الشهادة بين الوعي الإيماني والمعركة النفسية: قراءة في منهج الشهيد القائد وثقافة الثبات القرآنية
الثقافة القرآنية وصياغة الوعي المقاوم: فهم الشهادة في منهج الشهيد القائد
الشهادة بين الوعي والإيمان: قراءة تحليلية في رؤية الشهيد القائد للموت والتضحية وثقافة الثبات
من حتمية الموت إلى خلود الشهداء: الوعي القرآني وصناعة الثبات في فكر الشهيد القائد
الحقيقة ـ جميل الحاج
في سياق الصراعات الكبرى والتحولات الفكرية التي يشهدها العالم الإسلامي، تبرز مفاهيم الشهادة والجهاد كأحد أكثر المفاهيم عمقاً وتأثيراً في تشكيل الوعي الجمعي للأمة. وقد كان الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي، مؤسس المسيرة القرآنية في اليمن، من أبرز المفكرين الذين تناولوا هذا المفهوم بصورة واسعة وشاملة، مستندًا إلى قراءة تأملية للقرآن الكريم، وإلى رؤية تربط بين فلسفة الموت والحياة وبين الإيمان والوعي والبصيرة.
في عدد من دروسه ومحاضراته، ولا سيما في ملزمة “دروس رمضان”، يقدم الشهيد القائد مقاربة فكرية وروحية للشهادة في سبيل الله، باعتبارها تجربة وجودية تتجاوز حدود الحياة المادية إلى حياة أبدية لا موت فيها، وإلى حالة من الطمأنينة الإيمانية التي تجعل المؤمن ثابتاً في مواجهة الخطر، مستعينًا بالله، متيقنًا من أن الموت قدر محتوم، وأن استثماره في سبيل الله ونصرة الدين والمستضعفين من عبادة في أرض المعمورة.
تبدأ رؤية الشهيد القائد من مفهوم عميق لثنائية الإيمان والخوف، ففي تفسيره لقوله تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران:173)
يؤكد أن التهديد والتخويف كانا دائماً من أدوات المثبطين والمنافقين، الذين يحاولون النيل من عزيمة المؤمنين، لكن المؤمن الحقيقي لا يزداد بذلك إلا إيمانًا وثقة بالله.
ويرى الشهيد القائد أن هذه الآية تُجسّد الفارق الجوهري بين المؤمن الذي يواجه الخطر بعين اليقين، والمنافق الذي يجعل الخوف منطقة انطلاقه ورؤيته. فالمؤمن، سواء كان مجاهداً أو شهيداً، يواجه التهديد بنفسية مطمئنة، وتزداد روحه ثقة بالله وبنصرة كلما اشتد الخطر.. بينما يلجأ المنافق إلى التقليل من شأن التضحية، وإلى تصوير القتل في سبيل الله على أنه خسارة لا جدوى منها، كما تصفه الآية:
{الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} (آل عمران:168).
بين هذين النموذجين، يقدم الشهيد القائد رؤية تؤكد أن المقياس الحقيقي ليس النجاة الجسدية، بل النجاة الروحية، وأن المؤمن لا يقيس الأمور بمنظور الخوف، بل بمنظور الواجب والتكليف وبما يناله من مكانة عظيمة عن الله جل في علاه.
ينطلق الشهيد القائد من حقيقة وجودية لا يختلف عليها اثنان: الموت حقيقة حتمية ولا مفر منها. لكن السؤال الذي يطرحه بعمق هو:
إذا كان الموت قَدَراً محتوماً، فلماذا لا يستثمره الإنسان في سبيل الله؟
هنا ينتقل الخطاب من التنظير إلى تقديم رؤية قرآنية للسلوك الإيماني:
الموت قادم لا ريب فيه.. لكنه حين يكون في سبيل الله، يتحول من نهاية إلى بداية، ومن خسارة إلى مكسب، ومن انطفاء إلى ولادة جديدة.
ويتساءل؟ أليس من الأفضل أن يموت الإنسان وهو يدافع عن الحق، بدل أن يموت بلا معنى أو بلا تأثير؟
بهذا المنطق، تتحول الشهادة في فكر الشهيد القائد المسند إلى ما ورد عنها في القرآن الكريم، إلى استثمار واعٍ للمصير المحتوم، وإلى عملية انتقال من حياة قصيرة إلى أخرى أبدية.
وفي هذا السياق يستشهد بالآية، ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَآ ءَاتَىٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِٱلَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا۟ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍۢ مِّنَ ٱللَّهِ وَفَضْلٍۢ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُؤْمِنِينَ) [ آل عمران: 169ـ 170 ـ171] التي تقدم تصورًا كاملًا لحياة الشهداء: أحياء، يرزقون، فرحون، مستبشرون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
يركّز الشهيد القائد على أن الشهادة ليست نهاية للجسد فقط، بل هي انتقال لمرحلة أعلى من الحياة، تتجاوز حدود الزمن والمكان، فالشهداء، بحسب القرآن، يعيشون حياة مميزة عند الله، يتنعمون فيها بالرزق الإلهي، ويحتلون مكانة لا يصلها إلا من قدّم حياته في سبيل الله ودفاعًا عن الدين العرض والأرض ونصرة المستضعفين من عبادة.. ويستشهد بآيات أخرى تعمّق هذا المفهوم، مثل قوله تعالى، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَىٰ ۖ وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} (الدخان:56) التي تبرز أن الشهيد بعد موته الأول لا يذوق الموت مرة أخرى، بل يدخل حياة جديدة فيها الأمان والخلود.
