سقوط الإملاءات وولادة زمن الردع الإقليمي
لبنان يدفن الورقة الأميركية… ومحور المقاومة يكتب المعادلة الجديدة.. سقوط الإملاءات وولادة زمن الردع الإقليمي
نجاح محمد علي*
منذ عقود، تحاول الولايات المتحدة الأميركية فرض معادلات سياسية وأمنية على لبنان تخدم أجندتها وأجندة الكيان الصهيوني. آخر محاولاتها تمثلت في “ورقة توماس باراك”، التي حملت إملاءات مباشرة للحكومة اللبنانية، هدفها الأساسي: نزع سلاح المقاومة وتجريد لبنان من مصدر قوته الوحيد في مواجهة الاعتداءات الصهيونية.
لكن السؤال الأهم يبقى: لماذا تفشل كل الأوراق الأميركية رغم الضغوط الهائلة؟ الجواب يكمن في المعادلة الوطنية والشعبية اللبنانية، التي تعتبر المقاومة خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه، وفي أن الكيان الصهيوني نفسه غير ملتزم بأي اتفاقات تُفرض من الخارج، ما يجعل كل مشروع أميركي في لبنان محكوماً عليه بالفشل قبل أن يولد.
ورقة منزوعة الدسم منذ ولادتها
اللافت أنّ باراك نفسه، عرّاب الورقة الأميركية، أقرّ لاحقاً بأنّ الكيان الصهيوني لم يكن معنياً فعلياً ببنودها. هذا الاعتراف يُسقط الورقة من أساسها: كيف يمكن أن تكون مقبولة داخلياً إذا كان الطرف الذي يُفترض أن تُقدّم له كضمانة ـ أي الكيان الصهيوني ـ غير مهتم بها؟
بكلام أوضح، واشنطن حاولت أن تبيع لبنان وهماً جديداً على طريقة “الأمن مقابل نزع السلاح”، لكن حتى شريكها الصهيوني لم يجد في الطرح ما يستحق التوقف عنده. وهكذا ظهرت الورقة وكأنها مجرّد محاولة لتسجيل نقاط سياسية، لا أكثر ولا أقل.
المؤسسة العسكرية بين الحذر والضغط
في الداخل اللبناني، لم تلقَ الورقة حماسة لدى المؤسسة العسكرية. قائد الجيش لم يبدِ استعداداً لتحويل الجيش إلى أداة لتنفيذ الإملاءات الأميركية، إذ يدرك أنّ أي صدام مع المقاومة سيؤدي إلى فقدان الجيش مصداقيته الوطنية واحتكاكه المباشر مع الشعب.
هذا الموقف الحذر لا يلغي الضغوط التي مورست من واشنطن على المؤسسة العسكرية، لكنّ الواقع أظهر أنّ الجيش، رغم حاجته للدعم الأميركي، لن يغامر بالوقوف في وجه إرادة الشعب اللبناني المؤيد للمقاومة.
السياسة بين العقلانية والارتهان
في الحقل السياسي، ظهر الانقسام بوضوح:
رئيس الجمهورية جوزاف عون حاول موازنة الموقف بحذر، مدركاً أن الانخراط الكامل في المشروع الأميركي سيُفقده أي شرعية وطنية.
في المقابل، اندفع رئيس الحكومة نواف سلام في مسار مختلف، مستعداً لتقديم تنازلات وُصفت بالمهينة، في محاولة لكسب رضا واشنطن.
هذا التباين كشف عمق الانقسام داخل الطبقة السياسية اللبنانية: بين من يرى أن المصلحة الوطنية تقتضي التوازن، ومن يعتقد أنّ مستقبل لبنان يمرّ عبر البوابة الأميركية، مهما كان الثمن من سيادة أو كرامة وطنية.
