تآكل الردع الأميركي.. الوقائع والأسباب

 تآكل الردع الأميركي.. الوقائع والأسباب

لا شك ان الولايات المتحدة الأميركية من الدول الكبرى في العالم ولعلها خلال عشرات السنوات الماضية صنفت على انها الأقوى عالميا ما جعلها للأسف تتجبر وتمارس الغطرسة بكل الاتجاهات منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى وعلى أرض مختلف القارات وأيضا المسطحات المائية وفي أعالي البحار والمحيطات، وهي تحيك المؤامرات والمكائد السياسية وغير السياسية لكثير من الأنظمة والشعوب.

والولايات المتحدة لا شك تملك الكثير من القدرات والأدوات في مختلف المناحي العسكرية والاقتصادية والأمنية والثقافية والتكنولوجية والعلمية وغيرها، وهي سخرت كل ذلك لمحاولاتها الدائمة فرض سطوتها في العالم وآرائها وسياساتها على من تريد، وكانت تضرب بعنف ضد كل من يعاندها او يعارض افكارها وسياستها ولا تقيم أية حدود لردود أفعالها المفرطة وجرائمها والفظائع التي تنتج عنها، فكانت تعتدي عسكريا وتخرّب أمن الدول كما تضرب ثقافات المجتمعات وتضيّق الخناق ماليا واقتصاديا وصولا لتجويع الناس.. كل ذلك بغية “تركيع” من لا يسير معها طواعية.

إلا ان المتتبع لمسار الأحداث منذ سنوات وحتى اليوم يدرك مدى تراجع قدرة الردع الأميركي عما كانت عليه الأمور في المئة سنة الأخيرة، فالولايات المتحدة الأميركية اليوم ليست هي نفسها بعد الحرب العالمية الأولى او الثانية، صحيح انها قادرة على إيلام خصومها وأعدائها وتوجيه ضربات لهم-كما انها تكبد حلفاءها خسائر وتحمّلهم تبعات الكثير من سياساتها، ماليا واقتصاديا وأيصا عسكريا وأمنيا- إلا انه بمقابل سياساتها الشيطانية، تتم مواجهتها من قبل دول وحركات في العديد من الساحات، خاصة في منطقتنا أو ما يسمى منطقة “الشرق الأوسط”، او ما بات متعارفا على تسميته “ساحات محور المقاومة” من إيران الى اليمن، مرورا بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين.

والمسألة هنا ليست للحديث وكتابة بعض السطور من منطلق الشعبوية او رفع المعنويات بعيدا عن الواقع، فالمسألة حقيقة وتستحق بعض التدقيق وعدم الانبهار والسير بدون وعي مع المنهج الإعلامي والسياسي الترويجي للقدرات الأميركية الخيالية والتهويل بعدم إمكانية إنزال الهزيمة بأميركا واعتبارها وحشا غير قابل للكسر، انطلاقا من مقولة “العين لا تقاتل المخرز”، علما ان الواقع والتاريخ والجغرافيا كلها أظهرت أنه بإمكان فئة قليلة متماسكة مؤمنة بعقيدتها وبربها ان تتغلب على فئة مستكبرة، انطلاقا من مقولة “انتصار الدم على السيف”، وكمثال حي على ما نقول هو كسر وهزيمتها “إسرائيل” امام المقاومين اكثر من مرة في لبنان وفلسطين(تحرير جنوب لبنان 2000 – تحرير غزة 2005 – تموز 2006 …. طوفان الأقصى 2023) والآتي أعظم، وهذا الكيان الصهيوني ما كان ليستمر بدون كل هذا الدعم من الإدارات الأميركية المتعاقبة ومن خلفها كثير من الأنظمة الأوروبية والغربية والعديد من الأنظمة العربية والإسلامية.

وبالعودة الى موضوعنا عن الردع الأميركي، لا بد من الإشارة إلى عدة شواهد للتأكيد على ما نقول خاصة بالترابط مع ما يجري في هذه الفترة جراء العدوان الصهيوني الأميركي على غزة، ومن هذه الشواهد:

-1- إيران: سبق للجمهورية الإسلامية الإيرانية ان كسرت التجبر الأميركي عليها وحدّت بكثير من العزم والتصميم والصلابة محاولة ردعها أميركيا، فإيران منذ انتصار الثورة الإسلامية بقيادة الامام الخميني(قده) في العام 1979 استطاعت إسقاط نظام الشاه أحد اهم ادوات واشنطن وإسرائيل في هذه المنطقة، وبعدها كرّت سبحة صدّ الاعتداءات الأميركية الإسرائيلية (سواء بالواسطة او بالمباشر) ضد إيران، وواجهت طهران مختلف صنوف الحروب العسكرية والاقتصادية والأمنية والسياسية والدبلوماسية والإعلامية… حتى باتت نموذجا يحتذى في تحويل الأزمات الى فرص وبالاعتماد على الذات بدون الحاجة الى الأميركي الذي شهدت الوقائع كيف كان يلهث خلف إيران للوصول الى اتفاق حول الملف النووي بعد طول اخذ ورد، ومع ذلك وسعت ايران دعم حركات المقاومة في مختلف دول وساحات المنطقة وباتت تعطل وتفشل المخططات الأميركية الصهيونية في مختلف دول المنطقة.

