تلاحم جبهات المواجهة

 

الفلسطينيون، سواء في غزة أم في القدس أم في الضفة الغربية وسواء كانوا في أراضي ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين أو في المخيّمات، يشكلون بأجمعهم جسداً واحداً، وينبغي أن يتّجهوا إلى استراتيجية التلاحم، بحيث يدافعُ كلُّ قطاعٍ عن القطاعات الأخرى، وأن يستفيدوا حينَ الضغطِ عليهم من كلّ ما لديهم من مُعدّات.
السيد القائد الإمام الخامنئي دام ظله الشريف | خطاب يوم القدس 7 أيار 2021

“تلاحم الجبهات” مفهوم أطلقه القائد الخامنئي في خطاب يوم القدس هذا العام، في السابع من أيار 2021. وهو ينطلق من الرؤية الاستراتيجية لدى القائد لضرورة وحدة الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين وعلى امتداد أراضيها كافة، وفي خارجها. يقارب المفهوم الشعب الفلسطيني كجسد واحد إذا تداعى له عضو تداعت له سائر الأعضاء، ويقوم على وحدة فلسطينيي القدس وغزة والضفة الغربية وسواء كانوا في أراضي ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين أو في المخيّمات. أما منشأ المفهوم فهو حالة التشتت التي عمل عليها العدو في رؤيته لتفكيك الشعب الفلسطيني عبر الفصل ما بين القطاعات: غزة والضفة وأراضي48، والتفرد بمواجهة كل منها على حدة وبطريقة تختلف عن الأخرى. الفلسطينيون في أراضي 48 يقيّدهم الاندماج المعيشي والجغرافي مع المواطنين الإسرائيليين. وفي الضفة الغربية، يعاني الفلسطينيون من تشرذم القوى إثر اتفاق أوسلو، والعزل والحصار ما بعد الانتفاضة الثانية عام 2000. أما فلسطينيو غزة فهم على بناء القدرات وتراكمها إلا أنهم محكومون بالإطار الجغرافي خارج المجتمع الإسرائيلي وافتقاد قوة التأثير عليه كما لو من الداخل.
ويقصد بالمفهوم تحديدًا: نظرة الشعب الفلسطيني كافة إلى التحديات والتهديدات الإسرائيلية التي تحيق بمنطقة أو حي أو فصيل أو تنظيم على أنه تهديد وخطر له بأجمعه، والتحرك على أساس كتلة واحدة بحيث يدافع كلّ قطاعٍ عن القطاعات الأخرى، ويقدم الدعم اللازم بكلّ ما لديه من عدة مادية ومعنوية بما يساهم في الضغط ويعرقل مخططات العدو، بل ويفشلها. ويتقوّم المفهوم بعدة عناصر تقدم استراتيجية واضحة ومتينة للشعب الفلسطيني في نضاله وجهاده لاستعادة أراضيه وحقوقه المسلوبة. وهذه العناصر هي: تعدد أنماط المواجهة، وتشتيت العدو في قراره وأولوياته، والدعم المتقابل، والردع المتبادل، والتأثير على المجتمع الإسرائيلي، وإعادة دمج فلسطينيي 48، وإعادة الأمل للفلسطينيين خارج غزة، وبناء معادلة جديدة تحمي الداخل المحتل.

تعدد أنماط المواجهة: تكامل الإمكانات والقدرات في ما بين مختلف القطاعات
مع كل استحقاق تعمل القوى المتواجدة على الأرض في كل قطاع على تفعيل إمكاناتها وقدراتها التراكمية القابلة للاستثمار بما يوجه دفعًا أكبر للمواجهة. فيستخدم كل قطاع الأدوات المتوفرة الخاصة به بحكم التوزع الجغرافي. بهذا، تلتحم التحركات المدنية في أراضي 48 مع أعمال الشغب والفوضى مع قوى “عصابات” الضفة مع العمل المسلح في غزة. يؤدي تعدد الأنماط إلى توزيع جهد العدو واضطراره لإدارة عدة أنواع من المواجهات في وقت واحد ما يؤدي إلى استنزافه.

