حرب البحث عن الذرائع الكاذبة.. رسالة شكر إلى اليمن العظيم

تخيل أنك تركب الحافلةَ واقفًا، وأثناء سيرها ولسبب مفاجئ اضطر السائق إلى استعمال المكابح بصورة قوية، ما الذي سوف يحدث لك ولكل الواقفين أمثالك في هذه الحافلة؟

سوف تجد بأنك تندفع نحو الأمام، في الوقت الذي توقفت فيه الحافلة، وقد تصطدم بأي شيء أمامك، وقد يتم قذفك من الزجاج.

يُفَسَّر هذا الأمر في الفيزياء تحت قانون القصور الذاتي للجسم، وهو قانون يقول باختصار بأن أي جسم ساكن أو متحرك لا يمكنه تغيير حالته السكونية أو الحركية دون وجود قوة تُرغمه على هذا التغيير, وهذا القانون المادي له نظيره في المجالات الإنسانية غير المادية, ففي مجال الحرب النفسية التي تلعب بقوة في المنطقة هذه الفترة، ينتشر قانون القصور الذاتي للخوف على مساحات واسعة. ويقول هذا القانون هنا بأن أي جسم خائف أو مرعوب يبقى كذلك ما لم تطرأ قوة تعيد له الثقة بنفسه, والقصور الذاتي للخوف أيها السادة يعني بأنك تبقى مرعوبًا مما اقترفه عدوك من جرائم واعتداءات في الفترة الماضية، بحيث تتحول هذه إلى هاجسٍ مَرَضي، وانتظارٍ مُقعِدٍ لمصير استعبادي محتوم, ولهذا السبب تسود الأسئلة الخائفة فوق السحاب مع كل صباح في كامل المنطقة البائسة: هل سيعود العدوان على غزة؟ هل نحن أمام خديعة من ألاعيب ترامب – نتنياهو؟ متى موعد الضربة القادمة ولمن؟

تحت ظلال هذا الخوف تُنسى الحقوق، وتنكمش المطالبات المشروعة، ويُلقى شعب غزة وهو يعاني الويلات بعد تكشف حجم الجرائم في غزة، ويعود إلينا الأسرى الأبطال وقد فقدوا معالمهم، ولم يعودوا يتعرفون على أبنائهم، ويعود إلينا الأسرى الشهداء محروقين، مُعذّبين، مُهانين كرسائل مضافة للتخويف، وتنكمش حقوقنا المشروعة إلى مجرد عدد محدد من شاحنات المساعدات وفتح المعابر، وفضلًا أمريكيًا بإيقاف المجازر ضد شعبنا الذي تحمل ما لا يمكن تخيله.

لقد تحول القصور الذاتي للخوف إلى منتجات وسلع استهلاكية تسود المنطقة، وتُباع بالمفرق والجملة على الأنظمة الراكعة المرعوبة التي لم تعد تتجرأ حتى على ذكر اسم الجاني والمجرم. لقد تحول الخوف إلى أسئلة شبحية تظهر في الليل ومع كل إطلالة لترامب غير المتزن من باب طائرته: خوفٌ حول احتمالية عودة العدوان على غزة والتلويح بورقة الغارات والقصف والقتل من جديد، خوف من قطع المساعدات وعودة التجويع، خوف من موعد الضربة المستحقة للبنان وأخرى لإيران ولليمن، خوف من ابتلاع أراضي الضفة الغربية وأجزاء من سيناء وغور الأردن ولبنان وسوريا وربما أبعد من ذلك، خوف من مصيرنا كأفراد وجماعات بعد عمليات الاستسلام الكبرى التي قدمها القادة العرب في حملات الشرق والغرب.

في ضمير الأسبوع الماضي، قدم الرئيس المُلهم ترامب مسرحية مؤتمر السلام في المنطقة التي تم بموجبها إيقاف العمليات العسكرية الإجرامية في غزة بحدها الأكبر، وعشنا أسبوعًا كاملًا من الأمجاد والسعادة والاحتفالات الرئاسية الترامبية بتحرير عشرين أسيرًا صهيونيًا، وتم نسيان شعبٍ كامل يتجرع الويلات كل لحظة.

