الجنرال والخبير الاستراتيجي شارل ابي نادر يكتب عن: تأثير المناورة اليمنية لدعم غزّة في فرض التراجع الأميركي؟

كيف أثّرت المناورة اليمنية لدعم غزّة في فرض التراجع الأميركي؟

 

لا شك أن هناك تغييرًا واضحًا في الموقف الأميركي المساند للعدوان الإسرائيلي على غزّة وعلى الشعب الفلسطيني بشكل عام، وهذا التغيير الذي يمكن إعطاؤه ولو بنسبة معينة، صفة التراجع، يمكن تلمّسه من الضغوط الأخيرة للبيت الأبيض على حكومة نتنياهو لتسهيل الحل والسير بصفقة معقولة، تعيد الأسرى الإسرائيليين والإسرائيليين – الأميركيين، وتنهي الحرب بين الاحتلال وبين المقاومة الفلسطينية والمدعومة بقوة من أطراف رئيسية من محور المقاومة، خاصة في لبنان والعراق واليمن.  

في الواقع، بمعزل عن موقف الثبات والصمود التاريخي للمقاومة الفلسطينية في الحرب، وبمعزل عن موقف حزب الله في لبنان، كداعم ومساند رئيسي لهذه المقاومة، عبر إجبار العدوّ على وضع جهود ضخمة لحماية جبهته الشمالية، ربما قاربت تلك الجهود التي وضعها لحربه على غزّة، وبمعزل عن مناورة المقاومة العراقية البطلة، والتي كانت صادمة للأميركيين في استهداف قواعدهم في سورية والعراق، وللإسرائيليين أيضًا في استهدافات حساسة داخل الكيان، فإن المناورة اليمنية في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، لعبت دورًا أساسيًّا وفاصلًا ربما، في دفع واشنطن إلى هذا التراجع في موقفها، والذي بدأت ملامحه تظهر من بعض ما رشح عن نقاط صفقة الحل، والتي أصبحت قاب قوسين من موافقة “إسرائيل” والمقاومة الفلسطينية عليها، مع وجود تحفظ دائم على إمكانية نجاحها حتّى النهاية.

عمليًّا، يمكن الإضاءة على دور المناورة اليمنية في فرض هذا التغيير على الموقف الأميركي وبالتالي على الموقف الإسرائيلي، وذلك من خلال النقاط التالية:

نقطة أولى: كشفت المناورة اليمنية بعض مشاكل ونقاط الضعف لدى التحالف البحري الأميركي في البحر الأحمر، وذلك بعد أن أظهرت القوّة البريطانية افتقارها إلى صواريخ ضدّ قواعد اليمنيين في البر، حيث واجهت القوّة البريطانية صعوبة في التدخل دائمًا بالطيران ومن قواعد بعيدة مثل قبرص، الأمر الذي أصبح مكلفًا، وبالتالي كشف ضعف البريطانيين في هذا التحالف، ليبدو عدم جدية وعدم حماسة كاملة في السير بمناورة واشنطن كما يجب.

من جهة أخرى، رأى الأميركيون أن حماية المعابر البحرية في المناطق والمساحات المحيطة باليمن، هي حاجة اقتصادية لدول الاتحاد الأوروبي أكثر من أن تكون حاجة ملحة لهم، وبالتالي رأوا أن الأمر سيكون مكلفًا عليهم مع استمرار اليمنيين بهذه المناورة، ومع وجود حماسة أوروبية ضعيفة، وفي الوقت الذي لم تكن تعتبر واشنطن أن الموقف اليمني سيكون بهذه الفعالية وهذه الصلابة، اكتشفت أنها دخلت فيما يشبه مستنقعًا مكلفًا وصعبًا.

ومع ثبات اليمنيين وفشل واشنطن في ليّ ذراعهم، بدأت تتعرقل شيئًا فشيئًا الحركة البحرية في تلك المنطقة الاستراتيجية من العالم، وتفاقمت مشكلة النقل البحري مع ارتفاع مستوى تأثيرها السلبي على دول الاتحاد الأوروبي درجة أولى، مع فشل الأميركيين في استيعاب حركة اليمنيين، وأصبح هذا الأمر يشكل ضغوطًا على هذه الدول، وبدأت تتمدّد تداعياته على اقتصاد الاتحاد الأوروبي، وبالتالي، على قدرة هذه الدول على متابعة دعم أوكرانيا بمواجهة روسيا، حيث إن هذه الحرب متواصلة فعليًّا ولم تتوقف، رغم ابتعاد الأنظار عنها، وعودتها إلى ساحة الاهتمام الدوليّ والغربي تحديدًا، آتية قريبًا وفور سلوك التسوية أو الحل أو الصفقة في غزّة.

