إلاَّ.. يوسُفْ !

عين الحقيقة/ د.مصباح الهمداني

-نعم مسكناه يوسف المداني، وهو جريح.. ويا فندِم لا تنسونَا من الفلوس، فالشباب متضايقين جدًا.. يقاطعه صوتٌ يُشبه النهيق قائلاً:
-متأكد انه يوسف لأنه من قادة الحوثيين الكبار.
-أيوة متأكِّد 100% وسأرسل لك الفيديو الآن.
-طيِّب ولا يهمَّك سأكلِّم سمو الأمير يضاعِف راتبكم إلى ألف ريال.. ثم يتحشرج ويواصِل:
-كم.. كم عددكم ..أنتوا اللي مسكتوه.
-يا رجُل أيش من ألف، هذا المداني، نريد مكافأة مجزية وعددنا الذين مسكناه ميه وخمسين الذين سِلمنا من الموت.
-طيِّب طيِّب ولا يهمك .نخليها 1200..
وينقطعُ الاتصال!
وتمر دقائق وتبدأ قنوات العربية واسكاي نيوز الإماراتية والاخبارية السعودية، وعشرات المحطات ببث الخبر العاجل على الشاشات (تمَّ أسر القائد الحوثي الكبير يوسُف المداني)
..
وبينما كانَ الجريحُ يئن، ويقول:
-يا مرتزقة لستُ يوسُف المداني.. كانوا يقاطعونه بالسبِّ والشَّتمِ والتعذيبْ!
ويقولون بعدها:
-إلاَّ..يوسف..بشحمه ولحمه ودمه!

فمن هو هذا المُجاهِدُ، ثم الجريح، ثم الأسير، ثم الشهيد؟
هنا القِصةُ كاملة!
……
هناكَ على السواحِلْ أساطيرٌ وملاحِمْ، يعجزَ عن إحاطتها القلَم، فأعدادُ أشبالُ الوطنِ الأحرار من رجال الرجال تتضاعفُ باستمرار، ويُشكلونَ سلاسِلَ مترابطة، كأنها سِبحاتٌ متصلةٌ ومنفصلة، وبعدَ أن تمَّ تطهيرُ معظم الخوخة، ونالَ المُرتزقةَ من التنكيلِ والإبادة، ما امتلأت به الصحاري والرِّمال، غامرَ رتلٌ مكون من العشراتِ من الآليات، ما بين طقمٍ ومدرعة ودبابة، مُتَّجِهًا إلى يَختِلْ، بأقصى سرعة، وما إن وصلوا أحدُ الأودية المنخفضة، حتى توقفوا بعدَ أن أصبحَ الطيران، يقصفُ أمامهُم..

وغيرَ بعيد من الرتل، كانتِ نواظير الأحرار ترصُد الحركة بدقَّة، وبينما يتمُّ تخطيطَ مُخطط لمواجهةِ الرَّتل، وتشكيلِ مجموعةٍ مناسبة؛ إلاَّ أن أحدَ المجاهدين البواسِل، نهضَ كالأسدِ وقال:
-مهما كانَ العدد الذي سيواجِههُم، فإنَّ كثرة العدو غالبة، وسيتمكنونَ بعدها من الفِرار؛ ولكِنِّي سأكمِنُ لهم عند ذلك المنعطَف، والذي لابُدَّ أن يمروا من عنده.. وأشار بيده إلى أطرافِ المنخفض..

عارضه مرافقوه، وأصرُّوا أن يكونَ معه بعض الأشبال، إلاَّ أنه رفضَ ذلكَ ووزعَهم على أماكنٍ بعيدةٍ مختلفة، وقال لهم وهو يستخدمُ سلطةَ القائد:
-إن رأيتم الرَّتلَ يعودُ أدراجَه فأتوا إلي، وإن توقفَ الرتلُ مكانه فتوقفوا، وإن واصلَ طريقه فقوموا بتقطيعِ أوصاله، كلُّ واحدٍ منكم في مكانه..