ومن هنا يأتي السؤال البسيط: ما هو نوع السلام الذي يأتي من الزمن الذي تتحكم فيه بمصير كل العالم طبقة من رجال الأعمال والأثرياء الذين لا يعرفون سياسة ولا أخلاقًا ولا وازعًا، ولا حتى يمتلكون الحد الأدنى من الذكاء الذي يمكنهم من الضحك علينا بشكل مُقنع؟

نحن أيها السادة تحت تأثير القصور الذاتي للخوف الذي يشلُّ العقل عن التفكير والذي أصبح محور الأحاديث والتحليلات والتفسيرات, ومن أجل الحصول على الترياق المضاد للخوف الذي يغشى المنطقة، يتوجب علينا استيعاب الحقائق الأساسية الآتية التي تمثل أعمدة الارتكاز في السياسات الأمريكية، والتي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها:

  • لا يوجد شيء اسمه السلام في العقيدة الأمريكية؛ لأنها عقيدة صهيونية الأصل, مفهوم السلام يعني بالضبط إذلال الطرف الآخر، أو تسليمه وتبعيته المطلقة، أو إبادته إذا تطلب الأمر, إن مفهوم السلام ذا الجوهر الحقيقي يتضمن ثلاثة عناصر: العقيدة المؤمنة بحقوق الآخر بالعيش – قوة كبيرة لحماية هذا الاعتقاد – طرف شريك لعملية السلام يحمل نفس الدوافع وذات القيم.
  • لا يوجد شيء اسمه الحلفاء أو الأصدقاء أو الشركاء في الضمير الأمريكي, هذه المصطلحات هي تغطيات فنية لمفهوم الأذيال أو العبيد الذين يتوجب عليهم فعل كل ما يلزم لإرضاء السيادة الأمريكية وإشباع حاجاتها ومُتطلباتها، مهما تطلب الأمر شكلًا ونوعًا وفعلًا.
  • لا شيء يمكنه تغيير واقع السياسات الأمريكية في أية بقعة في هذا العالم زمانًا ومكانًا سوى لغة القوة فقط, والقوة هنا ليس شرطًا أن تكون بنفس الحجم أو القدر، ولكن يكفي أن تكون جرعة موجهة في الزمان والمكان الصحيح لتفعل فعلها، تمامًا كما حصل لهم في العراق وأفغانستان وعملية المارينز في بيروت وفي مقاديشو وغيرها.

حيال هذه الحقائق البسيطة، يجب أن نفهم أن سلوك الإدارة الأمريكية حيال غزة ليس مِنَّةً ولا فضلًا ولا كرمًا من أخلاق ترامب، إنه سلوك مدفوع بفعل قوة موجهة من الداخل والخارج الصهيوني لإنقاذ ما تبقى من عمر لهذه العصابة قبل القضاء عليها من داخلها ومن أفرادها.

إن مجموعة القوى الآتية، والتي تستحق الشكر والثناء، هي التي تقف وراء المؤتمر الترامبي وزيارته للكنيست ودفعه لإيقاف العدوان, نحن أمام مشهد ارتباك للعدو وليس مشهد قوة أو ذكاء أو استباق سياسي:

  • صمود الشعب الفلسطيني في غزة، وأداء المقاومة وحسن إدارتها للمعارك وجلسات المفاوضات وملف حجز الأسرى طيلة سنتين, لم تستسلم هذه المقاومة أمام أعتى قوى الشر، لقد حققت معجزات مُستعصية من احتمال الضربات وتكبيد العدو خسائر فادحة وإفشال أهدافه بشكل مُحرج.

 

  • يمن البطولة والكرامة، بقيادته وشعبه وعملياته في البحر الأحمر، وخطة التصعيد التي انتهجها للوقوف مع غزة دون توقف أو ندم أو تباطؤ، رغم الخسائر والشهداء والضربات التي لحقت به, إن شعب فلسطين وكل شعوب العرب الحرة مدينة لليمن بهذه الوقفات البطولية والعربية، والتي تجسد حقيقة الترابط العربي الإسلامي في مكانها الصحيح, إن وقفة اليمن أحدثت تداعيات هائلة في خنق النشاط الصهيوني والأمريكي, لا يمكن أن ننسى دور لبنان وحزب الله ووقفاته التي قدم فيها خيرة قياداته وأبناء شعبه واحتمل العدوان الصهيوني.