ومن هنا، تتضح رؤية الشهيد القائد بأن الموت ليس إلا بوابة عبور، وأن الشهداء قد تجاوزوا التجربة البشرية التقليدية للموت، فأصبحوا في مقام القرب الإلهي.
من القضايا التي أكد عليها الشهيد القائد هي الحرب النفسية التي يشنّها المنافقون والمثبطون، والذين يحاولون دائماً التقليل من شأن الشهداء ومن قيمة التضحية. فهؤلاء يقولون: لو أنهم أطاعونا لما قتلوا، لكن هذا المنطق، كما يؤكد الشهيد القائد، لا يلغي فضل الشهداء ولا ينقص من مكانتهم، بل على العكس، فإن الاستشهاد يرفع الإنسان إلى درجة عالية عند الله، ويمنحه حياة أبدية لا يمكن لأي خطاب بشري أن ينتقص منها.
في المقابل، يظهر المؤمن ثابتاً في وجه الحرب النفسية، تزداد ثقته بالله، ويقول مع المؤمنين “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
يرى الشهيد القائد أن الأمة التي تستوعب مفهوم الشهادة الحقيقي، وتعيش ثقافة العزة والكرامة، هي أمة موعودة بالنصر مهما طال الزمن.. ومن أبرز ما ركز عليه هو أن الشهادة ليست حالة طارئة، بل هي ثقافة تبني جيلاً مؤمناً مجاهدا لا يخاف ولا يتردد.
وهنا يبرز حديثه عن الشهيد المجاهد زيد علي مصلح، الذي قال في جبل الخربان في منطقة مران بصعدة..”سأجعل من مقامي هذا سلماً للنصر أو معراجاً للشهادة.”، بهذا القول، تتجسد الشهادة: إمّا نصر وإمّا شهادة، وفي الحالتين فوز وكرامة.
في تحليل للواقع اليمني، نرى حجم وفضل الله وما قدمة الشهيد القائد من الثقافة القرآنية التي دعا إليها تتمثل في الصمود الذي يشهده الشعب في مواجهة قوى الطاغوت والعدوان، وما وصل الية اليوم الشعب اليمني من عزة وقوة ليس ألا ثمرة لما قدمة مؤسس المسيرة القرآنية، الذي نقل المجتمع من حالة الخوف والركود إلى حالة العمل الجهادي والثبات والبذل، ومن حالة البخل إلى حالة العطاء.
هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل ثمرة الوعي القرآني الذي نشره خلال سنوات حياته، ولذلك، فإن كثيرًا من المظاهر التي يشهدها الواقع اليمني اليوم من صمودٍ واسع وثباتٍ شعبي في وجه الضغوط تعود جذورها إلى تلك الثقافة القرآنية.
قدم الشهيد القائد في مشروعه نموذجاً قائماً على إحياء قيم الجهاد والعمل والمبادرة، بعيدًا عن السلبية والخوف والركود، وقد استطاع، أن يحول الروح العامة في المجتمع من حالة الجمود إلى الحركة الفاعلة.
وتقوم هذه الرؤية على.. الوعي القرآني، وفهم سنن الله في النصر، والإقدام وعدم الخوف من الموت، وتقديس التضحية في سبيل الحق، وبناء مجتمع قائم على الكرامة لا التبعية، وبهذا، يتحول مفهوم الشهادة من مجرد مصطلح إلى جزء من بنية المجتمع الثقافية وفق ما شرع ووضحها الله في كتابة الكريم، والتي غيبها اصحاب العقائد الباطلة، وجعلوا القرآن الكريم مجرد آيات تتلى، بدلا من ان تكون آيات تتلى ويعمل بها في كل زمان ومكان .
ونستنتج بأن الشهيد القائد أوضح أن مفهوم الشهادة لديه ليس مجرد حالة قتالية، بل هو بنية فكرية وعقائدية وروحية تقوم على ثلاثة عناصر رئيسية:
ـ وعي بالموت كمصير محتوم، وضرورة استثماره في سبيل الله.
ـ ثقة بالله في مواجهة التهديد والتخويف، كما في قوله تعالى: “حسبنا الله ونعم الوكيل”.
ـ رؤية للشهادة كحياة أبدية وكرامة إلهية، لا مجرد نهاية دنيوية.
ـ بهذا تتشكل منظومة فكرية متكاملة تؤسس لثقافة الصمود والبذل، وتمثل محورًا أساسيًا في الوعي العقائدي للمسيرة القرآنية.
في النهاية، تبدو الشهادة في هذه الرؤية فلسفة حياة وليست لحظة موت، ومنهج وعي وليست انتحارًا سياسيًا أو عسكريًا، وطريقًا للخلود وليست مجرد تضحية. إنها، كما يصورها الشهيد القائد، نورٌ يضيء طريق المؤمنين، ورسالة تربط الدنيا بالآخرة، وبذرة حياة جديدة تبقى ما بقيت الأمة.