(الوعد الصادق 3): الدلالات والارتدادات والمفاعيل والنتائج

يقول كارل فون كلاوزفيتز: “إن الحرب هي صراع مادي وأخلاقي، وإن القوى الأخلاقية قد تُوازن عدم تكافؤ القوى المادية، وإذا أصبحت الحرب بلا استراتيجية، تصبح عنفًا يُسلَّط بلا سبب، وإن تحقيق النصر الحاسم يمكن أن يكون شيئًا سيئًا للغاية، وقد يكون سببًا في خراب كبير”.

وفي الفكرية الإسلامية، فإن الحرب لا تجوز إلا للدفاع عن المستضعفين ولصد عدوان المستكبرين، والمطلوب فيها أداء التكليف فقط بمعزل عن النتائج، لأن الله وحده كفيل بتحقيق النصر المأمول.

وفي المفهوم الجهادي، فإن المطلوب هو الصمود وبذل الجهد والثبات على المبادئ ودفع الصائل وردّ العِدى: “إن تنصروا الله ينصركم”، “وما النصر إلا من عند الله”.

ولم يطلب القرآن من المسلمين لضمان تحقيق الانتصار إلا إعداد العدة بقدر الاستطاعة فقط، مع استحضار قيم الإخلاص والإيمان والعقيدة الثابتة: [ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم].

وفي تقييمات علم الحروب، ليس المنتصر بالضرورة هو الذي تظهر علامات وأدلة انتصاره واقعًا وحقيقة وحسمًا، بل يمكن أن يكون المنتصر هو الذي يحرم خصمه من تحقيق أهدافه في الحرب وقطف ثمارها.

وبذلك أصبح الصراع المسلح الحديث يُخاض كمعركة سرديّات، وليس كمعركة تكتنفها الغلبة واجتياح الأرض أو إرغام الخصم على توقيع وثيقة استسلام وخضوع.

وإذا أردنا تسليط مجهر تحليلي وإنجاز تقييم موضوعي حول حرب الأيام  الـ 12 بين كيان العدو الإسرائيلي وإيران من أجل رسم معالم الصراع ومفاعيله وارتداداته ونتائجه، والإجابة عن سؤال: من المنتصر؟ ومن المنهزم؟ فيتوجب علينا فهم الأهداف التي وضعها كل طرف في هذه الحرب، وهل حقاً استطاع هذا الطرف إنجاز هذه الأهداف وغاياته المرسومة فيها؟

لقد أعلن الطرفان الصهيوني والأمريكي اللذان خاضا الحرب معاً ضد الجمهورية الإسلامية في إيران أنهما سيخوضان هذه الحرب من أجل تحقيق أربعة أهداف، وهي:

1- إسقاط الدولة والنظام في إيران، وذلك باستهداف القيادات الدينية والعسكرية والسياسية، وإحداث إرباك عام وفوضى عارمة من شأنها إطلاق انتفاضة شعبية تخلخل الاستقرار وتزلزل الأوضاع الاجتماعية وتنال من تماسك النظام القائم، وصولاً إلى إحداث إرباك ومحاولات لتقسيم جغرافيا البلاد وإسقاط النظام بشكل نهائي.

2- تفكيك المشروع النووي وتدميره وإنهاء تهديداته المزعومة ضد الكيان وضد السلم العالمي كما يدّعون.

ويمر مخطط تفكيك المشروع النووي عبر ضرب المفاعلات النووية الإيرانية وتدمير بنية المختبرات الأساسية والحيوية، وإعدام أية فرصة لإعادة إنتاج وتخصيب اليورانيوم، كما حرمان إيران من تصنيع صواريخ وأسلحة استراتيجية من شأنها تهديد الكيان، وذلك من خلال إخضاعها لتفاهمات وتعهدات في هذا الصدد.

3- إضعاف روح المقاومة والنيل من محورها بقصد دفعها إلى الانكفاء على نفسها وإرغامها – بعد النيل من رأسها (إيران) – على التنازل أو الاستسلام أو الخضوع الكامل لاشتراطات القوة المميتة الباغية والمتحكمة في المنطقة.

4- إقناع الخليجيين بضعف وهوان الدولة التي اعتبروها لمدة أربعة عقود خطراً يهدد وجودهم وكياناتهم وكراسيهم، والمطلوب دفع الجزية الدائمة عن يدٍ صاغرة للقوة الضامنة لبقائهم والمزيلة للخطر الإيراني الذي يتهددهم!

