لبنان: موفدو نزع الكرامة.. واشنطن تنقلب على التزاماتها
ما كان ينبغي أن تمرّ الإهانة التي وجهها المبعوث الأميركي توم برّاك للإعلاميين، من على منبر القصر الجمهوري، من دون اعتذار..! حتى الساعة هذا لم يحدث..!
الاعتذار خرج في النهاية بحرجٍ من الرئاسة اللبنانية ووزارة الإعلام، في بيانين، نسبا فيه الإهانة إلى مجهول: “أحد الموفدين الأجانب”، في تحاشٍ مفضوح لذكر اسم “توم برّاك” أو تسمية الوفد الأميركي بالاسم. في ما ذهب بيان الرئاسة إلى تسويغ الإهانة بأنها خرجت عن غير قصد! هذا ولم يُسجل أي رَجَّة في وزارة الخارجية، ولم يُسمع حسّ الوزير.. لا إدانة ولا استدعاء ولا حتى موقف بينَ – بين؛ لأن الإهانة عندما تصدر من موفد أميركي لا توازي قبح منشور سفير إيراني، حتى وان لم يأتِ فيه على ذكر لبنان.. !
بهذه الخفة؛ ارتضت سلطة “نزع السلاح” بأن تُنزع كرامة لبنان، وأن يكون ما سُمي سابقًا بــ”قصر الشعب” مرتعًا ليهان من على عتبته الشعب كُله، إعلامًا وتضحيات.
المفارقة أنّ وسائل إعلام أميركية، “سي إن إن” و”واشنطن بوست”- على سبيل المثال- تحدثت عن كلام برّاك المسيء والعنصري الذي وصف فيه سلوك الإعلاميين وشعوب المنطقة بـ “السلوك الحيواني”. “واشنطن بوست”، تحديدًا، استوقفها أنّ أيًا من الصحفيين الحاضرين لم يرد على الإهانة.. !
في المقابل؛ انبرت بعض وسائل الإعلام اللبنانية لتحوير المشهد باتجاه التصويب على فوضى الإعلاميين، وذهب آخرون إلى نفي وقوع الإهانة أصلًا، عبر اللعب على المصطلحات، بين هؤلاء “نخب” إعلامية وقضاة سابقون..! كما لا يفوّتون فرصة التملق لسفارة عوكر ووفود بلادها، وهل يُستغرَب ذلك في بلدٍ على حافة انفجار داخلي، ومعظم طاقته الإعلامية مشغولة في متابعة تسريحة مورغان أورتاغوس وإعداد التقارير عن إطلالتها وعما ترتديه من مجوهرات، أو في بث العواجل عن عشاء الوفد الأميركي في أحد مطاعم الجميزة؟!..
الإهانة التي لم تكن حدثًا عابرًا، غطّت على انقلاب أميركي صريح على التزامات سابقة، عبّرت عنه المواقف التي أدلى بها أعضاء الوفد الأميركي. إذ لم يمضِ عشرة أيام على تأكيد برّاك أن الحكومة اللبنانية قامت بالخطوة الأولى، والآن على “إسرائيل” أن تقابلها بخطوة مماثلة. وفي ما كان اللبنانيون يترقبون ما سيعلنه الأميركيون، على صعيد الخطوة “الإسرائيلية” المقابلة، أوضحت السيناتور الأميركية جين شاهين بأن الوفد الأميركي لم يأتِ إلى لبنان ليناقش ماذا فعلت أو ما ستفعله “إسرائيل”..! وبتصريحات -لا قفازات فيها- قال زميلها الصهيوني ليندسي غراهام: “لا تسألوني ماذا ستفعل “إسرائيل” قبل أن تقوموا بنزع سلاح الحزب”. هذا؛ في ما كرر توم برّاك المواقف نفسها، زاعمًا أن “اسرائيل” ستنسحب من لبنان بعد نزع سلاح حزب الله.
كما بدا أن الوفد الأميركي لم يحمل معه سوى الأوامر، لا النقاش. أوامر بتنفيذ قرار “حصرية السلاح” فورًا، تماهيًا مع خطاب بنيامين نتنياهو الذي استبق الزيارة بإشارة إلى أن كيانه ليس معنيًا بالإقدام على أي خطوة قبل سحب سلاح المقاومة في لبنان، على أن يذهب بعدها لانسحاب “تدريجي” من النقاط المحتلة.
