استهداف القيم وتزييف الوعي.. أساليب العدو في اختراق الأمة الإسلامية
تعيش الأمة الإسلامية اليوم مواجهة غير مسبوقة تتجاوز حدود الميدان العسكري إلى عمق الوعي والفكر والقيم، فالمعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الإنسان ذاته: على معتقده، وهويته، وولائه، ومبادئه التي تشكل جوهر انتمائه الديني، هذا الصراع الممتد منذ فجر البشرية يعيد إنتاج نفسه بأشكال حديثة، لكنه يحتفظ بجوهره القديم؛ إذ تعود جذوره إلى لحظة رفض إبليس السجود لآدم عليه السلام، معلناً بداية عداء أبدي بين مشروعين متناقضين: مشروع الهداية الإلهية ومشروع الإضلال الشيطاني. ومن خلال التاريخ، يتضح أن العدو لم يتوقف عن استخدام أساليبه القديمة من الوسوسة والتشكيك والتزيين، غير أنه اليوم يوظف أدوات جديدة أكثر تعقيداً كالإعلام والثقافة والتعليم، لإفراغ العقيدة من مضمونها وتجريد القيم من بعدها الإيماني، إن ما تواجهه الأمة ليس حرباً على مواردها أو حدودها فحسب، بل حرب على روحها، على مرجعيتها القرآنية التي تمثل محور قوتها ومصدر وعيها. والقرآن الكريم حذّر من هذه المعركة الوجودية بقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}، مؤكداً أن العداء يستهدف الإيمان نفسه لا المصالح المادية فقط، إن إدراك هذه الحقيقة يمثل الخطوة الأولى في بناء وعي جهادي مقاوم، يعيد للأمة بوصلتها العقدية ويحصّنها من محاولات التزييف والاختراق.
- صادق البهكلي
يكشف لنا القرآن الكريم في قصة آدم عليه السلام درس مهم عن المنهج الأبدي الذي يسلكه العدو في إضلال البشر، فقد بدأ إبليس حربه بأسلوب خفي يقوم على الوسوسة التدريجية، بتضخيم الجانب المادي (الملك) حيث أدخل الفكرة المحرّمة إلى ذهن آدم وحواء خطوة بعد خطوة حتى تمكّن من إغوائهما، هذه الآلية نفسها تتجدد في العصر الحديث عبر وسائل الإعلام ومنابر الثقافة والمناهج التعليمية التي تبث أفكاراً هدامة بصورة جذابة ومقنّعة. أما التشكيك في أوامر الله فهو السلاح الثاني، إذ صوّر إبليس نهي الله عن الأكل من الشجرة على أنه حرمان من التطور والخلود، تماماً كما تُصوّر اليوم المبادئ الإسلامية والأوامر الإلهية بأنها “تقيّد الحرية” أو “تمنع التقدّم”، كما في موضوع المرأة بدءا من لبسها ثم طريقة حياتها ويحاول العدو أن يصور لها أن الاختلاط والسفور يعتبر حق من حقوقها وباب من أبواب تحررها وتطورها، ثالثاً حين يقدَّم الباطل في صورة الحق، فتُروّج المعاصي تحت عناوين براقة مثل “حقوق الإنسان” أو “الحرية الشخصية” و ” حقوق المرأة” و” حقوق الأقليات”، بينما هي في جوهرها انحرافات مدمّرة للمجتمع، وأخطر ما في المنهج الإبليسي هو القسم الكاذب الذي يستخدم لإضفاء مصداقية على الباطل، كما يفعل أعداء الأمة اليوم بشعاراتهم المضلّلة ووعودهم الزائفة. إن هذه الأنماط ليست مجرد روايات تاريخية، بل قواعد ثابتة في علم النفس الاجتماعي، تستخدم اليوم بصورة مؤسساتية ومدروسة لإضعاف المناعة الفكرية للمسلمين، وإعادة تشكيل وعيهم وفق النموذج الغربي المادي.