ومن الشواهد على مواجهة ايران للغطرسة الاميركية بشكل مباشر وواضح: – كان الرد الإيراني الأولي على اغتيال الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني عبر استهداف قاعدة “عين الأسد” للاحتلال الأميركي في العراق بما يحمله ذلك من رسائل متعددة الاتجاهات.
-استهداف ايران لكيان العدو الإسرائيلي في هجوم بالطائرات المسيرة والصواريخ، مع ما لذلك من رسائل ردعية لـ”اسرائيل”وكل من يدعمها في العالم والاقليم وعلى رأسهم الإدارة الأميركية، بدون ان نشهد أي رد فعل إسرائيلي أميركي على ذلك، خشية من الرد الإيراني المفترض.

-2- العراق: استطاع هذا البلد من إفشال المشروع الأميركي والخروج بشكل كبير من التحكم الأميركي الذي حصل منذ احتلال العراق في العام 2003 بعد الإطاحة بالنظام السابق، ومن ثم انطلقت المقاومة العراقية وصولا الى تأسيس الحشد الشعبي العراقي بمواجهة الجماعات التكفيرية الإرهابية التي نشأت برعاية وتمويل من الإدارات الأميركية والأنظمة التابعة لها في المنطقة.

ومن ثم تجاوز العراق محاولات هز استقراره الداخلي عبر نشاط ما يسمى “المجتمع المدني” الذي استخدم في اكثر من دولة لتنفيذ أجندات أميركية وغربية، ومن مصاديق مواجهة العراق للقوة الأميركية الإسرائيلية هو مساندة المقاومة العراقية لغزة عبر استهداف المقرات الأميركية في العراق وسوريا والعديد من المواقع الإسرائيلية في داخل فلسطين المحتلة.

-3- سوريا: بنفس الاطار السابق استطاعت سوريا تجاوز الحرب الكونية التي شنت عليها لما يقارب الـ10 سنوات بدعم أميركي إسرائيلي واضح، ومن خلال نفس الأدوات التكفيرية التي انسلت الى الداخل السوري وبتمويل ودعم خليجي معلن، ورغم كل ذلك استطاعت سوريا بدعم ومساندة حلفائها من إفشال المشروع الأميركي، وهي ما تزال تواجه نفس الهجمة الأميركية التي تلبس لبوس الحصار الاقتصادي ولا شك ان الشعب السوري قادر على إفشال ذلك أيضا، ورغم كل ذلك واصلت سوريا دورها الفعال في قلب محور المقاومة ومساندتها لكل دوله وتياراته بكل الاشكال والوسائل المتاحة.

-4- لبنان: وانطلاقا مما سبق لا شك ان لبنان كان مثالا بارزا على إفشال كل المخططات الاميركية للسيطرة عليه(ولبنان قد يحتاج الى حديث مفصل اكثر في هذا الإطار)، فمنذ العام 1982 استطاع لبنان بتضحيات شعبه ومقاومته إجهاض كل الجهود الأميركية للسيطرة عليه وخطفه نحو المحور الصهيوني، وكانت “إسرائيل” أحد ابرز الأدوات الأميركية في هذا المشروع، ولا شك ان انتصارات لبنان لا سيما في العام 2000 و2006 على العدو الإسرائيلي ومن ثم في العام 2016 على العدو التكفيري، وإفشال كل محاولات التلاعب بالأمن الداخلي عبر إثارة الفتن والتظاهرات والحصار الاقتصادي، ينصّب بشكل واضح في إطار إفشال المخططات الأميركية الإسرائيلية التي حيكت ضد هذا البلد وشعبه ومقاومته، وصولا الى فتح الجبهة بمواجهة العدو بالتزامن مع “طوفان الأقصى” دعما لغزة وشعبها ومقاومتها.