لذلك؛ هل سيخرج في لبنان من سيحدق في عيوننا ليقول إن كلام مجرم الإبادة ضمانة أيضًا؟ نعم قد يفعلونها! وربما قد يذكّرنا هؤلاء بأن واشنطن إمبراطورية الألف كذبة وكذبة، تعهدت بأن توبّخ “بيبي” إن لم يلتزم، وأن توبيخها كفيل بكبح جماح المجرم ومنعه من التمدد لتحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”… إلى هذا الحد لا يجد بعض اللبنانيين حرجًا في استحمار أنفسهم قبل الآخرين..!
مرة أخرى؛ تتنصل واشنطن من تعهداتها، والتي فرضت إقرار الورقة الأميركية، واستجابت لها حكومة “الدينغ الدينغ”. وهي، أيضًا، من يريد لنا لبنانيو “حروب الآخرين” أن نقبلها كضامنة. ومن على منبر الرئاسة، وعلى مقربة عشرات الأمتار من المكان الذي كان يجلس فيه رئيس الجمهورية اللبنانية، كان ليندسي غراهام يخاطبنا بوقاحة ناطقًا بلسان “اسرائيل”: “عليكم نزع سلاح عدو الشعب الإسرائيلي، أيادي حزب الله ملطخة بدماء الشعب الإسرائيلي”.
هل ما يزال من المنطقي أن نتساءل: ألم يحرّك الكلام شيئًا في الضمير الوطني، إن بقي منه شيء؟ ألا يستوجب الكلام اعتذارًا من اللبنانيين الذين أثكلت “إسرائيل” أمهاتهم، واعتقلت منهم الأبناء، ودمرت بيوتهم، واحتلت أراضيهم..؟!
أليست هذه البيئة الوطنية التي توجهتَ إليها قبل أقل من شهر تطالبها بأن تراهن على الدولة؟ على أي دولة؟! دولة الموفدين الأميركيين يرفعون مصالح “إسرائيل” وحدها، ويدوسون على تضحياتنا وكراماتنا؟ أم دولة موفدي التطبيع ولو على دمائنا؟ وأي دولة تلك التي تفرّط بثوابتها الدستورية، وتمنح منابرها لمن ينطق باسم مصالح الاحتلال؟
وعلامَ الرهان؟ على أن يكون دمنا مباحًا وأوطاننا مفتوحة للاستباحة والتهجير؟ أم على سلطة تطالب قواتها المسلحة خوض حروب الآخرين ضد المقاومة وأهلها، والآخرون ليسوا “إسرائيل” وحدها، معها أميركا، وأموال وقنوات خليجية.
في مهزلة استغباء وقحة، يعيد الأميركيون عرض أسطوانتهم المشروخة: “ازدهار” وجديدهم “منطقة اقتصادية” بتمويل سعودي، طبعًا.. هذا هو المقابل الذي ترى فيه واشنطن ما يُغري الجنوبيين وغيرهم من أهل المقاومة لبيع دم أبنائهم؟ للمرة المليون يُخطئ العقل الرأسمالي فهمنا…فدماؤنا أغلى من أن تكون برخص الذمم التي تعتلي الكراسي وتخشى فقدها، على الرغم من طمأنة الأمين العام لحزب الله سماحة الشيخ نعيم قاسم المسؤولين، بأن الكراسي محفوظة؛ إذ لن يجد الأميركيون أفضل من طاقم السلطة الحالي يبصم على السمع والطاعة. وليس فينا أبله يصدق الأميركيين، وهم يبيعون الأوهام في السطر نفسه الذي ينقلبون فيه على عهودهم. وكل ما يطرحه الأميركيون من ازدهار لن ينعم فيه أحد من أبناء المنطقة، يرسمه الأميركيون وفقًأ لمقاس “إسرائيل” وطموحاتها، ويفرضون على عرب التطبيع تحمّل النفقات، ليدوسوا به على دماء أهالي المنطقة ووجودهم.
أمام كل هذا؛ لا يستحضر الذهن إلا حذاء الصحافي العراقي منتظر الزيدي، فردة باتجاه جورج بوش(الابن) وأخرى تضرب العلم الأميركي… ليس أقل من هذا؛ كان ينبغي أن يكون الرد صرخة كرامة بوجه الأميركيين.. شركاء الإبادة ورعاة مشاريع قتلنا.
إسراء الفاس –صحافية لبنانية