وفي مقابل هذه الأهداف المعلنة من الطرف الصهيو-أمريكي، أعلنت إيران بدورها عن أهدافها الثلاثة المؤمّل تحقيقها، وهي:

1- ردع الكيان عسكرياً وإظهار ضعفه وهوانه، وكشف حقيقة تورط الأمريكي في هذه الحرب كما فضح الجميع في المحافل الدولية، وترسيخ مفهوم “الفرز” الإنساني والأخلاقي الحقيقي، وتأكيد مبدأ “تمايز الصفوف”.

2- إظهار تماسك الدولة العظيم ووحدة مؤسساتها وقوة قدراتها العسكرية القادرة على مواجهة جميع المعتدين، وتأكيد استعداد الجمهورية الإسلامية لخوض حرب كونية والصمود فيها حتى وإن طالت لسنوات عديدة.

3- الحفاظ على حق إيران الكامل في تخصيب اليورانيوم وعدم الاستجابة لمنطق القوة المذلّة.

ويمكننا، إزاء سقوف الأهداف المعلنة وحجم تحققها، الحكم لصالح هذا الطرف أو ذاك وتدوين النقاط ضمن هذه القاعدة لرفع يد المنتصر فوق حلبة المواجهة وإعلان انتصاره أمام الجميع أو هزيمته.

فما الذي حققه المحور الصهيو-أمريكي من الأهداف المرسومة في الحرب على إيران؟

وما الذي حققته إيران عند خوضها لهذه الحرب المفروضة؟

عند تشريحنا لحجم المنجزات من الطرفين، يتبين لدينا واقعًا وموضوعًا وتحليلًا واستنتاجًا:

1- عجز التحالف الصهيوني-الأمريكي عن إسقاط النظام وفشله الذريع في تفكيك الدولة وإضعافها، والقضاء على أقوى نظام يهدد بقاء الكيان واستمرارية غطرسته تمهيدًا لزواله.

2- افتضاح المتآمرين والخونة وانكشافهم بشكل كامل، بدليل ما قالته الصحفية الإيرانية المعارضة معصومة علي نجاد، التي تقيم في أمريكا وتعمل في قناةCNN: (لقد أعاق نتنياهو وأفشل بضربه لإيران كل المخطط الانقلابي الذي كان يُعمل عليه لأكثر من عقدين من طرف المعارضة الإيرانية وكل أصدقائها وحلفائها وداعميها في الغرب، حيث عدنا القهقرى إلى نقطة الصفر، وأضحت معارضتنا ضعيفة ومهمشة وغير قادرة حتى على محاولة إعادة التفكير من جديد في إحداث تغيير في إيران مستقبلًا.. وإن أدواتنا في الداخل قد سُحقت بالكامل وتوزعت بين قتيل وسجين ومشرد وهارب، وأضحت أحلامنا وأحلام 90 مليون إيراني تذروها الرياح).

٣- أجهضت إيران المخطط السري الخطير الذي كان يستهدف قتل ٤٠٠ شخص من القيادات العسكرية والسياسية والدينية، ونشر الفوضى، وإطلاق انتفاضة شعبية مدمّرة بعد السيطرة على مقر مجلس الشورى الإسلامي، ومحطة البث الرسمية، ومقر وزارة الداخلية من طرف العملاء الإيرانيين من الطائفة البهائية، كما تم إطلاق هجوم سيبراني وتعطيل أجهزة الصواريخ، واعتماد الذكاء الاصطناعي لإحداث تشويش إلكتروني يصيب أهم المواقع الحيوية والعسكرية والاتصالية، واستعمال طيور مجهرية قادرة على الكشف والهجوم ونقل المعلومات بالاستعانة بشبكة تجسس تعمل منذ ٢٠ سنة لاستغلال هذه اللحظة بإطلاق طائرات مسيرة واستهداف العديد من المراكز العسكرية والأمنية والسياسية.

ولكن، وفي مقابل كل هذا المخطط المرعب، تم اعتقال أكثر من ٧٠٠ من أعضاء الموساد الإسرائيلي، وكشف مخابئ أسلحة وأماكن تجسس متطورة، وأفشلت الدولة الإيرانية كل محاولات الهجوم السيبراني الخطير.

٤- أجهضت حلم الصهاينة في تشكيل “شرق أوسط جديد” تُخضع فيه “إسرائيل” دول المنطقة كلها للقرار الصهيوني، وتستنزف فيه مقدراتها وخيراتها من أجل تأمين حدودها المزعومة وتوسيعها وتبرير أي عدوان مستقبلي على أي فصيل مقاوم، وذلك بعد التخلص من النظام الإيراني وتفكيك برنامجه النووي، ولكن خاب مسعاهم وفشل مخططهم.