تستخدم قوى الهيمنة الحديثة منظومة من الاستراتيجيات النفسية والإعلامية للتحكم في الشعوب وتوجيهها دون وعي منها. تبدأ هذه المنظومة بـ“استراتيجية الإلهاء”، حيث يُغرق الناس في تفاصيل تافهة من الرياضة والترفيه والإشاعات، لصرفهم عن القضايا المصيرية للأمة، ثم تأتي “استراتيجية خلق المشكلة وتقديم الحل”، التي تقوم على افتعال أزمات أمنية أو اقتصادية لتبرير قرارات مرفوضة مسبقاً، فيقبل الناس بها تحت ضغط الخوف، ومن الأدوات الأكثر فاعلية “التدرّج والتأجيل”، إذ تُمرَّر القرارات غير المقبولة خطوة بعد خطوة حتى تغدو مألوفة، تماماً كما فعل إبليس في إغواء آدم، كما يُتعامل مع الجمهور كما لو كان طفلاً، من خلال تبسيط الخطاب وتضليل العقول وتعطيل التفكير النقدي، إلى جانب الاعتماد المفرط على الجانب العاطفي في الإعلام لتغييب التحليل والمنطق، وتشمل هذه المنهجية أيضاً إبقاء الجمهور في حالة من الجهل المنظّم، عبر تدني التعليم، وإغراق الناس بالترفيه، ومنعهم من فهم آليات السيطرة التي تُمارَس عليهم، أما أخطر الأساليب الحديثة فهو جمع البيانات وتحليلها لتوقّع السلوك والتأثير في القرارات الفردية، وهي تقنية رقمية تفتح الباب لأخطر أشكال الاستعباد النفسي في عصر التكنولوجيا، إن هذا النمط من السيطرة يُنتج شعوباً خائرة لا مفكّرة، تستجيب للواقع ولا تصنعه وهذا ما تمكن العدو فيه من اختراق شعوب أمتنا لدرجة أنها باتت اليوم تقف عاجزة عن فعل شيء إزاء جرائم هذا العدو بحق أبنائها كما يحدث في فلسطين بل وصلت جرأة العدو أن يمارس هذا الجرائم بكل صلف وامتهان لكرامة الأمة التي يتجاوز تعدادها الملياري مسلم.
يُعد استهداف الدين الإسلامي أحد الأركان الجوهرية في المخططات الفكرية والسياسية التي يوظفها العدو لإضعاف الشعوب، فوفق الرؤى التي كشفتها الوثائق المعروفة بـ“بروتوكولات حكماء صهيون”، يشكّل الدين الحاجز الأكبر أمام السيطرة، لأنه مصدر وعي وكرامة واستقلال، لذلك ارتكزت تلك الخطط على نشر الإلحاد والمادية والانحلال الأخلاقي، وتصوير القيم الدينية بأنها رجعية ومتخلفة، في حين تُقدَّم الرذيلة والانحلال كرموز للتنوير والتقدم، على سبيل المثال: محاولة الصهيونية بشقيها المسيحية واليهودية لفرض مفاهيم تتعارض مع الفطرة السوية التي فطر الله الناس عليها. من الترويج للإباحية إلى الشرعنة الممنهجة للشذوذ الجنسي، تعيش الإنسانية فصلاً جديدًا من محاولات زعزعة المبادئ الأخلاقية والاجتماعية، في توجه ينذر بمحطات أكثر خطورة.
لقد أصبح الشذوذ الجنسي، الذي كان يُعتبر في الماضي مرضًا، ظاهرة تجد من يدافع عنها ويضغط لإدراجها كحق من حقوق الإنسان. ومع تنامي الشرعنة القانونية للمثلية، كما حدث في قرار المحكمة العليا الأمريكية سنة 2015، ارتفعت نسبة القبول لها في المجتمعات، وهو ما يفتح المجال لتغيير القيم الأخلاقية بشكل جذري.
الشذوذ لا يمثل فقط انحرافًا عن الفطرة، بل هو تهديد للطبيعة الإنسانية نفسها، إن مظاهر الانحطاط الأخلاقي تشمل أيضًا محاولات تمييع مفهوم الأسرة من خلال الترويج لأفكار الجندر التي تفصل الهوية الجنسية عن الملامح البيولوجية والفسيولوجية.
في السياق ذاته، تم توظيف كل الوسائل لترويج هذه الجرائم عبر الأنشطة الرياضية والجامعات والمدارس وغيرها ذلك..هذه التوجهات ليست مجرد دعوات للتسامح، بل هي هجوم مباشر على القيم الإنسانية الثابتة، لأن الشذوذ يعارض الحكمة الإلهية وسنة الله في خلق الجنسين لإعمار الأرض بالتزاوج الطبيعي والتكاثر، وهو مثال لعلاقات تعارض المسؤولية الاجتماعية التي تسهم في بناء الأسر والحضارات.
