صنعاء ترسم ملامحها وتتحكم في إيقاعها .. الهيمنة الغربية تتزعزع.. البحر الأحمر يتحوّل إلى ساحة نفوذ يمنية

على الرغم من كثافة الجهود العسكرية والضغوط الدبلوماسية والحملات الإعلامية التي شنّتها واشنطن وحلفاؤها الإقليميون منذ اندلاع التصعيد البحري في البحر الأحمر، إلا أن النتيجة جاءت معاكسة لتطلعاتهم: عجزوا عن انتزاع زمام المبادرة من يد اليمنيين. فبعد أشهر من الضربات الجوية والانتشار البحري، ومحاولات التنسيق الدولي “لحماية” الملاحة، اتضح أن لصنعاء اليد الطولى في هذا الممر الاستراتيجي. فقد رسمت حركة «أنصار الله» قواعد الاشتباك وأدارت حركة مرور السفن بخطط متقنة جمعت بين الردع العسكري وتكريس الشرعية الإعلامية والسياسية. ومع ذلك، يظل السؤال مطروحا: هل يشير هذا التقهقر الغربي إلى هزيمة صامتة أم أنه خطوة مدروسة لإعادة ترتيب موازين النفوذ؟

سعى خصوم صنعاء إلى رسم خريطة البحر الأحمر كفضاء يخضع لإشرافهم المباشر، غير أن الوقائع على الأرض أظهرت عكس ذلك، إذ تحوّل الممر تدريجيا إلى مجال نفوذ يمني يرسم قواعده الخاصة ويعيد صياغة معادلاته بعيدا عن المظلّة الغربية التي فقدت قدرتها التقليدية على فرض هيمنتها. وخلال الفترة الأخيرة، عزّزت صنعاء موقعها كقوة بحرية صاعدة بعدما نقلت البحر الأحمر من كونه مجرد ممر دولي تتحكّم فيه القوى الكبرى، إلى فضاء سيادي يخضع لقرار يمني مستقل. واستندت «أنصار الله» في هذا التحوّل إلى مزيج مدروس من الأدوات العسكرية والسياسية والإعلامية، فصاغت معادلة جديدة للملاحة في المنطقة، تقوم على محاصرة إسرائيل وقطع شرايينها البحرية من جهة، وفرض قواعد اشتباك جديدة على السفن العابرة من جهة أخرى.

ولم يقتصر هذا التحوّل على العمليات العسكرية، بل انعكس أيضا في البنية المؤسسية التي أنشأتها صنعاء من خلال «مركز تنسيق النشاطات الإنسانية»، وهو كيان حمل في آنٍ واحد صفة سياسية وإعلامية. فقد جعلت صنعاء من هذا المركز منصة متقدّمة لإدارة حضورها في الممر المائي، فجمعت بين خطاب إنساني يستهدف الرأي العام الدولي، وأدوات عملية تفرض على السفن قواعد عبور مرسومة وفق رؤية حركة «أنصار الله». وبذلك رسّخت صنعاء صورتها كقوة لا تكتفي باستخدام السلاح، بل تنتج أيضا رواية شرعية تمنح تدخلها في البحر الأحمر غطاء سياسيا وإعلاميا متماسكا.

في المقابل، ظهرت الولايات المتحدة مكبّلة في خياراتها. فبدلا من خوض مواجهة مباشرة مع صنعاء، فضّلت وزارة الدفاع الأمريكية الاعتماد على وكلاء محليين موالين لما يسمى “حكومة عدن”، وفي مقدّمتهم القوات التي يقودها طارق صالح. وكشفت تقارير أمريكية أن هذه القوات اعترضت خلال الأسابيع الماضية شحنات قالت واشنطن إنها أسلحة إيرانية، تضمّ صواريخ مجنّحة وطائرات مسيّرة ومكوّنات دفاع جوي، كانت متجهة نحو ميناء الحديدة. وحاولت الإدارة الأمريكية إظهار هذه العمليات كإنجازات كبيرة، لكنها في جوهرها عكست عجز واشنطن عن التدخل المباشر، واضطرارها إلى إسناد مهام استراتيجية حساسة إلى قوى محلية محدودة القدرات.

ولم يأتِ مستغربا أن يخرج القائد الجديد لـ«القيادة المركزية الأمريكية» الأدميرال براد كوبر، ليشيد علنا بدور تلك القوات، واصفا إياه بـ”البالغ الأهمية” في تقليص تدفّق الدعم الإيراني إلى أنصار الله وضمان حرية الملاحة. لكن تكرار هذه الإشادة ثلاث مرات خلال أيام قليلة كشف محاولة واشنطن تغطية محدودية دورها المباشر، وأبرز إقرارها الضمني بأن صنعاء باتت الطرف الأكثر تأثيرا في البحر الأحمر. وبينما انشغلت الإدارة الأمريكية بتوزيع المديح على وكلائها المحليين، واصلت صنعاء فرض قواعدها الخاصة، وحوّلت البحر إلى ساحة نفوذ يمني تُدار قراراتها بعيدا عن المظلّة الغربية.