 تشتيت العدو في قراره وأولوياته: إرباك حركة العدو وشل قدرته على تحديد الأولويات
إن التحرك في عدة جبهات ضد العدو يؤدي إلى تشتت تركيزه وتوزع مهامه بما يفقد معه السيطرة على مجريات الأمور، ويضعف مردود ونتاج العمل العدواني الذي يقوم به. والدخول في مواجهة شاملة مع العدو على الجبهات الثلاث من شأنه أن يستنزف قدرات العدو اقتصاديًّا وعسكريًّا ونفسيًّا، ويفقده التوازن في المواجهة المضادة لتعدد ساحات المواجهة. كما يؤدي إلى ارتباك العدو نتيجة الحاجة إلى تقييم تداعيات نتائج كل جبهة وضروريات المواجهة، وبالتالي توزيع قواه في أكثر من اتجاه، واستخدام موارده دفعة واحدة. ويؤكد فعالية العمل المتكامل ما حدث في معركة غزة، حيث اضطر العدو إلى استدعاء الجنود الاحتياط في شرطة حرس الحدود إلى مناطق الداخل الفلسطيني نتيجة شدة المواجهات مع الشبان الفلسطينيين العزل والاضطرار إلى إعلان الطوارئ فيها خوفًا من فقدان السيطرة عليها بالكامل. وقد وجد قادة العدو في تحركات الشباب الفلسطينيبن في المناطق الإسرائيلية تهديدًا يفوق تهديد الصواريخ.

الدعم المتقابل: التكامل بين القوى والجبهات
الدعم من مختلف القطاعات مع تعدد الأنماط يؤدي إلى مسار امتداد لحركة المواجهة تتكامل فيه القوى مع بعضها البعض ويقوى بعضها ببعض بما يعطي زخمًا أقوى لمواجهة التحدي أو الخطر، ويفشل المخطط الصهيوني في الاستئثار بمجموعة أو منطقة أو حي بالمراهنة على القدرة على كبت أي فعل مقاوم طالما أنه مجزأ. إن ما يهز إسرائيل في العملية العسكرية على غزة هو انتفاضة الشعب الفلسطيني في الضفة وأراضي 48 نصرة لغزة، والقيام بما أمكن من عمليات دهس واشتباكات ومواجهات مع المستوطنين ورشق بالحجارة وحرق للسيارات وإرسال رسائل تهديد للمستوطنين وغيرها من الإمكانات المتوفرة البسيطة لكن المرتفعة التأثير.

الردع المتبادل: التحرك بما يؤمن ردع العدو وتخفيف اندفاعه باتجاه قطاع من القطاعات
إن زعزعة الخط الخلفي لتحركات العدو الصهيوني يقوّض نزعة التغول والوحشية لديه. وعندما يدرك العدو أن الجبهة الداخلية مثلًا تتربص له ولن تسكت عن اعتداءاته في الضفة أو غزة، فإنه سيضطر إلى التهدئة والتراجع في حدة العمليات الهجومية. من ناحية أخرى، هزّت معادلة القدس-غزة إسرائيل وفق المحللين الإسرائيليين لأنها كرست مفهوم الساحة الفلسطينية الواحدة، وامتد أثرها نسبيًّا باتجاه تكريس معادلة غزة – الضفة، أراضي 48.  ومن هنا، كانت الدعوات في إسرائيل من كبار السياسيين والمحللين لضرورة وقف العملية العسكرية للتفرغ لتداعيات حرب الشوارع في أراضي 48 قبل التحول إلى حرب أهلية وتهديد وجود الدولة برمتها.

