النار اليمنية تتقدم والقمم العربية تتأخر

تحليل| أحمد إبراهيم المنصور

في الوقت الذي كان فيه زعماء العرب يجتمعون في قمة الدوحة يوم الاثنين الماضي، ويكررون قاموسهم المعتاد من “إدانة” واستنكار”، كان يوم أمس الثلاثاء مشهد آخر في الحديدة، حيث اشتعلت سماء ميناء الحديدة باثنتي عشرة غارة صهيونية. مشهد يختصر الفرق: كلام القمم، وقَسوة الفعل. لم تمر ساعات حتى أعلن العميد يحيى سريع عن عملية نوعية؛ صاروخ باليستي فرط صوتي “فلسطين2” يضرب هدفاً حساساً في يافا المحتلة، وطائرات مسيرة تدك مطار رامون. هذا ليس خطاباً للاستهلاك؛ استخدام “فلسطين2” وطائرات مسيرة أعاد تشكيل ساحات الارتداد الدفاعي للعدو، وأعاد حساباته التكتيكية.

وهنا نقطة أوسع تتطلب توضيحاً وتحليلاً؛ فمن الناحية العملياتية، سرعة الرد اليمني على العدوان الإسرائيلي ليست تفصيلاً عابراً؛ فهي معيار يكشف طبيعة الموقف، وأبعاده السياسية والعسكرية والاستراتيجية. حين سقطت صواريخ الطائرات على ميناء الحديدة، لم تمضِ سوى ساعات قليلة حتى كان الرد الباليستي والمسير حاضراً، يضرب تل أبيب ويافا ورامون. هذا الإيقاع السريع يعبر عن يقظة استراتيجية ووعي عملي يعرف أن أي تأخير يمنح العدو فرصة لترتيب نفسه وإرسال رسالة ضعف. هنا يتجلى قرار صنعاء: لا تردد، ولا انتظار لبيانات اللجان ولا لوساطات تعطّل القرار؛ رد فوري يرسّخ معادلة الردع ويغيّر شروط الاحتساب.

ما جرى لا يُعتبر رداً رمزياً. استخدام صاروخ باليستي فرط صوتي يعني أن الدفاعات الجوية للعدو، ومنها القبة الحديدية، عاجزة عن اعتراضه بسبب سرعته ومساره المتعرج. الضربة لمطار رامون أربكت الحركة الجوية في الجنوب المحتل وأظهرت هشاشة البنية التحتية الاستراتيجية للكيان. هذه ليست تفاصيل تقنية معزولة، فهي مؤشرات على انتقال اليمن إلى مستوى عملياتي يفرض معادلة ردع حقيقية، ويجبر العدو على إعادة حساباته.

في المقابل، مقاربة الرد لدى دول عربية وخليجية، وخاصة قطر، تحمل أبعاداً أخرى. اعتداء الكيان على الدوحة وانتهاك سيادتها لم يقابل برد سريع مماثل؛ فقد أمضت الأجهزة الدبلوماسية أياماً في اجتماعات وتحضيرات، وانتهى الأمر بقمة كلامية حملت بيانات استنكار وتنديد ومناشدات لمجلس الأمن والمنظمات الدولية للتحقيق. هذا الفاصل الزمني يمنح العدو متسعاً لتصفية حساباته، ويكشف عن عجز سياسي وأمني؛ اقتصادات مترابطة مع الخارج، وأمن مرتهن، وسياسات لا تملك الاستقلالية التحركية. أما اليمن، فاختار أن يرد على اعتداء يمس شعبه وسيادته بسرعة لا تهدأ، لأن التأخير هنا لا يعني خسارة تكتيكية فقط، إنما هو فقدان مرتكزات الردع والرهان على الحماية الخارجية.

الفرق الظاهر بين ساعة ويوم، أو ساعات وأسبوع، ليس فروقاً زمنية بحتة فحسب؛ إنها اختلاف في فهم السيادة والكرامة والقدرة على الحسم. اليمن أثبتت أن القرار قادر على أن يولّد أثره العسكري والسياسي معاً، وأن الرد السريع يحمل رسالة مزدوجة: حماية داخلية واحتساب خارجي. وهذا يضع الكيان أمام خيار: إما تقبل معادلات جديدة، أو الاستمرار في الاستفزاز الذي يدفع إلى مزيد من المواجهات.

السؤال هنا ليس للحساب التكتيكي، وإنما لحساب المبادئ: من يتحرك سريعاً لأنه يملك الحقّ؟ ومن يتباطأ لأنه مرتهن؟
اليمن، المحاصر منذ عقد، يعيش ظروفاً يعرفها كل يمني من صنعاء إلى صعدة، لكنه خرج من تحت الركام ليضع الكيان الصهيوني تحت مرمى النيران. الغريب أن دولة كقطر، التي لم تسلم من عربدة الصهاينة نفسها، لم تجد سوى العبارات البروتوكولية في مواجهة الاعتداءات. لا طرد سفراء، ولا وقف تطبيع، ولا حتى تهديد اقتصادي. بينما صنعاء المرهقة بالحرب تصوغ موقفها بالصواريخ والطائرات المسيّرة، وتربط مصيرها بمصير غزة تحت شعارات أخوية صادقة: “يا غزة إحنا معاكم .. أنتم لستم وحدكم”، و”يا غزة إحنا معاكم .. أنتم لستم وحدكم”، و “لا عدوان بلا رد”.