-5- اليمن: هذا البلد طالما كان عصيا على التطويع الاميركي الاسرائيلي خاصة خلال السنوات الماضية حيث شنّ عليه عدوانا أميركيا سعوديا إماراتيا ضاريا في محاولة لتركيع شعبه، إلا ان النتائج واضحة للجميع فبعد اكثر من 10 أعوام على الحصار والقصف والجرائم المتواصلة بحق الشعب اليمني، خرج هذا الشعب قويا مناصرا ومساندا لفلسطين وفُتحت الجبهة بمواجهة العدو الأميركي والإسرائيلي دعما لغزة، فمُنعت كل السفن الإسرائيلية او المتجهة الى كيان العدو من الإبحار في مضيق باب المندب، ويتم استهداف كل سفينة تخالف الإنذارات التي توجه لها في هذا الاطار، بالإضافة الى استهداف اليمن لكيان العدو اكثر من مرة، مع التأكيد المستمر ان هذه الجبهة ستبقى مفتوحة طالما العدوان والحصار على غزة لم يتوقف.

-6- فلسطين: لا شك ان المقاومة الفلسطينية بكل فصائلها عصية على أي ردع إسرائيلي او أميركي وما يجري منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 هو أحد أبرز المصاديق على ذلك، فالإدارات الأميركية طالما عملت على إنهاء وشطب القضية الفلسطينية بدون جدوى او تحقيق اي تقدم على هذا الصعيد، بل إن هذه القضية سنة بعد أخرى تتفاعل وتتعزز في نفوس الشباب الفلسطيني والمقاومين في الأمتين العربية والإسلامية وبقية الاحرار في العالم.

ولا شك ان كل الأمثلة السابقة تجمعها قضايا مشتركة على رأسها القضية المركزية للأمة أي القضية الفلسطينية، بالإضافة الى رفضها للظلم والغطرسة الأميركية وترفض وجود الغدة السرطانية المزروعة في قلب الأمة والمتمثلة بكيان العدو الإسرائيلي.

-7- يبقى الإشارة الى ان الولايات المتحدة غير قادرة على محاصرة بعض الدول الكبيرة التي تعتبر نداً لها على مستوى العالم كالصين وروسيا على الرغم من كل المحاولات الأميركية لزعزعة استقرار هاتين الدولتين وتفريخ الملفات المزعجة في محيطها، كما حصل في الحرب الأوكرانية وتوريط روسيا فيها او الإيحاء دائما بإمكانية فتح ملف تايوان، وذلك يعود الى القدرات الهائلة لهاتين الدولتين وعدم رغبتهما بالانصياع للسياسات الأميركية، بالإضافة الى أنهما من الدول الكبرى على مستوى العالم في مختلف المستويات والصعد، بالإضافة الى روسيا والصين هناك مجموعة من الدول المقتدرة سواء في مجموعة “البريكس” او غيرها لا يمكن للإدارة الأميركية التعاطي معها إلا بجدية ووفقا لسياسات محسوبة.

فعدم القدرة الأميركية على العمل بحرية تامة في منطقتنا والعديد من مناطق العالم تؤكد ان القدرات الأميركية تتراجع وكذلك ردعها لا سيما بمواجهة قوى المقاومة، فأميركا اليوم ليست اللاعب الوحيد عالميا على الرغم من انها قد تكون ما زالت أحد أبرز اللاعبين إلا أن ذلك لا يعني قدرتها على فرض ما تريد بشكل مطلق هنا وهناك، وما سبق ان شرحناه يؤكد ذلك.

وكل ما سبق، يؤشر الى حدوث تغييرات جوهرية على مستوى العالم قد لا نلمس نتائجها اليوم بشكل واضح وجلي جراء إمكانات الولايات المتحدة ولكن هذا قد يفتح الباب امام الكثير من التساؤلات حول المستقبل وما يمكن ان يحصل على صعيد تآكل الردع الأميركي وإمكانية تراجع هذه الدولة بشكل فعلي امام تعاظم قدرات الدول الأخرى من جهة وفشلها في تحقيق سياساتها ومخططاتها التآمرية ضد الشعوب من جهة ثانية.

هذا كله رهن بالوقت والزمن وبما قد يحصل من تطورات في الداخل الأميركي مع بروز إشارات بين فترة وأخرى عن خلافات متراكمة بين الأطراف الداخلية وشرائح المجتمع الأميركي والتناقض بين بعض الولايات والدولة المركزية وصولا لما نشهده اليوم من اعتصامات في الجامعات ضد العدوان على غزة كتعبير واضح عن المزاج الشعبي الأميركي ضد السياسات الداعمة بشكل أعمى لإسرائيل”، فالأذرع المنتشرة للإدارة الأميركية في مختلف مناطق العالم كانت لها أهمية في إعطائها هذه القوة، وبالتالي عندما تفقد هذه الاذرع القدرة على الإنجاز هنا وهناك فهذا يعني ان القوة والردع وعوامل السيطرة بدأت بالتراجع، لكن مدى ونسبة هذا التراجع او الضعف لا يمكن تحديده اليوم بانتظار تجميع كل العوامل المؤثرة فيه داخليا وخارجيا.

 

المصدر: موقع المنار

قد يعجبك ايضا