صحيفة الحقيقة العدد”410″:القول السديد :دروس من محاضرات السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي يحفظه الله

القول السديد

حريتنا دينٌ ندين به، نابعٌ من توحيدنا لله تعالى، وعزتنا إيمان، وكرامتنا قيم، ولا يمكن التفريط بأيٍ من ذلك في مزاد المساومات السياسية

كيف نصحح النظرة للمسؤولية؟

مع تعاقب الزمن تغيَّرت النظرة إلى المسؤولية العامة تغيراً كبيراً في الذهنية العامة، فأصبحت مغنماً، في تصور الكثير من الناس أنه يرغب ويتمنى أن يصل إلى موقع من مواقع المسؤولية، أو أن يتربع في منصبٍ معين، لماذا؟ ليحظى بالمال، ليحظى بالثروة، ليتمتع بالسلطة باعتبارها موقعاً للقوة، والسيطرة، والتغلب، والتحكم، وتنفيذ ما في النفس من رغبات وأهواء، أصبحت النظرة العامة إلى السلطة وإلى المنصب كمغنم، ومكسب شخصي، وموقع لتعزيز النفوذ أو تعزيز السيطرة للإنسان؛ ليُنَفِّذ رغباته، وليكون في موقع القوة والقدرة والثروة، هذه النظرة السلبية جدًّا إلى المنصب، إلى المسؤولية، إلى مواقع المسؤولية في أي مستوى كان، هي رهيبة جدًّا، رهيبة وخطيرة للغاية، خطيرة للغاية، ولا بدَّ لأمتنا الإسلامية أن تسعى لفهم منهجية الإسلام في كيفية إقامة العدل في الحياة، وما تتطلبه هذه المسؤولية من مواصفات، من معايير، من أسس، من مبادئ، من قيم، وأن تنطلق على ضوئها لتصحح وضعيتها المؤسفة جدًّا، وضعية المسلمين اليوم مؤسفة جدًّا، ظلم في الداخل، ظلم انتشر إلى حدٍ كبير: ظلم في المجتمع، ظلم من الحكومات والأنظمة، وظلم من الخارج، ظلم كبير من أعداء الأمة الإسلامية، من الأمريكيين والإسرائيليين ومن معهم، فتتراكم حالة الظلم، وتتنوع المظلومية، حتى يكاد العدل أن يغيب من واقع الحياة، ويعيش الناس الشعور بالمأساة، والشعور بالألم، وكثرة المظالم التي تتكرر وتحدث من هنا أو هناك.

في الإسلام نتعلم أنَّ المسؤولية في أي مستوى كانت، من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى، يعني: من وأنت مسؤول عن عمل في إطار مجموعة، أو في نطاق صغير، بل حتى في نطاق الأسرة، ما يتعلق بالوضع الأسري والمجتمعي وغير ذلك، ولكن هذا سنتحدث عنه- إن شاء الله- لاحقاً. في أي مستوى من مستويات المسؤولية تحملت مسؤولية، يجب أن تنطلق من منطلقك الإيماني كمؤمن، وأن ترسِّخ في نفسك وفي وجدانك أنَّ هذه المسؤولية هي كاسمها مسؤولية، عملٌ تحملت فيه مسؤوليةً أمام الله /، وأنَّ الله سيحاسبك وسيجازيك، وأنه رقيبٌ عليك، وعلى أعمالك، وعلى تصرفاتك، وأنك تحملت التزاماً إضافياً في التزاماتك الإيمانية والدينية، فتتحرك لتؤدي هذا الالتزام الديني بما يرضي الله /، وتحرص على هذا الأساس: أن تتجه إلى رضا الله /، وأن يكون هو همك الأكبر: كيف تحصل على رضا الله، وكيف تقي نفسك في أدائك لهذه المسؤولية من سخط الله وغضبه وعذابه، وأن تدرك أنَّ الله / لن يتساهل معك ويهملك، ويترك لك المجال تفعل ما تشاء وتريد؛ لأنك أصبحت تحمل ذلك الاسم، أو في ذلك الموقع من مواقع المسؤولية، أنت مدير، أنت مسؤول، أنت مشرف، أنت وزير، أنت رئيس… بأي مسمىً وبأي عنوان، أنت خاضعٌ لرقابة الله /، وهو سيجازيك بما عملت، وأن ينطلق الإنسان المؤمن عندما يتحمل مسؤوليةً ما، أو يكون في موقع من مواقع المسؤولية، من المنطلقات الإيمانية، ويستفيد من كل النماذج التي قدَّمها القرآن الكريم.

