الغماري قائد تحوّلات اليمن وبوصلة فلسطين
لم يكن إعلان استشهاد الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري حدثًا اعتياديًا؛ بل لحظة فاصلة في مسار المواجهة الوطنية والإقليمية التي يخوضها اليمن.
الغماري، الذي كان رأس الحربة في معارك التحرر والسيادة، لم يكن قائدًا عسكريًا في المنصب فقط، بل كان مشروعًا وطنيًا تجسّد في شخص رجل عرف كيف يصوغ الردع، ويعيد تشكيل العقيدة القتالية للقوات المسلحة اليمنية من الداخل.
لقد جاءت لحظة الاستشهاد بعد سنوات من البذل والتخطيط والمواجهة، ليتحول اسمه إلى عنوان لمسار شاق رسم خارطة تحوّلات استراتيجية جعلت من اليمن لاعبًا صعبًا في معادلات البحر الأحمر والممرات الدولية.
ومع الغماري، لم تكن القضية الفلسطينية قضية تضامن، بل كانت محور قرار عسكري وسياسي قائم. ما يجعل وداعه في ميادين النزال عهدًا جديدًا يخطه أحرار الأمة الإسلامية بمواصلة الطريق الذي رسمه.
وفي سياق ذلك يقول الخبير العسكري العميد عابد الثور:” إن استشهاد الغماري يمثل فقدانًا لقائدٍ كان يتخذ أصعب القرارات من قلب الميدان”.
ويضيف في حديثه لقناة المسيرة: ” الغماري يقود تحولًا نوعيًا في بنية القوات المسلحة، محوّلًا إياها من مؤسسة دفاعية تقليدية إلى قوة ردع فاعلة تفرض معادلات جديدة على ساحات الاشتباك”، لافتا إلى أن قرارات الغماري تُصنَع في ظروف ضاغطة وصعبة، وأن حضوره المباشر في الخطوط الأمامية يجعله قائدًا ميدانيًا يستفيد منه الضباط والجنود في التخطيط والتنفيذ.
ويؤكد أن تأثير الغماري تجاوز حدود اليمن، فصارت قدرات القوات المسلحة تحت إشرافه تُثير اهتمامًا عسكريًا وإقليميًا، بل واعترافًا ضمن أوساط عسكرية دولية.
إن شهادات العسكريين الذين واكبوا الغماري تكشف حجم التغيير الذي أحدثه، لا فقط في غرف العمليات، بل في فلسفة العمل العسكري ذاته.
فقد تمكن من إعادة تعريف مفهوم الجبهة، فحوّلها من خطوط تماس إلى مناطق تأثير ومن خلال حضوره المباشر، دمج القائد بالقرار، فصار القرار نابعًا من المعركة نفسها، لا من خلف المكاتب.
ووفقاً لهذا يقول رئيس الدائرة السياسية لحزب العدالة الوطنية الدكتور فرحان هاشم: ” تمركز القائد الغماري في الجبهة ليس مجرد تفصيل شخصي، بل نموذج قيادة ميدانية مغايرة شكّلت مدرسة ستتواصل بعد استشهاده”.
ويضيف في حديث خاص لقناة المسيرة:” الغماري لم يكتفِ بقيادة معارك وطنية، بل جعل من دعم فلسطين جزءًا مركزياً من الاستراتيجية العسكرية، ويؤكد أن الغماري يقود تطوير منظومات قادرة على الوصول إلى العمق الصهيوني وضرب رموز الهيمنة الأمريكية في البحر والبر.
ويشير إلى أن صواريخ ومسيرات اليمن باتت تُقلق العدو وتفرض وقائع جديدة على الخريطة الأمنية الإقليمية، مشددا على أن الحشود الشعبية كانت استفتاءً يعكس وفاقًا بين قرار المؤسسة الوطنية ووجدان الشارع تجاه خيار الدعم والمواجهة.
من يقرأ سيرة الغماري يكتشف بوضوح أن فلسطين لم تكن عنده مجرد وجهة شعاراتية وإنما جزءًا من جدول المهام العملياتي والعقيدة العسكرية خطط الردع التي ساهم في صياغتها، سواء ضد العدوان السعودي الأمريكي أو ضد الاحتلال الإسرائيلي، تنطلق من مبدأ التكامل مع محور المقاومة. لقد نقل الغماري اليمن من خانة المؤازرة إلى مربع التأثير، وجعل من كل ضربة تُطلق من صنعاء ترجمة عملية لوحدة المصير مع فلسطين.