رشاد العليمي، ومن يسمون أنفسهم “حكومة الشرعية” في فنادق الرياض وأبوظبي، لم يكتفوا بالصمت فقط، فقد تبنوا خطاب العدو علناً في قمة الدوحة، وتصريحاتُه الموثقة صوتاً وصورة. وصف العمليات اليمنية التي استهدفت الكيان بأنها “عمليات عبثية”، و “إرهابية”، ومنح الاحتلال غطاءً سياسياً علنياً لجرائمه بحق اليمن. وحين ينطق العليمي، يبدو وكأنه يقرأ بياناً كتب في تل أبيب لا في اليمن، وهو ما يؤكد الانكشاف الكامل لحقيقة ارتهانهم للأمريكي والإسرائيلي.

في المقابل، عندما نتابع بيانات القوات المسلحة اليمنية، نلحظ أن المعركة لم تعد محصورة بحدود غزة أو فلسطين. الرسالة واضحة: إذا لم يتحرك العرب والمسلمون، فالنار ستصل الجميع. وهنا يتكرر درس التاريخ؛ يوم تخلى العرب عن مصر في 1956 لم يوقف العدوان الثلاثي، لكن حين ارتفعت الصواريخ المصرية والسورية في 1973، ارتجف الكيان لأول مرة.
واليوم يعيد اليمن المشهد بروح جديدة: يفرض حصاراً بحرياً وجوياً على موانئ ومطارات العدو، ويقصف قلبه بالصواريخ والطائرات المسيرة، بينما العرب ينتظرون “بياناً ختامياً” جديداً.

لكن هذا التصعيد له تداعيات، ولا يخلو من مخاطرة؛ فقد يدفع لردود اقتصادية أو محاولات استهداف خطوط الملاحة الإقليمية، ما ينعكس على التجارة والإمداد. سياسياً، كشف هشاشة النظام العربي الرسمي أمام الرأي العام. ويضغط على الدول لتعديل مواقفها، وربما يعمق انقساماً بين قوى إقليمية. اقتصادياً، تهديد الموانئ الإسرائيلية يضغط على حركة التجارة في البحر الأحمر والمتوسط. أمنياً، تزايدت المخاوف من توسع المواجهة نحو الخليج والقرن الأفريقي. باختصار، صنعاء لم تغيّر قواعد الاشتباك فقط، فقد أجبرت المنطقة كلها على التعامل مع واقع جديد.

من زاوية إنسانية، أي توسع في المواجهة قد يفاقم معاناة المدنيين. ومع كل ما قد يجلبه التصعيد، يجب أن نعي ونؤمن بأن درب الكرامة والنصر لا يُسلك إلاّ بالتضحيات؛ كل جرحٍ ودمٍ يُقدَّم في سبيل هذه القضية هو شرف عظيم لا يناله إلا ذو حظٍّ وفير. وهذه حقيقة نؤمن بها ولا نقولها كلام: منّ الله علينا بأن اصطفانا ووفقنا لهذا الواجب، فتضحياتنا عبء ومسؤولية ونعمة في آن. لذلك، مهما تكالبت المآسي، فلن نتراجع؛ الكرامة تُنتزع بثمن، والنصر لا يُوفَّر بلا فداء.

الصورة لا تحتاج لكثير تعليق؛ ملايين الصهاينة يهرعون إلى الملاجئ في يافا وتل أبيب، بينما ملايين العرب يهرعون إلى الشاشات لمتابعة قمم تُكرر الجمل نفسها منذ نصف قرن. وبين ملجأٍ لإسرائيليٍ ومشاهدةٍ عربية، الفعل هو الفاصل الوحيد بين من يحمي ومن يراقب؛ والفارق الحقيقي أن اليمنيين صنعوا معادلة الردع بالفعل وأثبتوا أن العدو لا يفهم سوى لغة القوة. الخيارات أمام الأنظمة العربية واضحة: إما استجلاء المواقف وخطوات فعلية، أو الاستمرار في التراجع الذي سيُسجّل تاريخياً. أما صنعاء، فاختارت الطريق الآخر وحرّكت معادلات جديدة على الأرض.

اليمن اليوم يكتب موقفه بلغة النار، لغة يفهمها الكيان جيداً، لغة تحوّلت إلى شرف قومي في زمن صمت فيه الجميع. والسؤال البسيط الذي يفرض نفسه: هل سيظل العرب يتغنون ببياناتهم وهم يرون اليمن تقاتل وحدها من أجل غزة؟ أم أن دماء الأطفال في غزة وصنعاء كافية لإيقاظ الضمائر؟

قد يعجبك ايضا