الشعب يحسم الكلمة
ما لم يحسب له الأميركيون وحلفاؤهم حساباً هو موقف الشعب اللبناني. فاستطلاعات الرأي أثبتت أنّ أكثر من 60% يرفضون أي مساس بسلاح المقاومة، ويرونه ضمانة بقاء لبنان في مواجهة الاعتداءات الصهيونية.
هذا الموقف لم يبقَ حبيس الأرقام، بل ترجمه الشعب إلى مسيرات جماهيرية حاشدة في الجنوب، حيث رفعت الجماهير الأعلام الفلسطينية والرايات المؤيدة للمقاومة، مرددة شعارات ترفض الإملاءات الأميركية وتدين العدوان الصهيوني المتواصل.
لقد أعطى الشعب تفويضاً واضحاً: المقاومة خط أحمر، والسلاح لن يُمسّ.
سقوط الرهانات الأميركية
الولايات المتحدة راهنت على أن الضغوط والإغراءات قد تدفع بعض الأطراف اللبنانية إلى الرضوخ. لكنها غفلت عن درس جوهري: الكيان الصهيوني لن يتوقف عن العدوان مهما قدّم لبنان من تنازلات.
الغارات على الجنوب استمرت بل تكثفت، وأثبتت أنّ العدو لا يفهم سوى لغة القوة، وأن منطق “السلام مقابل نزع السلاح” مجرد وهم لإضعاف لبنان وتفكيك عناصر قوته.
المعادلة الجديدة: الردع بالمقاومة
في هذا السياق، تبدو المقاومة الإسلامية أمام مرحلة جديدة من تثبيت معادلة الردع. الرسالة واضحة: أي عدوان سيُقابَل بردّ مناسب، وأي محاولة لفرض إملاءات خارجية ستسقط عند جدار الإرادة الشعبية.
لم يعد الحديث عن “التهدئة مقابل التنازل” مطروحاً، بل أصبح من المسلّم به أن الأمن والاستقرار في لبنان لا يُفرضان إلا عبر قوة الردع التي أثبتت فعاليتها من التحرير عام 2000 إلى انتصار تموز 2006.
البُعد الإقليمي: لبنان جزء من محور المقاومة
الساحة اللبنانية لم تعد معزولة عن محيطها. فالمقاومة في لبنان تتحرك ضمن محور واسع يمتد من غزة التي تصمد تحت القصف، إلى صنعاء التي تضرب الموانئ الصهيونية في يافا المحتلة، مروراً ببغداد ودمشق اللتين تؤكدان أن أي عدوان على محور المقاومة سيقابَل بردّ إقليمي، وصولاً إلى طهران التي تشكّل الركيزة الاستراتيجية لهذا المحور.
هذا الامتداد الإقليمي يعني أنّ أي مواجهة في لبنان لن تبقى لبنانية فقط، بل ستتداخل مع ساحات أخرى، مما يجعل كلفة العدوان على الكيان الصهيوني وأميركا أكبر بكثير مما يتوقعان.
زمن المقاومة لا زمن الإملاءات
لقد أسقط لبنان ورقة باراك كما أسقط قبلها مشاريع مشابهة. الأميركيون يمكن أن يكتبوا عشرات الأوراق، والكيان الصهيوني قد يشنّ عشرات الغارات، لكنّ المعادلة الحقيقية تُصاغ اليوم في الميدان، حيث يواجه المقاومون الطائرات والدبابات بصلابة وإيمان.
المعادلة الجديدة تقول بوضوح: لا استسلام، لا خضوع، ولا أمن إلا بمعادلة الردع.
وهكذا يثبت لبنان مجدداً أنّه ليس تابعاً ولا خاضعاً، بل جزء حيّ من معركة أمّة بأكملها، معركة عنوانها: دحر الاحتلال الصهيوني وإفشال الهيمنة الأميركية.
كاتب فلسطيني الهوى والانتماء والهوية لا يتشرف بالعرب الذي تخلوا عن فلسطين
ففلسطين قضية الشرفاء واحد
*كاتب عربي عراقي