ولأن الدين الإسلامي هو الدين الحي الذي يحفظ كرامة الإنسان، ويحافظ على الفطرة الإنسانية ويرسخ القيم الأخلاقية، ويقدم حلاً شاملاً لمواجهة هذه الانحرافات، لذا نجد جهد العدو منصب على فصل الشعوب الإسلامية عن دينها العظيم من خلال فرض أجندات خطيرة تقوض زكاء الشعوب الإسلامية نرى ذلك في صورة واضحة مما يقوم به العدو في بعض الدول العربية وبالذات في قلب الإسلام ومركزه ما يمسى اليوم بالسعودية من خلال ترويج مواسم الدعارة والانحلال تحت يافطة مواسم الترفيه.. وما سبقها بوقت طويل من انتاج فني وثقافي في مصر من خلال الأفلام والمسلسلات الهابطة..
ومن أخطر ما سعى ويسعى له العدو هو السيطرة على التعليم والإعلام لإعادة تشكيل عقول الأجيال، فتم تغيير المناهج، وتقليل المحتوى الديني، وحذف كل الآيات القرآنية التي تتحدث عن الصراع مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى وتوجيه الإعلام الناطق بالعربية لصنع وعي استهلاكي منفصل عن الهوية الإيمانية، ولم يتوقف الأمر عند الحرب الفكرية، بل امتد إلى تفكيك الأسرة الإسلامية من خلال توفير أجهزة البث الفضائي بمبالغ زهيدة حتى تكون في متناول الجميع حتى الفقراء في الأرياف النائية.
ولا تتوقف أساليب العدو على الغزو الثقافي والناعم بل يمتد إلى ميادين الاقتصادي، عبر إغراق الدول العربية والإسلامية في الديون والربا، لفرض تبعية اقتصادية وسياسية تُفقدها استقلال القرار، هذه السياسات ليست متفرقة بل منظومة متكاملة تستهدف “إضعاف الأمة من الداخل”، لتفقد قدرتها على المقاومة وتستسلم لهيمنة الآخر. إنها حرب ناعمة في ظاهرها، لكنها أشد فتكاً من الحرب العسكرية لأنها تدمّر المناعة الروحية والفكرية في صمت.
من أخطر أساليب الأعداء تحويل بوصلة الصراع من اتجاهها الصحيح نحو معارك جانبية داخل الأمة، فبدلاً من توجيه الجهود لمواجهة العدو الصهيوني المحتل، يجري تضليل الشعوب لِتَتَقاتل فيما بينها على أسس طائفية أو مذهبية أو عرقية، هذا التزييف بلغ ذروته مع ما سُمّي بـ“الحرب على الإرهاب”، التي استُخدمت لتصوير الإسلام نفسه كخطر عالمي، في حين كان الهدف الحقيقي هو احتلال بلاد المسلمين وتشويه دينهم. كما يُعاد تعريف المفاهيم الدينية بطريقة مضللة؛ فـ“الاعتدال” صار يعني التنازل عن الثوابت، و“التطرف” صار يُلصق بمن يتمسك بدينه، و“السلام” أصبح شعاراً لتبرير التطبيع مع العدو. وبتكرار هذه المصطلحات في الإعلام والسياسة، يجري إنتاج وعي زائف يبدّل الحقائق ويصنع أعداء وهميين مثل “السنة ضد الشيعة” أو “العرب ضد المجوس (إيران الإسلامية)”. هذا التلاعب بالمفاهيم والمصطلحات يؤدي إلى تفتيت الجبهة الإسلامية وإشغال الأمة بنفسها، بينما العدو الحقيقي يوسّع نفوذه دون مقاومة، ويبرز هنا الدور التوعوي للقيادات القرآنية التي تدعو إلى تصحيح البوصلة وإعادة الوعي بطبيعة الصراع الأصلي بين الحق والباطل، لا بين أبناء الأمة الواحدة.
لا يمكن فهم الحاضر بمعزل عن قراءة التاريخ الذي يقدّم شواهد متكررة على استهداف الهوية الإسلامية، فالحروب الصليبية التي استمرت قرنين من الزمن كانت أكثر من مجرد غزو عسكري؛ كانت محاولة منهجية لمحو الهوية الدينية والثقافية للمسلمين، عبر تدمير المساجد والمعالم الإسلامية وفرض المسيحية بالقوة، ومع فشل الحروب الصليبية عسكرياً، انتقل المشروع ذاته إلى طور جديد تمثل في الاستعمار الأوروبي الذي استهدف العالم الإسلامي بتغيير المناهج التعليمية، وتقليص المحتوى الديني، وإحياء النعرات القومية والمناطقية لتفكيك وحدة الأمة، ومن أبرز نتائج تلك المرحلة زرع الكيان الصهيوني في قلب الأمة كخنجر استعماري دائم، واستمرار الحرب الفكرية عبر النخب العلمانية التي رُبّيت في الغرب لتكون أدوات لنقل القيم الغربية وتكريس التبعية، كما شهد التاريخ الإسلامي محناً مأساوية مثل محاكم التفتيش في الأندلس التي مارست أبشع صور القمع لإجبار المسلمين على ترك دينهم، كل تلك المحطات التاريخية تبرهن أن الحرب على الإسلام ليست صراعاً سياسياً طارئاً، بل مشروعاً متواصلاً يهدف إلى طمس الهوية وتجفيف منابع الإيمان، وأن إدراك هذا الامتداد التاريخي ضروري لتشكيل وعي معاصر قادر على مواجهة الاستهداف المتجدد بأدوات مختلفة ولكن بروح واحدة.