وتجلّى ذلك في ردود الفعل الصهيونية التي اعتبرت الغماري “جزءًا من التهديد المباشر”، وليس داعمًا من الخارج.
وحول هذه الجزئية يوضح الخبير في شؤون العدو الإسرائيلي عادل شديد أن إعلان الاستشهاد شكّل حدثًا إعلاميًا وأمنيًا في آنٍ واحد لدى ما يسمى بتل أبيب.
وفي حديثه لقناة المسيرة يؤكد شديد أن اللافت هو عدم تمكن الاستخبارات العبرية من تأكيد مصير الغماري على الفور، ما يعكس متانة وتعقيد منظومة أنصار الله الاستخبارية والعملياتية.
ويشير شديد إلى أن التأخر في تأكيد الاستشهاد وغياب يقين حول التوقيت والمكان أظهر فشلًا استخباراتيًا من منظار العدو، وبيّن أن قدرات الردع اليمنية صارت تشكل تحديًا استخباراتيًا وتقنيًا لدى خصوم المنطقة.
الدم اليمني يلتقي بالدم الفلسطيني: وحدة المصير والهوية
إن الغماري لم يكن فقط صانعًا لقرار الردع، بل جزءًا من بنية أمنية محصنة أفشلت اختراقات متكررة، حيث استطاع أن يعمل في الظل بقدر ما واجه في العلن، محققًا معادلة نادرة: قائد بارز في الساحة لكنه محاط بغلاف أمني معقد.
فشل العدو في تحديد لحظة ومكان استشهاده دليل دامغ على أن أنصار الله لم تُطور فقط من أدواتها القتالية، بل أيضًا من هندسة العمل الاستخباراتي، وهو ما يمثل خطرًا حقيقيًا على عقيدة السيطرة الأمنية الصهيونية في المنطقة.
وبحسب النائب التونسي السابق زهير مخلوف فأن الحشود المليونية في مختلف الساحات اليمنية ليست وداعًا لقائد فحسب، بل تجديدًا لميثاق تاريخي بين اليمن وفلسطين”.
ويقول في حديث خاص للمسيرة “: ويقول إن دماء الغماري امتزجت بالدم الفلسطيني وبدماء محور المقاومة، ما يجعل من استشهاده حدثًا يُقرأ في سياق الوحدة الحميمة بين القضيّتين”.
ويشدّد مخلوف على أن اليمن قدم قادته وطرّز ساحة المقاومة بما يستدعي اعترافًا بصنعاء كرافد حقيقي في دعم القضية، وأن خطاب الوفاء الشعبي يؤكّد استمرارية النهج مهما تكالبت الضغوط.
ما عبّرت عنه الساحات اليمنية في جمعة الأمس لم يكن مجرد مشاركة شعبية واسعة، بل كان تعبيرًا عن شعور جمعي بأن الغماري لم يُقتل وحده، بل امتزجت روحه مع جراحات غزة والضفة. وقد أعاد مخلوف تأكيد أن هذا الاشتباك الروحي والسياسي والعسكري بين اليمن وفلسطين، يعيد تشكيل خريطة الشرق الأوسط وفق منطق المقاومة الشعبية، لا وفق مقاييس أنظمة التطبيع.
إن استشهاد الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري لا يُقرأ فقط كحدث عسكري، بل كرواية استراتيجية عن صعود اليمن في معادلة الردع الإقليمي.
لقد شكّل هذا القائد نموذجًا متكاملًا للجندي المخطط والميداني في آن، كما أنه ساهم في إعادة تعريف العلاقة بين القيادة السياسية والعسكرية، وبين القرار الوطني والقضية الفلسطينية.
بدم الغماري، تتكرّس قناعة جديدة في الوعي الشعبي والرسمي بأن اليمن لم يعد طرفًا خارجيًا في قضايا الأمة، بل لاعبًا مركزيًا في ساحة التحرر العربي والإسلامي. وبينما تنعى القيادة هذا القائد الكبير، فإنّ التحدي القادم يتمثل في استمرار الخط الذي رسمه، وتحصين مشروعه من الداخل، وتحويل استشهاده إلى لحظة دفع للأمام، لا توقف للزخم.
ويبقى الغماري روحًا مقاتلة ووعيًا استراتيجيًا، ورمزًا لمعادلة: أن يكون القادة في المقدمة، وأن تكون فلسطين هي البوصلة، وأن تكون اليمن حاضر الأمة ووجدانها.
المسيرة نت