 التأثير على المجتمع الإسرائيلي: تكريس مفاهيم الهزيمة واليأس بكل العدة الموجودة المادية والمعنوية
إن وحدة الشعب الفلسطيني حول القضية الفلسطينية وأحقيتها بالتوازي مع الأزمة الأمنية الإسرائيلية يدفع باتجاه خلق تيار إسرائيلي شعبي مهزوم. ما يمكن أن يقدمه توحيد الجبهات أعمق من مجرد تلاحم القدرات القتالية والصاروخية والشعبية وتعطيل الأعمال وشلل الدولة وخسائر اقتصادية ومادية. إن توحيد الجبهات يعيد إحياء القضية الفلسطينية الحاضرة في قلب الجيل الشاب الصاعد، وبالتالي يوجه ضربة وجودية للكيان الذي عمل على عقود من الزمن على محاولات طمس القضية وحرف بوصلة الصراع عنها. الأمر الذي يعني خسارة كل المقامرين والمغامرين بمصير الشعب الفلسطيني ووجود فلسطين. لقد كثرت مؤخرًا الاعترافات بالهزيمة على لسان المحللين الإسرائيليين، والأخطر على لسان المثقفين والأكاديميين منهم. إن الرعب الذي رافق وحدة الحركة في الساحات الفلسطينية الثلاث كان دافعًا للعديد من هؤلاء للاعتراف بالهزيمة وبأحقية الشعب الفلسطيني بالأرض والدعوة من قبل البعض للعودة إلى الدول الأوروبية.

إعادة دمج فلسطينيي أراضي 48: استثمار الوجود الفلسطيني في المجتمع الإسرائيلي في نصرة القضية الفلسطينية
إن الفلسطينيين في أراضي 48 هم فلسطينيون وليسوا “عرب إسرائيل”. لقد آن الوقت لتقويم المصطلحات ودعم هؤلاء الذين أثبتوا بجدارة أنهم أبناء الأرض. لقد أظهرت الأحداث في غزة والقدس أن شرارة الوهج المقاوم الرافض للتطبيع وطمس الهوية الفلسطينية مؤشر قوي على ضرورة التشبيك مع فلسطينيي 48، وتوجيه قدراتهم الكامنة باتجاه خدمة القضية ونصرة إخوانهم من الفلسطينيين في باقي الأراضي. التلاحم بين الجبهات هو طريق ضروري وحاسم باتجاه استعادة هؤلاء الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال لعزيمتهم وشعورهم بهويتهم.

 إعادة الأمل للفلسطينيين خارج غزة: تراكم الثقة بالنصر والقدرات والإمكانات القتالية
استثمار نتائج عملية “سيف القدس” في إلحاق الأضرار الجسيمة بالعدو الإسرائيلي على الصعيد العسكري والأمني والاقتصادي والنفسي والاستراتيجي يقع على قدر كبير من الأهمية لتنمية الأمل بالقدرة على المواجهة وتغيير المصير. يساهم التلاحم الحالي في الحفاظ على الثقة بالقدرات التي تكشفت في المواجهة الأخيرة، وتحديدًا قدرات الشعب الفلسطيني بالتحامه ووحدته. ومن ثم العمل على تنمية الثقة في القدرات الذاتية باتجاه كسر حواجز الخوف والرهبة في مواجهة أي عمل عدواني بلحاظ وجود جبهة في القطاع الآخر حاضرة للتدخل وتعديل الردع وسن معادلة جديدة.

بناء معادلة جديدة تحمي الداخل: ترسيخ معادلات الاشتباك الجديدة تحت عنوان “تلاحم الجبهات”
إن استفادة الجبهات الثلاث من الردع المتبادل ونموذج الردع الموضعي، وتعزيز قدرات التحدي ومواجهة التفوق لدى العدو تغيّر القواعد القائمة، وتؤثر في معادلات الاشتباك الجزئية الخاصة بقطاع دون آخر؛ لتصبح المعادلة الحسم هي معادلة “كل فلسطين” عبر دمج كل الجبهات وإلغاء كل الفواصل وتحديد البوصلة بدقة باتجاه فلسطين. الأمر الذي من شأنه أن يضعضع الكيان من الداخل، ويقيد أعماله العدوانية والاستيطانية، ويدفع به إلى التراجع أمام القوة الموحدة الجديدة القادرة على فرض المعادلات الجديدة وتغيير موازين القوى ورسم مصيرها.
(*) مركز دراسات غرب آسيا

قد يعجبك ايضا