في عصر العولمة، لم تعد الحروب بحاجة إلى جيوش جرارة لتحقيق السيطرة؛ فالإعلام والثقافة صارا السلاحين الأكثر فتكاً في مشروع الغزو الفكري، تُستخدم المنصات الإعلامية الكبرى اليوم لتشويه صورة الإسلام عبر ربطه بالعنف والتخلف، بينما تُقدَّم القيم الغربية بوصفها النموذج الأعلى للتحضر، ويُمارَس هذا التشويه عبر انتقاء الأخبار، وتضخيم السلبيات، وتجاهل الجوانب المشرقة للحضارة الإسلامية، وفي موازاة ذلك، ـ تُروَّج كما ذكرنا سابقاـ الثقافة الإباحية والانحلال الأخلاقي عبر الأفلام والموسيقى ومنصات التواصل، مستهدفةً الشباب لزعزعة منظومتهم القيمية وتحويلهم إلى أفراد بلا هوية ولا التزام ولا شعور بالمسؤولية شباب متبلد مسلوب الإرادة يمكن السيطرة عليه وتشغيله في خدمة العدوما يؤدي إلى إنتاج أجيال منفصلة عن جذورها الثقافية.
أخطر أدوات الحرب الناعمة هي وسائل التواصل الاجتماعي التي تحولت إلى منصات لترويج الشائعات وبث الإحباط والتلاعب بالمشاعر، إضافة إلى استخدامها في جمع المعلومات الشخصية لبناء نماذج سلوكية تُستثمر في التحكم بالرأي العام. إنها حرب بلا دخان، لكنها قادرة على إعادة تشكيل العقول والمجتمعات وفق مصالح القوى المهيمنة، ما يستدعي وعياً نقدياً وإيماناً عميقاً يحصّن الفرد والمجتمع من هذا الغزو الهادئ والخطير.
وإلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي تنشط ما يسمى المنظمات الإنسانية في استغلال المجال الإنساني ومساحة الثقة الممنوحة لها في الدول العربية لتحقيق أهداف شيطانية، حيث تلعب دورًا هامًا في الحرب الناعمة تحت الغطاء الإنساني في سلوك منحرف عن رسالتها السامية لتصبح أدوات تُستخدم لتحقيق أجندات سياسية واقتصادية، فضلاً عن الترويج لأجندات ثقافية وأخلاقية و تركيزًا غير مبرر على أجندات تسعى لتغيير مفاهيم اجتماعية وأخلاقية راسخة، بحجة التنوير أو وحماية الحقوق والحريات، في حين أن النتائج الحقيقية تعمل على زعزعة استقرار المجتمعات الوطنية وتقويض قيمها الثقافية والأخلاقية.
وقد تزايدت الاتهامات ضد بعض المنظمات الدولية باستغلالها لغطاء الأعمال الإنسانية كوسيلة للتغلغل في داخل الدول والمجتمعات، حيث يُستخدم العاملون في هذه المنظمات كوسائط لجمع معلومات استخباراتية أو حتى لتحريك شبكة من الأنشطة السرية التي تخدم مصالح دول أو مجموعات بعينها، وهذا يشكل تجاوزًا صريحًا لمعاني العمل الإنساني البعيد عن الأيديولوجيات السياسية والأهداف الجانبية، وهذا ما يحدث بالفعل كما رأيناه في اليمن والسودان..
