الشهيد الكبير الغماري.. القائد الذي دوّى صوته في القدس وأسكت حاملات الطائرات في البحر الأحمر
الحقيقة ـ جميل الحاج
ليست كلّ معركة تُروى، فبعض المعارك تُسطّر بدماء القادة قبل أن تُكتب بحبر المؤرخين. وفي اليمن، كتب الفريق الركن محمد عبد الكريم الغماري ملحمةً نادرة من الصمود والبطولة، جعلته أيقونةً عسكرية عربية تتجاوز حدود المكان والزمان، وتفرض على العالم احترام التجربة اليمنية في القتال، والتخطيط، والصبر، والردع.
منذ أن تسلّم رئاسة هيئة الأركان العامة قبل أكثر من عقد، تحوّل الغماري إلى كابوس يؤرّق أعداء اليمن، لا سيما أولئك الذين ظنّوا أن العدوان سيفرض الهيمنة، وأن القادة الحقيقيين لا يخرجون من مدارس القرآن، بل من أكاديميات الناتو ومناهج الاستعمار. فجاء الغماري، القائد القرآني، ليثبت أن الإيمان وحده، حين يُمزج بالتكتيك والتضحية، كفيلٌ بإذلال الأساطيل وتحطيم الجيوش.
لم يكن الشهيد الغماري رجلًا يبحث عن الظهور، بل كان من أولئك الذين يعملون في الظل، يبنون ويخططون ويعدّون، حتى تأتي اللحظة المناسبة، وعندما خرج إلى العلن، كان ذلك بدافع الضرورة، لا حبًا في الأضواء.
في مارس 2016، تم تكليفه بقيادة رئاسة هيئة الأركان العامة، وسط تصعيد عدواني غير مسبوق بقيادة السعودية والإمارات، وبمشاركة أمريكية وبريطانية وإسرائيلية خلف الستار.
تولى الغماري المهمة في لحظة مفصلية، لا تتيح حتى فرصة للتقييم أو المراجعة، فبدأ العمل مباشرة على عدة جبهات: عسكرية، لوجستية، تكتيكية، وتقنية.
وكانت النتيجة أن تحوّل اليمن، البلد المحاصر، إلى قوة إقليمية تمتلك صواريخ باليستية، ومجنحة، وفرط صوتية، وطائرات مسيّرة، ومنظومات دفاعية قادرة على إسقاط أهدافها بدقة عالية، رغم كل الحصار.
لم يعرف التاريخ العربي الحديث قائدًا عسكريًا أوقف حاملات طائرات أمريكية، كما فعل الغماري.
ففي ذروة المواجهة البحرية، حين كانت القوات الأمريكية تستعرض عضلاتها في البحر الأحمر، أُجبرت على التراجع أمام الضربات اليمنية الدقيقة، التي حملت توقيع الغماري.
لدرجة أن إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب اضطرت إلى فتح قنوات خلفية لوقف الهجمات، بعد أن أدركت أن البحر الأحمر لم يعد مفتوحًا أمام هيمنتها.
لم تكن فلسطين عند الغماري مجرد شعار، بل عقيدة عملياتية،ممتد من منهجية المسيرة القرآنية، وفي «طوفان الأقصى»، تحوّل اليمن إلى ذراع إسناد حقيقي للمقاومة الفلسطينية، عبر تنفيذ 1835 عملية عسكرية استهدفت كيان الاحتلال الإسرائيلي بصواريخ متنوعة ومسيرات وزوارق.
وكانت رئاسة هيئة الأركان بقيادة الغماري تعمل كخلية نحل لا تهدأ، دعماً للمجاهدين في غزة، وترسيخاً لحقيقة أن الجغرافيا لا تفصل بين قلوب الأحرار.
بل إن أول حصار بحري يمني على كيان الاحتلال الإسرائيلي منذ نشأته، سجّل في عهد الشهيد الغماري، بعد أن أُغلقت ممرات البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن أمام السفن المتجهة إلى ميناء أم الرشراش، الذي بات خاوياً، ومعزولًا.
في عهد الشهيد المجاهد الغماري، وُلدت العمليات النوعية الكبرى التي صدمت الأعداء:
عملية “نصر من الله” التي أطاحت بألوية كاملة من العدو في صعدة.
عملية “البنيان المرصوص” التي دحرت التقدم العسكري باتجاه صنعاء.
عملية “فأمكن منهم” التي أُدرجت ضمن التحولات المفصلية في الحرب.
ضربة بقيق وخريص التي هزّت الاقتصاد السعودي في العمق.
