خطاب الولاء من واشنطن إلى الكنيست
محمد عبدالمؤمن الشامي
تصريح دونالد ترامب بأنه “وافق على إلقاء خطاب في الكنيست إذا أرادوا ذلك” ليس مجرد جملة عابرة في سياق إعلامي، بل إعلان صريح عن اندماج غير مسبوق بين السياسة الأمريكية واللوبيات الصهيونية التي تمسك بخيوط القرار في واشنطن. هذه الكلمات تكشف بوضوح أن ترامب لا يسعى فقط إلى العودة إلى المسرح السياسي، بل إلى تقديم أوراق اعتماده مجددًا أمام قوى النفوذ المالي والإعلامي الصهيوني التي ساهمت في صعوده وأعادته إلى البيت الأبيض.
فالكنيست بالنسبة لترامب ليس مجرد منبر سياسي إسرائيلي، بل منصة رمزية تمثل قلب المشروع الصهيوني الذي يتحكم باتجاهات السياسة الأمريكية منذ عقود. إن قبوله التحدث أمامه — حتى قبل أن تُوجَّه إليه الدعوة رسميًا — يعكس طبيعة العلاقة غير المتوازنة بين واشنطن والأرض المحتلة، حيث يتحول البيت الأبيض إلى تابعٍ في خطاباته، والكنيست إلى مركزٍ يُملى منه ما يجب أن يُقال.
هذه الخطوة، في جوهرها، ليست مبادرة “دبلوماسية” كما يحاول بعض الإعلام الأمريكي ترويجها، بل رسالة مزدوجة موجهة إلى الداخل الأمريكي والخارج معًا. في الداخل، يريد ترامب طمأنة شبكات التمويل الصهيوني بأن “التحالف الأبدي” ما زال قائمًا، وأنه مستعدّ لتجديد التزامات الإدارة الأمريكية تجاه الكيان المتهالك سياسيًا واقتصاديًا. وفي الخارج، يريد إعادة تفعيل أدوات الضغط والتطبيع في الشرق الأوسط، وتوجيه الأنظار مجددًا نحو ما يسمى بـ”إنجازات السلام” التي لم تكن سوى غطاء لتوسيع الاستيطان وتصفية القضية الفلسطينية.
لكن الأهم من كل ذلك أن تصريح ترامب يكشف عن الوجه الحقيقي لتحالف المال والسياسة والإعلام في أمريكا. فكلما ضعفت هيبة الولايات المتحدة في العالم، اشتدّت حاجتها إلى دعم اللوبيات الصهيونية داخلها. هذه اللوبيات — من أيباك إلى شبكات وول ستريت الإعلامية والمالية — هي من تصنع صورة المرشح القادر على الحكم، وتحدد سقف سياساته في الشرق الأوسط بما يخدم بقاء الكيان المحتل واستمرار تدفق المساعدات العسكرية والاقتصادية إليه، رغم أزماته المتصاعدة وانهياره الداخلي الذي كشفت عنه الحرب على غزة.
إن ترامب، بخطابه المرتقب في الكنيست إن تمّ، لن يكون رئيسًا لأمريكا بقدر ما سيكون ناطقًا باسم “المجمع الصهيوني الأمريكي”، الذي يرى في الشرق الأوسط سوقًا للمصالح ومختبرًا للهيمنة. وهو يدرك أن إظهار الولاء للكيان المحتل هو مفتاح البقاء السياسي في واشنطن، وأن اللوبيات الصهيونية التي تمتلك المال والإعلام قادرة على رفع أو إسقاط أي زعيم في الانتخابات.
من هنا، يبدو أن ما يقدمه ترامب اليوم ليس مجرّد عرض سياسي، بل صفقة جديدة عنوانها: الولاء الكامل مقابل الدعم الانتخابي. إنه استثمار في “إسرائيل” المنهارة اقتصاديًا، ولكنه أيضًا استثمار في “وهم القوة” الأمريكية التي لم تعد تملك قرارها المستقل، بعدما تحوّل البيت الأبيض إلى مكتبٍ سياسيٍّ آخر في خدمة اللوبي الصهيوني.
وفي المحصلة، فإن تصريح ترامب لا يمكن قراءته إلا في سياق محاولة إنعاش منظومة النفوذ الأمريكي ـ الصهيوني التي تتهاوى أمام واقع المقاومة المتصاعد في المنطقة، التي أربكت حسابات واشنطن وتل أبيب معًا. فبينما يسعى ترامب لإرضاء الكنيست بالكلام، يكتب محور المقاومة معادلة جديدة بالفعل، عنوانها أن زمن الخضوع انتهى، وأن من يريد أن يخاطب الشرق الأوسط اليوم، عليه أن يخاطبه من موقع الندّ لا التابع.
لقد بات الكيان المحتل اليوم عبئًا ثقيلًا على اللوبيات الصهيونية نفسها في واشنطن، بعدما تحوّل من “أداة نفوذ” إلى “أزمة دائمة” تستنزف سمعة أمريكا واقتصادها وصدقيتها أمام العالم. لم يعد الدفاع عنه صفقة رابحة، بل عبء سياسي وأخلاقي يُثقل كاهل حلفائه، حتى داخل المؤسسات الأمريكية ذاتها. من هنا، يظهر ترامب في خطوته هذه كمُنقذ محتمل لهذا الكيان المتهالك، يسعى لإعادة تسويقه سياسيًا ودبلوماسيًا عبر خطابٍ في الكنيست يُعيد إحياء الوهم القديم بأن التحالف الأمريكي ـ الصهيوني ما زال صلبًا.
لكن الحقيقة هي أن هذا التحالف يترنّح، وأن محاولات ترامب لإنعاشه ليست سوى رقصٍ على حافة الانهيار. فحين يُصبح رئيسُ أقوى دولة في العالم مستعدًا لإلقاء خطابٍ في برلمان كيانٍ يعيش على المساعدات، ندرك أن ميزان القوة قد انقلب، وأن أمريكا لم تعد تملك سوى أوراق الولاء للنفوذ الصهيوني الذي يتحكم بمسارها من الداخل.