يقدّم القرآن الكريم إطاراً متكاملاً لمواجهة عمليات التزييف والتضليل التي تستهدف الأمة. فهو يحدّد طبيعة العداء بوضوح في قوله تعالى {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}، مؤكداً أن الصراع عقائدي ولن ينتهي إلا إذا تخلّى المسلم عن هويته ودينه، كما يوجّه القرآن المؤمنين إلى الحذر من الانخداع بالمظاهر، فالمنافقون – كما وصفهم – قد يبدون ذوي مظهر حسن، لكنهم “هم العدو فاحذرهم”. يربط القرآن بين الوعي والسلوك، فيأمر بالإعداد الشامل في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}، ويحث على الصبر والثبات والمرابطة في مواجهة التحديات، المنهج القرآني لا يكتفي بالتحذير من الأعداء، بل يرسّخ مبادئ الدفاع الواعي والموقف العملي القائم على الإيمان والوعي، فهو يدعو إلى بناء مناعة فكرية وأخلاقية تحمي المجتمع من محاولات التزييف، وإلى تمسّك جماعي بالقيم الإلهية التي تشكّل ضمانة النصر والتمكين. بهذا المعنى، يصبح القرآن ليس فقط كتاب عبادة، بل كتاب للحياة وللوعي وللمواجهة يوجّه الأمة نحو التمييز بين الصراع الحقيقي والباطل المصطنع، ويمنحها أدوات الوعي والبصيرة في زمن كثرت فيه الأكاذيب وتشوّهت الحقائق.
تتجلى الرؤية القرآنية المعاصرة في المشروع القرآني بداية بخطابات ومحاضرات مؤسس المشروع الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي وإلى خطابات ومحاضرات قائد المسيرة القرآنية السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي، من خلال تقديم قراءة عميقة لطبيعة الصراع من منظور إيماني شامل، من خلال التأكيد على أن العدو الحقيقي للأمة الإسلامية يتمثل في أمريكا وإسرائيل باعتبارهما رأس الشر والفساد في العالم، وأن الصراع معهما صراع عقائدي لا سياسي، لأنهما تقودان حرباً شاملة على الإسلام في قيمه وثقافته وأخلاقه، هذا المشروع يعيد الاعتبار للمنهجية القرآنية وللبعد الإيماني في التعامل مع العدو، ويكشف خطأ الاعتماد على الأعداء أو التحالف معهم بدعوى المصلحة أو الظروف السياسية، ويستند المشروع القرآني في رؤيته إلى النصوص القرآنية الواضحة التي تتحدث بشكل واسع عن طبيعة العدو وطرق الصراع معه مثل قوله تعالى :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ}، باعتبارها قاعدة ناظمة لمفهوم التولي في الدين الإسلامي.
ويقدم حصانة من الحرب الناعمة التي تستهدف الأمة من الداخل عبر الإعلام والثقافة والتعليم، باعتبار أن الغزو الثقافي أخطر من الغزو العسكري لأنه يدمّر الهوية ويُضعف الوعي دون أن يطلق رصاصة واحدة، كما يربط بين الوعي القرآني والموقف العملي، داعياً إلى تفعيل المقاطعة الاقتصادية والثقافية، ودعم المقاومة، وتربية الأجيال على قيم الجهاد والعزة والاستقلال. إن الرؤية القرآنية التي يطرحها المشروع القرآني تمثل إطاراً منهجياً لفهم التحديات الراهنة ومواجهتها بروح إيمانية متوازنة، تستمد قوتها من الوعي بالله والثقة بوعده في قوله تعالى{وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
إن إدراك طبيعة الصراع مع أعداء أمتنا واستيعاب أساليبه المتجددة يفرض على الأمة الإسلامية أن تتحرك بوعي شامل وموقف عملي متماسك يتسند على الرؤية القرآنية الجامعة فالصراع، في جوهره، صراع عقائدي وجودي لا يمكن مواجهته إلا بعودة جماعية إلى القرآن الكريم والتجرد من العناوين الطائفية والمذهبية، لبناء وعي شامل وتربية جيل إسلامي لا ينخدع بالشعارات الزائفة، ويُعد الموقف العملي هو المعيار الحقيقي للإيمان؛ فالإيمان لا يُقاس بالكلمات بل بالفعل: في المقاطعة الفعالة لكل ما يخدم العدو، وفي دعم المقاومة، وفي تربية الأجيال على حب الجهاد والعزة، وفي رفض كل أشكال التطبيع والخضوع. ومع كل ذلك، يظل الأمل بالنصر ركيزة روحية لا تنفصل عن الفعل، لأن وعد الله للمؤمنين بالنصر والتمكين وعدٌ صادق لا يتخلف، إن التمسك بالقرآن والاقتداء برسول الله صلوات الله عليه وعلى آله، وبرموز الإسلام العظماء، هو السبيل لبناء وعي تحرّري يصون كرامة الأمة، ويمنحها القدرة على تجاوز المحن وكشف الأكاذيب وهزيمة الأعداء في ميادين الفكر قبل ميادين القتال.