5- أثبتت إيران أنها قادرة ومستعدة وجاهزة ومهيأة عسكريًا وسياسيًا وإداريًا وتنظيميًا واستراتيجيًا، داخليًا وخارجيًا، لخوض أي حرب طاحنة وشاملة وطويلة المدى من شأنها تهديد وجودها ونظامها وجغرافية أرضها، وبذلك سخرت إيران واقعيًا وفعليًا من سرديات هذا الهدف المنشود الذي عمل على إسقاط النظام وتفكيك الدولة واستسلام السلطة الإيرانية للقرار الأمريكي، كما ردد ذلك ترامب في أكثر من مناسبة، وكان موضوع ملء الفراغ القيادي للمسؤولين العسكريين الشهداء الذين كانوا يشغلون مراكز حساسة بتلك السرعة والفعالية أكبر دليل على الجاهزية والاقتدار السياسي والتنظيمي والعسكري، كما أن سرعة الرد ونجاعته عززتا الثقة والقدرة بالدولة الإيرانية.

أما فيما يخص الهدف المنشود إسرائيليًا وأمريكيًا لتفكيك المشروع النووي الإيراني وتدميره، فقد ظهر أنه:

1-   قد ثبت فشل المحور الصهيو-أمريكي في تدمير المنشآت النووية الإيرانية بشكل كبير، باعتراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتقرير الصادر عن وكالة المخابرات بوزارة الدفاع الأمريكية بإشراف البنتاغون، والذي أكد أن الضربات على المنشآت النووية الإيرانية أدت فقط إلى تأخير برنامج طهران النووي لأشهر محدودة. كما أكد هذا الفشل كل التصريحات الإيرانية الرسمية الصادرة في هذا الصدد.

2- تؤكد إيران أنها نقلت كل المادة عالية التخصيب إلى مكان مجهول قبل الضربات، دون أن ينكشف الأمر لدى المخابرات الأمريكية أو الإسرائيلية أو الدولية، وهو ما يعني قدرة الاستشراف الفائقة للدولة الإيرانية واستعدادها اللوجستي لأي حرب محتملة ضدها، كما يدل على قدرتها التقنية والفنية والعلمية على نقل مثل هذه المواد الخطرة بأمان وحفظ وسرية وسلامتها، بعيداً عن أعين الوكالة الدولية التي انفضح أمر تجسس رئيسها رافاييل غروسي ونقله لمعلومات استخباراتية خطيرة إلى الكيان في مخالفة صريحة لميثاق الوكالة.

2-   بعد استهداف المشروع النووي وتهديد إيران في أمنها وسلامة أراضيها وحياة شعبها بهذا الاعتداء، فقد تضطر إيران إثر ذلك إلى تغيير عقيدتها النووية، كما صرح بذلك كبير مستشاري القائد خامنئي السيد علي لاريجاني، بأنه “في حال أصبحت إيران مهددة في سلامة أراضيها وحياة شعبها، فإنه يمكن تغيير فتوى تحريم امتلاك القنبلة النووية”، وبذلك يمكن للجمهورية الإسلامية في إيران، حسب تصريح يسري أبو شادي كبير خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أن تصنع عشر قنابل نووية، وقد تلجأ إيران إلى الدخول ببرنامجها إلى مستواه السري، وهو ما يعني انفلات الوضع عن الرقابة بشكل كامل، وقد تتمكن حينها إيران من صنع قنابل نووية وليس قنبلة واحدة فحسب.

ومما يؤكد فشل العدوان في تفكيك المشروع النووي الإيراني بعد محاولة تدمير بنيته التحتية، هو إقرار البرلمان الإيراني لقانون تعليق عمل الوكالة الدولية للطاقة الذرية في النشاط بإيران، وتصديق وإمضاء رئيس الجمهورية عليه بسرعة كبيرة، وهو ما يفتح المجال مستقبلاً لحرية التصرف السيادي في تخصيب اليورانيوم بشكل أوسع وأعلى، ضمن تبريرات الشرعية الدولية وضمن المشروعية الموضوعية والقانونية الناجمة عما تنص عليه المادة العاشرة من معاهدة حظر الأسلحة النووية (NPT)، التي تنص على حق كل دولة طرف في الانسحاب من المعاهدة إذا رأت أن “أحداثاً استثنائية قد مسّت مصالحها العليا”، وهو ما يتيح لإيران توسيع عملها والدخول به في السرية بعيداً عن أنظار كل المخابرات والوكالة الدولية أيضاً، ولولا العدوان لما أتيحت لإيران مثل هذه الفرصة الجديدة المبررة شرعياً وقانونياً.

