرت فيها كافة المعالم التاريخية والتراثية والدينية ، بعد أن عاشت تتنفس آمنة قرونا من الزمن ، وإنما في عدن نفسها التي غدت ساحة لأعمال السلب والنهب ، ومعسكرا مفتوحا للفوضى ، منقسما على نفسه ، ولاءا ونفوذا بين أمراء الإرهاب ، الذين يطبقون شرائعهم حسب نفوذهم في الأحياء والشوارع والحارات ، ويعلقون رايات الفتنة ، حسبما تمددت قواهم ، واتسع مدى أسلحتهم ، التي تطورت من البنادق الآلية إلى الدبابات الأمريكية ، ليصبح ميدان الصدام القادم في دائرة أوسع بكثير من حدود اليمن .
قلنا لهم ، لكنهم لم يسمعوا غير أصوات الطامعين القادمين من وراء البحار والمحيطات ، وإلا أصوات المغرضين الذين يريدون مقعدا زائلا للحكم ، فوق بحور من الدماء ، وتلال من الجماجم ، قلنا لهم لكنهم أسرفوا في أمرهم ، فارتدت أعمالهم ، تصدعّا ، يؤذن بالدخول في طور احتضار طويل .
السلام عليك أيها اليمن ..
لا بديل الآن عن أن نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية ، فلم يعد مقبولا ولا معقولا ولا مشروعا ولا عادلا ، أن نسمي ” داعش ” و ” القاعدة ” بـ ” قوى المقاومة ” ولم يعد مقبولا ولا معقولا ولا مشروعا ولا عادلا ، أن نطلق على أدوات القصف والهدم ” تحالفا عربيا ” هذا ليس تحالفا عربيا ،
لا بالواقع ولا بالدلالة ولا بالمعنى ، ليس فقط لأن العروبة أقدس من أن تتحول إلى منصة لإبادة شعب وهدم دولة ، وليس فقط لأن العروبة ، أطهر من أن تتحول إلى سلالم يتسلقها هذا الغرب المأزوم المفلس ، بحواسه الاستعمارية المستيقظة ، ليقتات على لحم عربي ، ويرتوي من دم عربي ، ويسرق كنوزا عربية ، وإنما فوق ذلك ، لأن من الكُفْر بالعروبة ، أن نضعها مع الصهيونية في وعاء واحد ، ومع الإمبريالية في تجمع واحد ، ومع الاستعمار في طرف معادلة واحدة ، وأن نطلق وصف العروبة على نقائضها ، في القول والفعل والأخلاق ومنظومات القيم .
لا بديل الآن عن أن نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية ، فلم يعد مقبولا ولا معقولا ولا مشروعا ولا عادلا ، أن نطلق على هدم أحياء بأكملها ، وعلى تدمير عشرات المستشفيات والمدارس والمصانع والأسواق ودور العبادة ، والجسور والمتاحف ، أنه من قبيل أعمال القتال ، لأننا نمنح استخدام القوة المسلحة مشروعية ، هي نقيض ما جاهدت البشرية على مر العصور ، لأنسنة ظاهرة الحرب ، بالفصل الجازم بين المدني والعسكري ، وبين الحكومات والشعوب ، ولأننا فوق ذلك ، إنما نبني قاعدة جديدة ، لإعادة تقدير حسابات أوزان الأدوار ومعاييرها في الإقليم ، على قاعدة القوة المجردة ، لا على الاتساق التاريخي مع بنية المنطقة ونسيجها الحضاري والثقافي والمجتمعي .
لا بديل الآن عن أن نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية ، هذه حرب ذات قناع طائفي ، لكنه كلما احترق القناع وظهر ما تحته ، كلما تم تجديده والإضافة إليه ، وهكذا تم حشر الطائفية البغيضة حتى في أسماء المعارك ، فمعركة ” مأرب ” المفصلية ، أطلقوا عليها اسم ” السيل الجرار ” وهو اسم بالغ القدم ، كان عنوانا لكتاب فقيه سنّي يمني هو الإمام ” الشوكاني ” ولم يكن غير ردّ على كتاب فقيه زيدي هو الإمام ” بن يحى المرتضى ” كان عنوانه ” حدائق الأزهار ” ، ولو وقع ” أنصار الله ” في هذا الفخّ الطائفي ، لأطلقوا على ردهم الصاروخي في ” مأرب ” اسم ” العطمطم الزخار ” وهو عنوان كتاب كتبه ” السماوي ” ردا على ” السيل الجرار ” الذي كان بدوره ردا على “حدائق الأزهار” ، ليتحول الصراع من صراع فكري مجرد ، إلى صراع طائفي بالحديد والنار ، لتقوم الفتنة ، ويتعمق الانقسام ، حتى ينقسم كل ضرع على ضرعه .
لهذا فأننا لسنا أمام حرب طائفية ، وإنما أمام قناع طائفي ، لحرب هدفها استكمال الانقلاب الاستراتيجي الشامل في أوضاع الإقليم ، والذي بدأ بالفتح الاستراتيجي الأمريكي لضرب العراق ، وتواصلت مراحله في ، تونس وليبيا وسوريا ، بصيغ أخرى ، وهشمّت واجهته مصر ، شعبا وجيشا .
غير أن أحدا لم يستعد لتلك الحكمة المتعددة المستويات ، التي اطلقها مع بدء العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان ” فان ديتيان جونج ” قائد حملة ” تشى منه ” وصاحب الانتصار الكبير في فيتنام ، لقد كان المستوى الأول لهذه الحكمة ، يقول بلغة تقريرية صافية : ” إن القوة العسكرية الأمريكية لن تتمكن من كسر شوكة طالبان والقاعدة ” ، وكان المستوى الثاني يقول : ” إن هذه الحرب لن تطفئ الحقد بل ستزيد من اشتعاله ، وستفجر أحقادا ” ، أما المستوى الثالث فكان سؤالا مفتوحا هو : ” كيف سيخرجون من هناك ؟! ” .
السلام عليك أيها اليمن ، والسلام على نصب الجندي المصري المجهول في صنعاء ، ولعلّه ما زال سالما بين شظايا القنابل العنقودية ، وروائح الموت التي تسري في الشوارع والأحياء ، ومن المؤكد أن اليمن يتذكر في ذكرى ثورته ، أن هذا الجندي المصري لم يأت غاصبا ، ولم يأت طامعا ، ولم يأت محتلا ، وإنما جاء محررا ، ومدافعا عن ثورة حقيقية ، وكما جاء مدافعا عن استقلال اليمن ، وحرية إرادته ، جاء زارعا للحداثة والثقافة والتعليم والمدنية ، لأن مصر لم تخرج يوما من حدودها غاصبة أو معتدية ، ولأن مصر في تاريخها المتضاعف الطويل ، لم تتحول يوما واحدا ، إلى أمة لصّة .!
أيها المارون في زمن صعب .
ليس صعبا أن تمرّوا ..
أيها المارون في زمن وغد .
بمقدوركم أن تمرّوا ..
أعبروا بحر الرمال والرصاص والدم .
فثمة شاطئ آخر في نهاية الممر ..
يقف الموت عنده عاجزا .
ويقف التاريخ عنده شاهدا ..
” أفتمارونه على ما يرى ”