صنعاء تفرض معادلة جديدة.. انسحاب أميركي غير معلن من البحر الأحمر

كشف موقع “USNI News”، التابع لمعهد البحرية الأمريكية، عن مستجدات لافتة في مسار التواجد العسكري الأمريكي في البحر الأحمر، معلنا أن الولايات المتحدة لم تُبقِ أيّاً من مدمراتها الحربية في هذا الممر البحري الحيوي منذ الأسبوع الماضي.

هذه المعلومة، التي تبدو للوهلة الأولى تفصيلًا فنيًا ضمن نشرات البحرية الأمريكية، تحمل في طياتها دلالات استراتيجية عميقة تعكس تغيرا واضحا في موازين القوة، وتحديدا أمام تصاعد عمليات قوات صنعاء البحرية، والتي تُنفذ دعمًا لغزة ورفضًا للعدوان الإسرائيلي المستمر.

ـ تراجع أميركي لافت:

يعد هذا الانسحاب من البحر الأحمر بمثابة انكفاء أمريكي واضح أمام الهجمات البحرية التي تنفذها القوات اليمنية من مناطق سيطرة حكومة صنعاء، في سياق عمليات عسكرية وُصفت بالدقيقة والمنظمة.

وبحسب التقرير، فإن هذه التطورات تعكس فشلا أمريكيا في تأمين حرية الملاحة أو حماية مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة، رغم امتلاكها لأحدث وسائل الدفاع البحري والتقنيات العسكرية المتقدمة.

ويؤكد التقرير أن هذا الغياب لا يتعلق فقط بالأسابيع الأخيرة، بل يُضاف إلى مسار انسحابي أوسع، حيث اعترفت مصادر أمريكية خلال الأشهر الماضية بأن البحرية الأميركية تتجنب فعليا دخول البحر الأحمر منذ أكثر من عام ونصف.

ويعود السبب الرئيسي إلى “المخاطر الأمنية الكبيرة”، نتيجة الاستهدافات المتكررة التي تعرضت لها قطعها الحربية، رغم التحالف العسكري الواسع الذي شكلته واشنطن تحت اسم “حارس الازدهار” بهدف حماية خطوط التجارة الدولية في بداية الأزمة.

ـ عمليات صنعاء تفرض المعادلة:

ما لا يمكن تجاهله في هذا السياق هو أن صنعاء، رغم الحصار والحرب التي تعرضت لها على مدى سنوات، نجحت في تطوير قدرات بحرية أثبتت كفاءتها في تغيير قواعد الاشتباك. فالهجمات التي شنتها على سفن أمريكية وإسرائيلية أو مرتبطة بهما، لم تكن مجرد عمليات استعراضية، بل كانت ضمن خطة ممنهجة تهدف إلى فرض معادلة ردع جديدة.

وقد أشارت تقارير متقاطعة إلى أن هذه العمليات نُفذت باستخدام صواريخ موجهة وطائرات مسيّرة، أظهرت قدرة على إصابة الأهداف بدقة عالية، بل والوصول إلى مسافات بعيدة.

وهو ما دفع مراكز أبحاث عسكرية أمريكية إلى وصف هذه التكتيكات بأنها “تهديد غير مسبوق” للهيمنة البحرية الغربية في المنطقة.

ـ غزة في قلب المعركة:

ما يزيد من حساسية هذا التطور هو ارتباطه المباشر بالحرب الجارية على قطاع غزة. فصنعاء كانت واضحة منذ البداية في ربط عملياتها البحرية بالدعم الكامل للمقاومة الفلسطينية، وتحديدا في وجه العدوان الإسرائيلي الذي تسبب في سقوط عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى وتدمير واسع للبنية التحتية.

وعليه، فإن التصعيد في البحر الأحمر لا يمكن فصله عن مجريات الحرب في غزة، وهو ما أكدته مصادر غربية ربطت بين توقف العمليات البحرية اليمنية مؤقتا خلال فترات التهدئة في غزة، واستئنافها بمجرد استئناف العدوان.

هذا الربط السياسي والعسكري بين الجبهتين يعيد تشكيل مشهد الشرق الأوسط، ويطرح تساؤلات عميقة حول مستقبل النفوذ الأميركي في هذه المنطقة المفصلية.

ـ تداعيات إقليمية ودولية:

انسحاب المدمرات الأمريكية، حتى وإن لم يعلن رسميا، يبعث برسائل مقلقة لحلفاء واشنطن في المنطقة، خاصة السعودية والإمارات، اللتين تعتمد سياستهما الدفاعية بدرجة كبيرة على الغطاء الأميركي.

كما أنه يثير مخاوف لدى شركات الملاحة الدولية التي باتت ترى البحر الأحمر منطقة غير آمنة، مع تسجيل ارتفاع كبير في تكاليف التأمين وتغيير مسارات السفن نحو طرق أطول وأكثر كلفة عبر رأس الرجاء الصالح.

وفي المقابل، ترى أطراف إقليمية أخرى أن هذا الانسحاب قد يكون خطوة نحو التهدئة إذا ما تم استثماره سياسيا، عبر الدفع الجاد نحو وقف العدوان على غزة. فقد ازدادت في الآونة الأخيرة الدعوات الإقليمية والدولية التي تؤكد أن نزع فتيل التوتر في البحر الأحمر يبدأ من إنهاء المجازر في القطاع المحاصر، وفتح أفق لحل سياسي شامل.

ـ إعادة النظر في الانتشار البحري:

تواجه واشنطن الآن خيارا صعبا: إما مواصلة الانخراط العسكري في منطقة أصبحت مكلفة وخطرة، أو إعادة تموضعها استراتيجيا والتركيز على جبهات أقل تكلفة.

ومع ازدياد الضغوط الداخلية في الولايات المتحدة لعدم التورط في حروب لا تحظى بإجماع شعبي، قد تجد الإدارة الأمريكية نفسها مضطرة للقبول بحلول تفاوضية تنهي التصعيد، بما في ذلك الاعتراف بقوة صنعاء كفاعل إقليمي يصعب تجاهله.

ـ خلاصة:

الانسحاب الأمريكي من البحر الأحمر ليس مجرد خطوة عسكرية، بل هو مؤشر على تحولات كبيرة تشهدها المنطقة، تعكس نهاية مرحلة وبداية أخرى.

وبينما كانت واشنطن تعتبر نفسها الضامن الأول للملاحة البحرية، باتت اليوم تتراجع تحت وقع صواريخ ومسيّرات يمنية، ما يفرض على الجميع إعادة حساباتهم، وإدراك أن المعادلات القديمة لم تعد صالحة في شرق أوسط جديد تُعيد رسمه قوى المقاومة.

تقرير ـ عبدالرزاق علي

قد يعجبك ايضا