4- بعد العدوان على المفاعلات الإيرانية، تم الكشف عن أن العلوم الخاصة بتخصيب اليورانيوم أصبحت مشاعة لدى طيف واسع من العلماء والمختصين، الذين بلغ عددهم أكثر من 80 ألف عالم ومختص وتقني وفني وخبير في هذا المجال، وهو ما يُعدم أي وهم بإمكانية تدمير المشروع وإنهاء أثره بمجرد قتل 5 أو 10 علماء متقاعدين قاموا بتبليغ علومهم لأجيال عديدة من الطلبة والخبراء والفنيين.

5- نتيجة للعدوان الظالم على المفاعلات النووية الإيرانية، استثمرت الجمهورية الإسلامية الأمر دوليًا وإعلاميًا وسياسيًا ودبلوماسيًا لتظهير وحشية الدول “المارقة” المعتدية وإبراز توحشها وعدم التزامها بالمواثيق والاتفاقيات والقوانين الدولية الناظمة، وهو ما مكّنها من الحصول على إدانات أممية ودولية حتى من الأصدقاء القريبين من المحور الصهيو-أمريكي ضدهم، وإقامة الحجة القاطعة ضد المنظومة الإمبريالية الدولية المتوحشة، كما أبرز ضرورة إعادة تشكيل نظام عالمي جديد لا يستند إلى مخرجات وتفاهمات ما بعد الحرب العالمية الثانية.

6- استثارت الدول النووية (كالصين وروسيا وباكستان) وأعلنت رفضها الكامل لتحويل الصراع إلى مرحلة غير مقبولة من شأنها تدمير السلم العالمي، وهو ما أتاح سهولة فرض قواعد جديدة للحرب الدائرة، قوامها عدم استعمال ورقة النووي وتهديد العالم بالأسلحة الفتاكة مهما تكن الظروف، وهو ما يصب في مصلحة إيران القادرة على حسم الحرب لصالحها إذا لم تتخذ الحرب منحى نوويًا، وهو ما استفادت منه إيران فعليًا في الأيام الاثني عشر الأولى من الحرب.

7- إنهاء أي مبرر للاعتداء على إيران مستقبلاً باعتبار تهاوي شماعة “الغول النووي الإيراني” الذي زعمت أمريكا أنها دمرته بشكل نهائي، وتبرير قيام إيران بالردّ مستقبلاً بشكل أكثر تدميراً وإفناءً على أي عدوان يستهدفها، والتسويغ لذلك دولياً وقانونياً وأخلاقياً وأممياً في حال أعاد الحلف الصهيو-أمريكي ترديد السردية ذاتها حول النووي الإيراني أو تمّ تجديد العدوان عليها.

أما فيما يخص هدف إضعاف روح المقاومة باستهداف رأس المحور “إيران” لشل قدرتها على الدعم والإسناد والتمويل، فيصب ذلك في إطار التمهيد لإخضاع جميع محور المقاومة، كما الدول المحيطة سواء المحتضنة أو الداعمة أو المساندة أو حتى الخاضعة والمطبعة للمشروع الصهيو-أمريكي، وذلك لإنجاح المشروع الصهيوني في تشكيل شرق أوسط جديد قوامه إضعاف محور المقاومة، وكذلك إخضاع دول التطبيع لاشتراطات مجحفة جديدة، مثلما عبّر عنها نتنياهو حين خطب في الكنيست ليلة الاعتداء على إيران بطلبه “إنجاز تحويرات في اتفاقيات التطبيع المنجزة سابقاً مع دول عربية في اتجاه مزيد إخضاع هذه الدول وفرض إتاوات وجزية إضافية وطلبات مجحفة، وقد يصل الأمر إلى حد التآمر لإسقاط أنظمتهم في حال تصلبهم أو تمردهم، كما فعلوا مع النظام السوري.”

1- وبصمود إيران في الحرب، فشل الكيان في إضعاف محور المقاومة، حيث تعاظمت أعماله في غزة إلى حد أن الكيان المؤقت اعترفت بذلك، إذ تكبّدت خسائر كبيرة جدًا بعد أن قامت فصائل المقاومة بإعادة ترتيب أوضاعها وتجديد إمكانياتها وتأهيل عناصرها الجديدة وتطوير خططها الهجومية الناجحة إلى حد إمكانية أسر جنود جدد.