حمَلَ البطَلُ فوق كتفيه، ما خفَّ وزنه وطابَ فِعله،ثلاثة صواريخ لو، وستٌ من قذائفِ البازوكا، و حقيبة صغيرة مليئةٌ بالقنابل اليدوية ، وثمانية مخازِنُ رشاش كلاشنكوف.. 
ثم تحلَّقَ حوله أكثرُ من عشرة، هذا يقبلُ رأسه، وهذا يحتضنه، وجميعُهم يعلمونَ، أنَّ من يكون في رأسِ سلسلةِ الكمين، هو أكثرُ المجاهدين عرضةً للخطر، وكلما حاولوا ثنيه عن تلك المُهمة وأن يكونَ في الحلقة الخامسة أو الرابعة، أو حتى على الأقل في الثانية، كان يستخدمُ سلطته القوية ويقول:
-لابد أن تنفذوا خطة قائِدكم..

كانتْ تلكَ الكلماتِ تعقِدُ ألسنتهم بالصمت، وتشعُلُ قلوبَهم بالقلق، ويتمنَّى كل واحدٍ منهم أن يكونَ في ذلك المكان..
لوَّحَ بيديه مودِّعًا، وهرول في الكثبان، يخطو بسرعةٍ تارةً، ويبطئ تارة، وكأنه أسدٌ كثيف الشعرِ، يتربصُ بقطيعٍ من الثيران، كان لثيابه المموهة، وخطواته المحترفة بين الرمال والأشجار، وضرب الطيران العشوائي في المكان؛ الأثرُ الكبير، في وصوله إلى المنعطف، دونَ أن يتنبهَ له الرَّتلُ المتوقِّفَ غير بعيد..

وجدَ حفرةً كبيرة، تخفيه حتى الرقبة، وبدأ بتفريغِ الحمولة الثقيلة، ورصها عن يمينه ويساره، وما هي إلا ساعة، وتوقف الطيرانُ عن التحليق والضرب، ويبدو أنه استجابَ لعشراتِ النداءات من رتل المرتزقة.
تحركَ الرَّتل، وتحرَّكتْ شفاه البطل بالتسبيح والتهليل والتحميد، واقترب الرتلُ أكثرْ، وكأنَّما يُساق إلى حتفه.. 
اقترب أكثر، ولكنه يسير هذه المرةِ بحذر، وبسرعةٍ خفيفة، لربما خشية الألغام، أو لربما خوفًا من معاودةِ الطيران الذي لا يؤمنُ جانبه..

ردَّد المُجاهدَ “وما رميتَ إذ رميتَ ولكنَّ الله رمى” وأطلق الصاروخ باتجاه مقدمة الرتل، وإذا بالطَّقمِ يحترقُ بمن عليه، حمل الصاروخ الثاني والثالث وأطلقهما بعد الأول، فإذا بمدرعتين تحترقان، وبدأت الأصوات والصيحات والصراخ والنداءات، تتعالى؛ مترافقةً مع تطايرُ شظايا المتفجرات من الآليات المحترقة، ويصيحَ كبيرُ المرتزقة أنَّ عليهم أن يخرجوا من مدرعاتهم ويتركوها ويصيحُ بهم قائلاً:
-إنه الطيرانُ الملعونَ من يقصِفنا، ونحنُ نستحق لأننا مرتزقة..

ابتسمَ البطلُ وهو يقول:
-الحمدُ الله الذي أعمى بصائرهم. واستمر في إطلاق البوازيك التي اختفى صوتها مع تلك الإنفجارات الكبيرة، وبَعدَ آخرِ قذيفة بازوكة أطلقها المجاهِد..
بدأ كبير المرتزقةِ ينادي بالميكرفون في الهاربين بصوتٍ عالٍ :
-أقبلوا نحوي.. فلقد تلقيتُ اتصال بأنها ليست طائرات، ونحنُ في كمين، ولابد أن حولنا المآت أو الآلاف من الحوثيين، وعليكم أن تنتشروا وتؤمنوا المكان وإلاَّ قُتلنا جميعًا..