زد على ذلك، فإن تداعيات الدعم الأوروبي (المطلوب أميركيا) لأوكرانيا من خلال دعم الصادرات الزراعية الأوكرانية بأسعار منافسة لأسعار المنتوجات الأوروبية، بدأت تفرض واقعًا صعبًا وضاغطًا على حكومات الاتحاد الأوروبي، عبر مظاهرات واعتصامات لمزارعي أغلب دول الاتحاد الأوروبي، رفضًا لهذه السياسة الداعمة لأوكرانيا على حساب منتجاتهم.

هذا في البعد الاقتصادي،

أمّا في البعد العسكري، فإن مناورة أبناء اليمن الداعمة لفلسطين، خلقت لهم الفرصة من جديد، لإثبات قدراتهم العسكرية والقتالية، برًّا وبحرًا وجوًّا، واستطاعوا مقارعة قوى كبرى بحاملات طائراتها وبمدمراتها وسفنها الحربية وقاذفاتها القتالية وصواريخها البحرية، توماهوك وغيرها، وذلك عبر اتجاهين: الأول دفاعي، بنجاحهم في حماية قدراتهم الصاروخية والمسيرة، وإبعادها عن دائرة الاستهداف رغم عشرات الغارات الصاروخية والجوية الغربية والأميركية بشكل أساسي، وثانيًا، من خلال الثبات على مناورة استهداف السفن المرتبطة بـ”إسرائيل” أو المرتبطة بالحركة الاقتصادية للكيان استيرادًا أو تصديرًا، ولاحقًا في استهداف السفن الحربية الأميركية والبريطانية، وذلك عبر مروحة واسعة من وسائل التدخل العسكري، بالصواريخ البحرية وصواريخ كروز أو بالصواريخ الباليستية أو بالمسيرات أو بالزوارق، الانتحارية أو الحاملة لمجموعات المهمات البحرية الخاصة.

أما في البعد الاستراتيجي، فإن وحدات الجيش وحكومة صنعاء وأنصار الله في اليمن، ومن خلال مناورة الدعم الواسعة والحساسة لغزّة وللشعب الفلسطيني ولقضيته، استطاعوا فرض موقفهم وموقعهم على الساحة الإسلاميّة بمستوى كبير جدًّا، ونجحوا في إلغاء نظرة خاطئة لهذه الساحة عنهم وعن موقعهم ودورهم، كانت بعض الدول الإقليمية وبدفع أميركي قد زرعتها خداعًا وتلفيقًا، وبالتالي، استطاعوا أن يفرضوا أنفسهم عبر موقفهم المساند لفلسطين، داعمًا وفيًّا وصادقًا (فعلًا وقولًا) لقضية العرب والمسلمين، في الوقت الذي هم محاصرون وممنوع عليهم (وبرعاية إقليمية وغربية) التوصل إلى حل داخلي يعيد التوازن السياسي والاجتماعي والاقتصادي لبلادهم، وفي الوقت الذي وقف قسم كبير من هؤلاء العرب والمسلمين في جانب كيان الاحتلال، سياسيًّا وإعلاميًّا، واقتصاديًّا حتّى عبر تسهيلهم خطوط نقل برية لـ”إسرائيل”، تعوض لها تداعيات الحصار البحري الذي فرضته اليمن نصرة لفلسطين.

انطلاقًا من كلّ ذلك، وخاصة من تأثيرات الموقف اليمني وتداعياته، ليس فقط على “إسرائيل” ومن مختلف الجوانب، بل لناحية التأثير على ملف الحرب التي يخوضها الغرب ضدّ روسيا في أوكرانيا، يمكن القول إن الأميركيين رأوا مصلحتهم في إيقاف هذه المناورة اليمنية، والمرتبطة بوقف الحرب على غزّة.

 

موقع العهد : شارل أبي نادر

قد يعجبك ايضا