كما تعاظمت عمليات استهداف اليمن للكيان وموانئه وتجارته ومراكزه الحيوية بشكل ملحوظ ومتطور ومتسارع، وتم تطوير العمليات بإغراق مجموعة سفن في البحر الأحمر تتعامل مع العدو الصهيوني.

وتعافى حزب الله ولملم جراحه، وعبّر عن جهوزية كاملة لمواجهة هذا الكيان في حرب قادمة، ولم يرضخ رسميًا وعمليًا للاشتراطات الداخلية والدولية لسحب سلاحه.

3-   وبصمود إيران في الحرب وتثبيت انتصارها على الأعداء، عجز الكيان عن تنفيذ مشروعه بتهديد دول وأنظمة وحكومات عربية، وأصبحت مواقف هذه الدول تشير إلى بداية تمرد وامتعاض حول أعمال الحرب والعدوان، وحول المواقف المعلنة من طرف الكيان.

3- كما ساهم صمود إيران وقيامها بالرد الرادع في استقرار دول كبيرة مثل باكستان وتركيا ومصر والسعودية والأردن والعراق، وفرضت بصمودها “معادلة صفرية” قوامها عدم خضوع هذه الدول لمثل هذه التهديدات المباشرة. وبذلك أصبح صمود إيران الدرع الواقي لكل هذه البلدان، التي كان بعضها مهددًا بخطر تهجير الفلسطينيين إليها وتوطينهم قسرًا (الأردن ومصر والسعودية)، وبعضها الآخر كان مهددًا بشن حروب مباشرة ضدها مثل لبنان والعراق وسوريا واليمن، وصولًا إلى حد قضم أراضي بعضها كسوريا ولبنان. وضمنت تركيا بصمود إيران وانتصارها إفشال مخطط إنهاك اقتصادها وأمنها واستقرارها والنيل من نظامها. وبذلك ساهم الانتصار الإيراني فعليًا واستراتيجيًا في ضمان استقرار دول عديدة كانت مهددة بشكل كبير وخطير في أمنها واستقلالها وسيادتها واستقرار وضعها ووحدة أراضيها.

4-   وبصمود إيران في الحرب وردعها الكامل للكيان، تكبدت إسرائيل خسائر اقتصادية كبيرة، حيث بلغت فاتورة وكلفة حربها مع إيران مبالغ فلكية، سواء في إعادة الإعمار (1.3 مليار دولار) أو في الكلفة الجملية للحرب التي فاقت 6.8 مليار دولار. وثبت عسكريًا وفعليًا عجز منظومة دفاعاتها الجوية وضعف مخزونها الاستراتيجي في هذا المجال، وتأكد أنها غير قادرة على خوض حرب طويلة المدى. وبذلك تعرّت عسكريًا ولوجستيًا واستراتيجيًا واقتصاديًا، ولجأت للاستنجاد بأمريكا في المواجهة الحربية، كما طلبت من حلفائها بذل كل وسعهم والضغط بكل الطرق لوقف الحرب وإنهائها مهما كانت الشروط، وهو ما حدث فعليًا وبسرعة فائقة.

5- بصمود إيران في حرب الأيام الاثني عشر، شعر الفلسطيني داخل غزة وكل المقاومين في لبنان وبلدان محور المقاومة وفي كل العالم بالنخوة والكبرياء والفخر والفرح وهم يشاهدون الردع الإيراني يُحدث دمارًا هائلًا في تل أبيب وحيفا وبئر السبع وكل شبر من مناطق الأراضي المحتلة، وأحسوا بأنهم مسنودون من دولة عظيمة قادرة على إيلام الكيان بمثل الألم الذي أصاب المقاومين في لبنان واليمن والضفة الغربية وغزة، وشعروا أن دماء شهدائهم لم تذهب هدرًا، وتأكدوا أن الأمة التي تتمسك بعروتها الوثقى لا تُذل ولا تُركع ولا تُهان.

أما فيما يتعلق بمسألة إقناع دول الخليج بالخطر الإيراني الذي عملوا على التحشيد والدس والترويج له لمدة فاقت أربع عقود ونصف، حيث:

1- فشل المحور الصهيو-أمريكي في دفع دول عربية ودول الخليج للانخراط ضد إيران والمشاركة في حرب تدميرية باتجاهها كما فعلوا سابقًا مع اليمن في حرب السنوات التسع، ولم يتمكن محور الشر من إقناع أي دولة بالانخراط في هذه اللعبة القذرة ولم تُوظف هذه الدول لتُستعمل كحصان طروادة لتدمير الحصون واقتحامها ليلًا وقتل أهلها وهزيمة جيشها والنيل منها، وهو النجاح الذي حققته الخارجية الإيرانية بقيادة عرقجي.