كانَ المُجاهِدُ قد انتهى من القنابلِ جميعها، وأصبحَ رشاشه يُخرجُ الدُّخانَ من فوهته، وكأنه زفيرُ مُدخن لمداعة.. كانت الخزنة الأخيرة، تقذفُ آخر رصاصاتها، والتي لا تستقر إلاَّ في قلبِ مرتزق، أو جمجمةِ غازٍ أجنبي..

وكانت الرصاص كذلك تُقبل إليه كأنها زخاتُ مطرٍ من كل مكان.. أصيبَ البطلُ في كتفه الأيسر بطلقةٍ طائشة، ضغطَ على المكانِ النازفِ بيده اليمنى، ودسَّ رأسه في الحفرةِ..

وبينما هو كذلكَ إذْ سقطَ عليه أحدُ المرتزقةِ الفارين، وكانَ سمين جِدًا، ورائحته كريهةٌ جِدًّا، فلرُبما كانَ ثمِلاً، أو أنه يتعاطى مُخدِّرًا، ولم يشعُر بأنَّ تحته بني آدم..

أخرجَ المجاهِدُ يده اليمنى، وأرسلهَا نحوَ رقبةِ هذا الوَغد، فإذا به يصيحُ بعربيةٍ مكسَّرة قائلاً:
-(أنكثوني أنكثوني، هنا تعبان يأكلني)..

اجتمعَ العشراتُ من المرتزقةِ حوله، وهالهم المنظر، فليسَ هناكَ من ثعبانٍ، وقالوا له:
-شكلك زيَّدتَ العيار يا سنغالي؟
أشار لهم إلى حنجرته، فشاهدوا كفَّ المجاهدَ البيضاء تمسكُ بحنجرة السنغالي، فقاموا برفع السنغالي، والمجاهدُ ملتصقٌ به، والدماءُ تغطيه، وما إن فصلوا بينهما، حتى أمسك ستة منهم بالمجاهد، ينزعون عنه بقايا خزنات الرصاص الفارغة، وحضرَ أحدُهم وما إن رآهُ حتى صاحَ قائلاً:
-إنه يوسف المداني.

تعالتِ الصيحاتُ بالنصر، وكبيرهم يسأله:
-كم معكَ من مقاتلين في الكمين.
فيأتيه الجواب
-لا أحدَ معي..
وبعد أن مشَّطوا الأماكنِ القريبة..أخذَ العشرات يجرونَ المجاهِدَ إلى إحدى السياراتِ الناجية، وفيما قدماه تخطان الأرضِ، كانت عيناه تعُد القتلى المجندلون حول المدرعاتِ المحترقة الثمان، وبدأ يعدهم:
-واحد، اثنان…خمسة… عشرة…ستة وثلاثون… خمسة وأربعون…

وعادَ من تبقَّى من الرتل يجرُّ أذيال الهزيمةِ والخيبة إلى حيثُ أتى؛ ومعه ثلاثةَ أطقمٍ مليئةٌ بالجثثِ التي تمَّ حشرها في أكياسٍ الزِّبالةِ السوداء، بعد ترقيمها بقلمٍ أبيض، وتُركتْ سِتْ جثث قالَ عنهُم كبير الرَّتلْ “لا تحملوهم فإنَّهم من تعِز، ولاشكَّ أنهم هم الخونة الذينَ بلغوا الحوثيين عنَّا”

تمدد المُجاهِدُ يجرُّ أنفاسه بصعوبة، بعدَ أن توقف نزيف جرحه بعد ربطه..
كانَ المرتزقةِ كالضباعِ حوله، هذا يقفُ متأملاً حواجبه، وذاكَ يُحملقُ في أنفه، وآخرٌ يقول:
-أنتَ من الجِنِّ أم من الإنس، لقد قتلتَ منا أيها المجوسي ثمانيةً وخمسون، عدا عن عيال تعز ..
يبتسمُ المجاهِدُ ساخرًا ويقول:
-الحمدُ لله، وليتني حملتُ المزيدَ من الرصاص.
يركلهُ المُتحدِّثُ في بطنه، ويأتي بعدها كبيرهم ليقول:

-نحنُ متأكدون بأنكَ يوسف.. وسنعطيك فرصةً تتحدث إلى أهلكَ قبلَ قتلك.
أمسكَ المجاهِدُ بالهاتف، وضغط الأرقام، وما إن رنَّ الهاتف وسلَّم على زوجته ، حتى اختطف كبيرهم الهاتِف وقالْ:
-ألوه من معي؟ من أنتِ؟
-من أنتَ أنتْ؟ ولماذا أخذتَ الهاتفَ من يدِ زوجي؟
-معك قائد القوات الجنوبية لقد أمسكنا بزوجِكِ ، فأخبرينا عن اسمه الكامِل وإلا قتلناه..
كادت المرأة أن تسقط مغشيًّا عليها.. إلاَّ أنها استحضرتْ موقِفَ زينبْ وهي ترى أخيها الحسين ممزق الجسد.. وأخذت نفَسًا عميقًا ..وقالت:
-سأخبرك عن اسم زوجي، لكن قبلهَا أعطني إيَّاهُ لأكلمه.. ناوله الهاتفَ فقالَ المجاهِد:
-سامحيني أيتها المرأة العظيمة، سامحيني أيتها المجاهدة الصابرة، سامحيني أيتها الفاضلة الشامخة، وقبِّلي أمي وأبي وجميع إخوتي نيابةً عني، واطلبي لي السماح منهم جميعًا، وممن يعرفني، 
وكوني كفاطمة في صبرها، وكزينب في شجاعتها، وكسكينةٍ في إيمانها، ولا تجزعي إن صعدَت روحي لبارئها.. ركله كبير المرتزقة قائلاً:
-إنجز!
أكملَ المُجاهدُ حديثه قائلاً:
-أخبري أبنائي يا زينة النساء عن أبيهم البطل، أخبريهم عن أبيهم المجاهد، أخبريهم أنني صمدتُ كالجبلِ الأشم مقبلاً غيرَ مُدبر، أخبريهم أنني أرى أنوارُ وأنهارُ الجنة، وأشعرُ بلمساتِ محمدٍ وعليٍ والحسنانِ وفاطمة، أخبري كل صعدة في سهلها والجبل، بأنَّ أحدَ أبنائها؛ تصدى لرتلٍ كامل.. 
ركله كبيرالمرتزقة ثانية، فقال المجاهِد:
-أخبريهم عن اسمي يا زوجتي العزيزة!
أمسك كبيرهم بالهاتف وقال:
-ما اسمُ زوجك يا امرأة؟
-اسمه البطل المِقدام، المدافعُ عن وطنه وعرضه: علي محمود الشهاري!

وفجأةً؛ انطلقَتْ ست طلقاتٍ غادرة، فاجرةٌ، آثمة، وانغرستْ في صدرِ علي كأوسمةٍ في صدر التاريخ، يتردَّد معها صوتُ عليٍ وهو يتشهَّد..
ثم يتبعه صوت كبيرهم قائلاً:
-لقد قتلنا زوجك، وإذا تريدون الجثة فعليكم دفع اثنين مليون ريال.
ويأتيه الجواب بصوتٍ يسبحُ في الدموع، ويُعانقُ الجبالَ شموخًا وصبرا:
-سأقولُ لك ما قالته أم مجاهدٍ من قبل” الروحُ سيأخذها ربي، والجثة كُلها أنتَ والضِّباع التي حولك” وسيأتيكَ؛ ألفُ ألفُ علي؛ يأخذُون بالثأرِ، ويدافعُون عن الأرضِ والعرضِ والدين!

قد يعجبك ايضا