إلى جانب البعد العسكري، استخدمت صنعاء أدوات أكثر نعومة ولكنها لا تقل فعالية، أبرزها تطوير البنية الإعلامية المرتبطة بمركز “تنسيق النشاطات الإنسانية”. وكشفت تقارير موقع «ذا ماريتايم إكزكيوتيف» المتخصّص في أخبار الشحن أن صفحة “الأسئلة المتكرّرة” التي أنشأها المركز تتميّز بمستوى عالٍ من الاحترافية في العرض والتصميم، يتفوّق على الكثير من المواقع الرسمية في المنطقة. ولم تقتصر هذه الصفحة على كونها أداة تقنية، بل تحوّلت إلى واجهة تُقنع بعض المتابعين بأحقّية مطالب صنعاء، وتمنح أنشطتها في البحر الأحمر وخليج عدن غطاء من الشرعية.

وما يلفت النظر أن الصفحة دعت السفن العابرة إلى التواصل المباشر مع سلطات صنعاء عبر قنوات مخصّصة، وحثّت مالكي السفن على تقديم “طلبات عبور آمن” قبل 48 ساعة من مرورهم. وفرضت هذه الطلبات تفاصيل دقيقة مثل أسماء السفن وخطوط سيرها، الأمر الذي مكّن صنعاء من بناء قاعدة بيانات استخبارية واسعة عن حركة الملاحة في البحر الأحمر. وبفضل هذا الأسلوب، حصلت «أنصار الله» على قدرة استباقية لتحديد أهداف محتملة لعملياتها، خصوصا تلك المرتبطة بإسرائيل أو التابعة لشركات غربية ناشطة في الصناعات الدفاعية.

في المقابل، كشف الموقف الدولي عن تردّد واضح، وبرز ذلك في موقف “هيئة العمليات البحرية البريطانية” التي تُعد من أبرز المرجعيات في مجال الأمن البحري. فقد اكتفت الهيئة بإصدار نصائح عامة من دون أن تحسم ما إذا كان على القباطنة التواصل مع سلطات صنعاء أو تجاهل مطالبها. وأظهر هذا الموقف الضبابي فراغا في منظومة الحماية الدولية للملاحة، وترك القرار النهائي لتقدير قادة السفن، بما يعني عمليا إقرارا بواقع السيطرة اليمنية على الممر.

ولم تقتصر خطوات صنعاء على هذا الجانب، بل أقدمت على تحرّك نوعي حين أعلنت تبنّيها ما سمّته “إشعارات ما قبل العقوبة”، ووجّهتها إلى 64 مالك سفينة متهمة إياهم بخرق الحصار المفروض على الموانئ الإسرائيلية. ورغم أن صنعاء امتنعت عن كشف القائمة الكاملة، فإنها نشرت أسماء 15 شركة دفاع أمريكية تحديدا، في رسالة تحمل أبعادا سياسية بقدر ما تعبّر عن موقف عسكري. ومن خلال هذه الخطوة، أظهرت صنعاء قدرتها على دمج الحرب النفسية والإعلامية ضمن أدوات الصراع البحري، لتجعل من البحر الأحمر ليس فقط ساحة مواجهة عسكرية، بل أيضا ميدانا لمعركة الرواية والشرعية.

في خضم هذه التطورات، وجّهت شركة استشارات المخاطر البحرية «فانغارد تيك» تحذيرا واضحا من التعامل مع مركز «تنسيق النشاطات الإنسانية» باعتباره بديلا عن تقييمات المخاطر الرسمية والمهنية. لكن هذا التحذير، رغم ما يحمله من دلالة على قلق الشركات الدولية، يعكس في الوقت ذاته إدراكا بأن صنعاء لا تتحرّك ضمن خطوات تقنية محدودة، بل تنفّذ استراتيجية متكاملة تهدف إلى تثبيت شرعيتها البحرية وصياغة الرواية وفق مصالحها، في ظل عجز ملحوظ للأساطيل الغربية عن فرض قواعدها السابقة.

ويتضح من حصيلة هذه الوقائع، أن البحر الأحمر، الذي مثّل في السابق منطقة نفوذ غربي خالص، انتقل تدريجيا إلى ساحة ترسم صنعاء ملامحها وتتحكم في إيقاعها. ولم يعد النقاش محصورا في استهداف السفن الإسرائيلية أو تهديد خطوط الإمداد وحدها، بل امتد إلى معركة شرعية وإدارة سردية تعتمد على ذكاء إعلامي ورؤية استراتيجية بعيدة المدى. وهكذا خرج اليمن من موقع الطرف المحاصر إلى موقع القوة الفاعلة التي تبادر وتفرض شروطها. وبينما يواصل خصوم صنعاء البحث عن أدوات جديدة لموازنة هذا النفوذ، يطرح الواقع تساؤلا: هل هذا التقهقر الغربي يعكس هزيمة حقيقية، أم أنه مجرد انسحاب تكتيكي مدروس؟ ومع ذلك، يثبت الواقع يوما بعد آخر أن السيطرة على البحر الأحمر أصبحت يمنية الطابع، وأن محاولات انتزاعها لم تعد قابلة للتحقق بالوسائل التقليدية التي استخدمتها واشنطن وحلفاؤها لعقود طويلة.

الأيام نيوز الجزائرية : حميد سعدون
قد يعجبك ايضا