استهداف مطارات الإمارات: دبي، أبو ظبي، ومعسكرات متقدمة في مأرب، كلها كانت في مرمى الرد اليمني بقيادة الغماري.
ومع كل هذه العمليات، كان هناك تطويرٌ حثيث للأسلحة، وصولًا إلى امتلاك صواريخ فرط صوتية، وتحوّلت اليمن من بلد مُستهلك للسلاح إلى بلد مُنتج، يضاهي الصناعات العسكرية المتطورة، حتى بات الأول عربيًا في مجال الإنتاج الحربي.
لم يتخرج الشهيد الغماري من ساندهيرست أو ويست بوينت، بل من “مدرسة المسيرة القرآنية”، حيث الإعداد النفسي والإيماني والروحي يتقدم على الأزياء والنياشين، وقد أثبت القائد الجهادي الغماري أن الجيوش لا تبنى بالبزّات العسكرية، بل بالولاء لله، والصبر، والابتكار، والمبادرة.
وقد وصفه السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي ـ يحفظه الله ـ بـ”صاحب الرؤية الراشدة”، مشيدًا بصبره، ووعيه، وتجرّده من الحسابات الشخصية، وروحه الجهادية الخالصة، وابتكاره الذي مكّنه من تجاوز ظروف الحصار وتحويل التحديات إلى فرص.
كان القائد الجهادي الغماري يحرّك المعركة لا من المكاتب، بل من الميدان، وشهد له الجميع بأنه كان أول من يصل إلى خطوط النار، وآخر من يغادرها، رفضاً أن يكون قائدًا تقليديًا يوقّع على الأوراق، بل كان يعيش الجبهات في كل تفاصيلها. كما نجح في فرض معادلات ردع برية وجوية وبحرية، لم يسبق أن حققها بلد محاصر بهذه الطريقة.
ولم يكن هذا القائد استثنائيًا في قدراته فقط، بل في شخصيته الإنسانية أيضًا؛ إذ وصفه رفاقه بأنه بشوش، ليّن، حسن الطبع، لا يتكلف، ولا يتكبّر، لكنه يتحوّل إلى أسد هصور حين يقترب الخطر من وطنه أو من فلسطين.
سقط القائد الجهادي الغماري شهيدًا في ميدان الشرف، كما عاش فيه، تاركًا خلفه إرثًا عسكريًا سيظل يدرس في الأكاديميات، ويُذكر في ساحات النضال، ولم يكن اغتياله نهاية، بل بداية مرحلة جديدة، لأن قادة مثله لا يموتون، بل تتناسل من دمائهم ألف راية، ويُبعث من تضحيتهم ألف قائد.
كان تشييعه الشعبي الكبير تعبيرًا عن حب اليمنيين واعتزازهم بقائد جعلهم قوة تُحسب، لا مجرد رقم في سجلات الأمم المنهكة، ورأى السيد القائد في حضوره دلالة على العلاقة العميقة بين الشعب وجيشه، الجيش الذي أصبح يد الشعب الضاربة، ولسانها المقاتل.
اليوم، بعد عشر سنوات من المواجهة، وثلاث سنوات من الهدوء النسبي، اليمن ليس أضعف، بل أقوى من أي وقت مضى، كما أكد السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي ـ يحفظه الله ـ الذي أوضح أن اليمن الآن في أعلى مراحل الجهوزية، والتطوير، والقدرات النوعية، وأنه على استعداد للعودة إلى التصعيد في حال تمادت “إسرائيل” في عدوانها.
أما العدو، فقد خسر رهاناته، وفشل في كسر إرادة بلد يقوده رجال كالغُماري. واليمن الآن يفرض حضوره من باب المندب حتى البحر المتوسط، ويكتب تاريخه بدماء قادته قبل أن يكتب بالحبر في كتب السياسة.
إن القائد الذي هزم البوارج، وأرعب الاحتلال، وسند فلسطين بالفعل لا بالشعارات، هو القائد الذي يستحق الخلود.
القائد الجهادي الشهيد محمد عبد الكريم الغماري، لم يكن مجرد رئيس أركان، بل كان مشروع أمة، وتجربة مقاومة، ومدرسة جهاد، ومثالًا على أن المستحيل يُقهر حين يكون القائد مؤمنًا لا يُهزم، وفي الآخير نقول للشهيد الكبير: نم قرير العين يا شهيدنا الغالي… فقد صنعت التاريخ، وعبّدت الطريق للقدس بالدم، لا بالكلمات.