2- رغم أن ترامب تمكن من ابتزاز دول الخليج وأقنعهم بأنه القوة الوحيدة الضامنة لبقائهم في الحكم، إلا أن عدم إسقاط النظام الإيراني سيدفع هؤلاء حتمًا لإعادة ترتيب تحالفاتهم الاستراتيجية مستقبلًا، وكذلك مراجعة بعض مواقفهم السياسية القديمة، خاصة بعد التأكد من استحالة إسقاط وتفكيك الجمهورية الإسلامية في إيران، وبالتالي وقف كل عمليات التآمر الخفية والمعلنة ضد النظام الإيراني.

ومن المتوقع أن يتجه بعضهم للبحث عن كل الوسائل والطرق العملية لإرضاء الجمهورية الإسلامية من خلال تخفيف الضغط عن حلفاء إيران الأيديولوجيين في بلدانهم، مثل البحرين والسعودية وقطر والكويت، في مسألة قمع الطائفة الشيعية في هذه البلدان، وكذلك تطوير علاقاتها التجارية والاقتصادية والاستثمارية معها.

أما فيما يخص مسألة تحقيق أهداف إيران من هذه الحرب، فيظهر جليًا أن إيران قد ردعت هذا الكيان عسكريًا باستعمال بضع مئات من الصواريخ غير المتطورة، بحيث إنها لم تستعمل في هذه الحرب قدراتها الاستراتيجية الهائلة والمرعبة، ولا العدد الضخم من الصواريخ الاستراتيجية المدمرة التي تمتلكها. ورغم ذلك فقد:

1- أحرقت الجمهورية الإسلامية في إيران تل أبيب ودمرت معظم مراكز الكيان الحيوية والاستراتيجية والعسكرية والاستخباراتية.

2- جعلت اقتصاد الكيان مهددًا بالانهيار والانكماش والتدهور.

3- أرغمت الكيان على دفع فاتورة باهظة جدًا بشأن إعادة الإعمار (1.3 مليار دولار).

4- كبّدت الكيان خسائر حرب فاقت 6.8 مليار دولار.

5-   فككت منظومة دفاعاته الصاروخية كلها أو جلها واخترقتها، كما أجهزت على القبة الحديدية ومنظومة دفاعاته الجوية، ونالت من مراكز القيادة والتحكم العسكرية، بما فيها وزارة الدفاع، ودمرت مقر وحدة 8200 (العقل الاستخباراتي الإلكتروني)، وكذلك مقر الموساد الذي تفاخرت به إسرائيل لعقود عديدة، وسحقت القاعدة العسكرية الجوية “نيفاتيم” وعديد القواعد الأخرى، ودمرت معهد “وايزمان” للعلوم في مدينة رحوفوت عالي التحصين، وهدمت 112 مبنى في مجمع المعهد، وألحقت أضرارًا كبيرة بمجمع مصفاة “بزان” للنفط في حيفا ومعظم خطوط أنابيب الطاقة فيها، وهدمت أكثر من 30 ألف منزل وبناية في كافة الأراضي المحتلة، وكذلك دمرت العديد من المقرات الحيوية كالبورصة والمطارات وسكك الحديد.

6- كشفت إيران شبكة جواسيس الكيان المغروسين والعاملين فيها منذ عقود، واعتقلت كل أعضاء شبكة الموساد الذين قاموا بأعمال خطيرة في السابق وأثناء الحرب، وقطعت شرايين الاختراقات بشكل نهائي داخليًا وخارجيًا. وقد أكدت ذلك الصحفية فيCNN “معصومة علي نجاد”، حين قالت: “إن أدواتنا في الداخل قد سُحقت بالكامل، وأضحى أعضاؤها بين قتيل وسجين ومشرّد وهارب”.