 

  • الانتفاضات الشعبية الغربية ضد الصهيونية وتصاعد حملات العداء للإسرائيليين والداعمين لهم. تسجل إسبانيا وإيطاليا وكولومبيا وهولندا وإيرلندا صفحات إنسانية مُشرقة في أكبر تظاهرات داعمة مؤيدة للقضية الفلسطينية وعدالتها, لقد وصلت التظاهرات الحد المُقلق للأنظمة الغربية العميلة للصهيونية إلى الحد الذي تطلب قرع جرس الإنذار بضرورة إنهاء هذا العدوان على غزة.

 

  • اهتزاز الدولار وتهديد الاقتصاد الأمريكي بمخاطر واسعة أمام دعم الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط. تصاعد الصوت الداخلي في الولايات المتحدة من استمرار المغامرات وإشعال الحروب وخضوع البلاد لقوى خارجية.

أمام هذه العوامل يتبدل جلد العدو ليأخذ تحورًا جديدًا في شكله وأساليبه، وحربه التي لا تتوقف على شعبنا في غزة والبلاد العربية, نحن أمام قسطٍ جديد من التربص السياسي عنوانه حرب الذرائع الكاذبة والتي تأتي عادة في فقه السياسة بعد جولات طويلة من الموت والقتل، ثم الادعاء بإحلال السلام ومصافحة الأيدي.

حرب الذرائع هي الشوط الذي يأتي بعد مؤتمر مزعوم لإيقاف الحرب، فيما تتم بلورة خطط جديدة شعارها “أننا نريد السلام والأمان، ولكن الطرف الآخر لم يقم بتسليم الهياكل العظمية كاملة!”, وشعارها “أننا نقصف المدنيين؛ لأنهم تجاوزوا الخط الأصفر”، وشعارها “أن المقاومة تقوم بأعمال قتل للمدنيين المُصنفين كخونة، وحماس لم تسلم الأنفاق وأخفت خرائط بعضها”، أو “أن حماس سرقت شحنات من الطحين”، أو “أن بعض القطط في غزة شوهدت وهي تحمل ذخائر!”.

لذلك، لا بد من تجديد العدوان بقوالبه الجديدة الأطول عذابًا والأكثر إذلالًا، من مثل إغلاق المعابر وتخفيض نسب ونوعية المساعدات، وتحويل موضوع إعمار غزة إلى لعبة السُلم والحَيَّة، أو التهديد والوعيد بالتدخل الأمريكي مباشرة، واستمرار التخويف بالاغتيال والقصف بين الحين والآخر.

السيناريو القادم في غزة لا يختلف عن السيناريو الجاري في لبنان، حيث يجري البحث في غزة عن ميشيل ونواف جديدين للتوكل بنفس المهمة. ففي الحالتين، تجري عملية التشليح من السلاح بنفس الموازاة وبيد قوى محلية أو مُستوردة، لكن في حالة غزة الاستعصاء أكبر والمخاوف أكثر، وكل ذلك لإبقاء الركائز السياسية الأمريكية بنفس مناعتها وقوتها.

إن شعب فلسطين لا ينكسر مهما تجبَّر العدو واستكبر, المعركة طويلة ومتعددة الجبهات, شعب غزة قدم تضحيات تفوق الاحتمال، وقدم نموذجًا لا يمكن وصفه من الإخلاص والوفاء لقضيته ودينه وبلاده، وهذه الروح هي التي سوف تكسر كل المؤامرات والخطط مهما تبدلت وتنوعت.

ينسى الصهاينة والأمريكان وأعداء هذه الأمة أن السلاح هو جزء من ثقافتها وروحها، والسلاح في نهاية المطاف يمكن انتزاعه بالقوة أو الاحتيال عليه حسرةً وأسفًا، لكنهم ينسون أيضًا الشيء الأهم، وهو أن الإنسان الحر هو السلاح الحقيقي الذي يزهر وينتج ويصعد أينما كان، وبأي زمان جاء, لا يهم أن يكون فلسطينيًا أو يمنيًا أو لبنانيًا أو عراقيًا أو سوريًا أو إيرانيًا أو غربيًا. المهم هو ماذا يحمل في عقله وروحه ووعيه، وانحيازه إلى إنسانيته والفطرة التي في داخله. إن غزة بصمودها وبطولاتها وعظمة شعبها ستكتب صفحات العرب المُشرقة وتغير هذا العالم من شرقه إلى غربه، والأيام سِجال.

 خالد شحام

كاتب عربي من فلسطين

قد يعجبك ايضا