6-   أرعبت إيران بردها المدمّر المستوطنين الذين أصبحوا غير واثقين بقياداتهم، وغير آمنين على حياتهم، وفاقدين للثقة بالأمن والاستقرار والمستقبل الزاهر الذي تأمّلوه بعد تواجدهم في الأراضي المحتلة. كما أعدمت آخر أمل لدى رجال الأعمال في إمكانية مواصلة الاستثمار في هذه الجغرافيا البركانية المتفجرة. بل إن الردع الإيراني عرّض مئات الآلاف من الجنود والمستوطنين لنوبات مرضية وأعراض نفسية مزمنة ستحرمهم من الشعور بالأمان في هذه الأراضي، ودفع بعشرات الآلاف أثناء الحرب إلى الهجرة السرية عبر اليخوت لمغادرة البلاد دون رجعة. وقد بدأت تظهر أرقام مرعبة تثبت أن أكثر من 70٪ من المستوطنين أصبحوا يفكرون في حزم حقائبهم ومغادرة الأراضي المحتلة بشكل نهائي، في هجرة عكسية تمهّد للزوال التدريجي لهذا الاحتلال السرطاني الخبيث، وهو الهدف الأسمى الذي عملت عليه المقاومة حين خاضت معركة الانتصار بالنقاط وليس بالضربة القاضية، كما عبّر عن ذلك شهيد الأمة الأقدس حسن نصر الله، وسماحة السيد علي خامنئي، والقائد اليمني عبد الملك الحوثي، بقولهم: “سندفعهم لحزم حقائبهم ومغادرة فلسطين”.

8- فضحت الحرب الحلف الصهيو-أمريكي على الصعيد الأممي، وأُثيرت ضده قضايا انتهاك ميثاق الأمم المتحدة وارتكاب جرائم حرب وعدوان يُعاقب عليه القانون الدولي الإنساني وميثاق روما الأساسي المنظّم لمحكمة الجنايات الدولية.

9- وسّعت إيران من ردها العسكري ليشمل قاعدة “العديد” الأمريكية في قطر بشكل مرعب، وهددت باستهداف كافة القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة، وهو ما أعاد حسابات الأمريكي الذي واجه حدّة وقوة وعنفاً متعاظماً في الرد الإيراني المدمّر والثابت وغير المحدود.

أما في مسألة تحقيق إيران لهدفها في إثبات تماسك الدولة واقتدارها ووحدتها السياسية والمجتمعية، فقد:

1- أظهرت الجمهورية الإسلامية في إيران تماسك الدولة العظيم ووحدة مؤسساتها التنفيذية وقوة قدراتها العسكرية في مواجهة أي حرب تُشن ضدها، وأثبتت صلابة مواقفها الرسمية والمبدئية، كما أظهرت مبدئية رموزها وقدرتهم على التحدي والصمود والثبات، وكذلك استعداد الحرس الثوري الإيراني الكبير لخوض حرب طويلة الأمد، كما أظهر الشعب بكل طوائفه ومذاهبه وأعراقه وتوجهاته استعداده لخوض هذه الحرب، سواء طالت أم قصرت، ضد جميع الأعداء العالميين والدوليين.

2- ظهر التماسك والتضامن السياسي والمجتمعي والمذهبي والطائفي والديني والعرقي، ولم تصبح هذه الاختلافات المذهبية أو العرقية عامل ضعف، بل كانت عامل قوة ووحدة وتكامل، وقد عبّر أعتى المعارضين للسلطة عن وحدة صفهم مع النظام ضد أي عدوان، رغم الاختلافات السياسية والأيديولوجية والتاريخية.

3- برزت مسلّمة جديدة في عالمنا العربي والإسلامي على المستوى الرسمي والشعبي، مفادها أن الاختلاف مع النظام الإيراني لا يُفسد للود قضية، وأن التضامن مع الجمهورية الإسلامية في إيران دينياً وسياسياً وإعلامياً وشعبياً ورسمياً هو واجب أخلاقي وقومي وإسلامي وإنساني ضد كيد الكائدين وعداوة المعتدين وعنجهية المستكبرين، وهي أهم خسارة استراتيجية للمحور الصهيو-أمريكي.

4- حققت إيران في حرب الأيام الاثني عشر ما عجزت عنه السياسات الثقافية والتربوية والسياسية طوال حوالي نصف قرن بهدف توحيد الإيرانيين بمختلف توجهاتهم وأيديولوجياتهم ومشاربهم ضمن وحدة صماء تدافع عن الدولة والنظام وتواجه، بكتلة تاريخية (Historic Bloc)، مشاريع الأعداء الخارجيين الذين دأبوا على استهداف دولتهم ومقدرات مشروعهم النووي السلمي. وانتفض المارد الإيراني وانطلق من قمقمه من تحت رماد المؤامرات كطائر الفينيق ليحلق عالياً بأجنحة ضمت سواعد جميع المختلفين، وبوحدة صماء داخلية وخارجية غير قابلة للانفصام والانكسار.

أما فيما يخص الهدف الثالث للإيرانيين، الذي اشتغلت عليه الدولة الإيرانية، وهو المضي في مشروع تخصيب اليورانيوم والعمل عليه كحق مطلق تضمنه المواثيق والمعاهدات الدولية، فقد:

1-   التزمت إيران منذ عقود بشروط معاهدة حظر حيازة الأسلحة النووية بروحية أخلاقية مبدئية ثابتة، إلا أن الأعداء أبوا إلا دفع إيران، عبر اعتدائهم على مفاعلاتها النووية، للتخلص من آلية المعاهدة وتعليق التعامل بها، وهو ما حرر الإيرانيين وأنقذهم من كابوس ووكر تجسس متنقل اسمه الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

2- تأكد للجميع أن إيران استحضرت كل عناصر القوة لتحقيق هدفها المركزي في الحفاظ على حقها في اليورانيوم وتخصيبه، ووظفت لذلك كل إمكانياتها الاستخباراتية والفنية والعلمية واللوجستية للحفاظ على هذا الحق. وبمجرد شعورها بالخطر المحدق من جهة نية استهداف مشاريعها في تخصيب اليورانيوم، قامت بتأمينه عن أعين الجواسيس والأعداء المتربصين، وهو ما يُعتبر أكبر انتصار استراتيجي حققته إيران وتفوّقت به في هذه الحرب.

3- بعد الحرب على الجمهورية الإسلامية، بدأت تظهر إرهاصات عديدة لاستجداء الدولة الإيرانية من أجل العودة إلى طاولة المفاوضات الخاصة بمشروع إيران النووي، وهو ما يؤكد فشل العدو في تدمير مشروع التخصيب النووي وانتصار إيران في الحفاظ على حقها في هذا المجال، وسيلهث الجميع لإرضائها حتى بأغلى الأثمان وبحجم تنازلات كبيرة. والأيام القادمة ستكشف ما حققته الحرب من نتائج إيجابية لصالح الجمهورية الإسلامية في إيران، وهو ما سيقيم الدليل القاطع على هزيمة الأعداء.

ونختم لنقول إن العدوان على إيران أثبت قوة وصلابة واقتدارًا عظيمًا للجمهورية الإسلامية، وأكد مبدئية إيران في مواجهة “الشيطان الأكبر” مهما كانت كلفة ذلك، وعزم الجمهورية على اجتثاث السرطان الصهيوني الجاثم على جسد الأمة منذ عقود. وحسمت إيران بهذه الحرب موضوع التحالفات والعداوات، وأصبح الفرز مؤسسًا على قاعدة فسطاط الاستكبار (الصهيو-أمريكي) في مقابل فسطاط الاستضعاف (محور المقاومة).

كما فضحت الحرب العجز الكامل للصهاينة وحاجتهم الأكيدة إلى الأمريكي الداعم والمساند الرسمي لهم، وانكشفت حقيقة عدم قدرة “إسرائيل” على الصمود أكثر من 12 يوماً في مواجهة عسكرية مباشرة مع دولة إيران الإسلامية، فضلاً عن بروز مسلّمة موضوعية مفادها أن النمر الورقي قد بدأت مرحلة احتراقه وذبوله واندثاره وزواله التدريجي، وذلك بعد فقدان المستوطنين الشعور بالأمان والسلام والاستقرار في بيئة بركانية مشتعلة، وفي مناخ بركاني محتدمة صفائحه التكتونية من جهاته المتعددة، وهو ما يهيّئ ظروف سردية محور المقاومة القائمة على دفع الصهاينة لحزم الحقائب ومغادرة الأراضي.

كما أسقطت الحرب بين حلف الشر وإيران مسلّمة الرضا والرضوخ والقبول بسياسات التخويف المنتهجة من دول الاستكبار، المعتمدة على التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور لكل من يتعرّض لهذا الكيان بأي رد أو ردع على حروبه وعدوانه الدائم، وقد خرقت إيران هذه القاعدة وتجاوزتها فعلياً وعملياً وواقعياً.

وحققت إيران إنجازاً عظيماً يتمثل في تحييد الجميع عن الانخراط في حرب ليس لهم فيها ناقة ولا جمل ولا مصلحة، باستثناء هذا الأمريكي الذي كدّس بيضه كله في السلة الإسرائيلية، وهو ما ينبئ بسقوط عنجهيته وتنمّره وتسلّطه وهيمنته، بالتزامن مع بداية مرحلة زوال الكيان التدريجي.

تقرير : زهير مخلوف *نائب سابق بالبرلمان التونسي

 

قد يعجبك ايضا