نماذج قرآنية في تحمل المسؤولية

القرآن الكريم قدَّم نماذج راقية جدًّا، من أرقى النماذج التي قدَّمها القرآن الكريم: نبي الله سليمان عليه السلام، الذي كان على مستوى عظيم من التمكين الإلهي، الله مكَّنه تمكيناً عظيماً، هو سأل الله أن يعطيه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، والله أعطاه ملكاً عجيباً، ومكَّنه تمكيناً عجيباً، وقدَّم في سورة النمل دروساً مهمة عن نبي الله سليمان عليه السلام، كيف كانت روحيته الخاشعة لله، الخاضعة لله!

البعض من الناس قد يشعر بالطغيان، قد يشعر بالزهو، بالعجب بالنفس، قد يستشعر في نفسه القدرة؛ لأنه أصبح في منصب معين، أو موقع من مواقع المسؤولية معين، أصبح يقال له: مدير أو مسؤول، أو يقال له: مشرف، أو يقال له: رئيس، أو يقال له… أي مسمى من هذه المسميات، ويرى نفسه محاطاً في إطار مسؤوليته بظروف معينة، فتكبر نفسه لديه أكثر وأكثر، تكبر وتكبر وتكبر، يشعر يوماً بعد يوم بالمزيد من الغرور، يعتبر نفسه صاحب الإنجازات، يعتبر نفسه أنه في الموقع المهم… وهكذا تعظم عنده حالة الغرور، وحالة الكبر، وحالة العجب، والآفات السلبية التي تدمِّر إيمان الإنسان، وحتى إنسانية الإنسان؛ فيصبح- مع الوقت- يعيش حالة الطغيان، حالة الطغيان في نفسه، في مشاعره، في سلوكه، في طريقته في أداء المسؤولية، وهذه حالة خطيرة جدًّا.

النبي سليمان نموذج العدل والرفق

نبي الله سليمان عليه السلام الذي مكَّنه الله تمكيناً عجيباً، وسخَّر له الجن والإنس والطير، وسخَّر له الرياح، ومكَّن له تمكيناً عجيباً، لم يسبق له- ربما- مثيل في تاريخ البشرية، كيف كان خاشعاً لله وخاضعاً لله، وكان كل همه أن يكسب رضا الله، وأن يعمل العمل الصالح، وكان يدرك أن كل ما هو فيه من تمكين، قيمته في أن يعمل فيه بالعمل الصالح، وأن يسعى لمرضاة الله /، فلم يشعر بالغرور، لم يشعر بالكبر، لم يشعر بالعجب النفسي، لم يخرج عن حالة الخشوع والخضوع لله /، وسعى إلى العمل لإقامة العدل على أرقى مستوى، لدرجةٍ ينبهر منها الإنسان غاية الانبهار.

يحكي القرآن الكريم قصته هو وجنوده، وهم يتحركون يقول الله /: {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ}[النمل: من الآية 18]، واد فيه نمل، {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النمل: 18-19]، هو وجنوده جنود بأعداد هائلة وكبيرة، وهم يتحركون، والله / من عجيب تمكينه لنبيه سليمان عليه السلام أن يسمع هذا النمل، وأن يعرف لغة تخاطبه، هذا من التمكين العجيب الذي وصل إليه في ملكه، ومنحه الله / إياه، تمكيناً عجيباً جدًّا، فسمع النملة، كانت هذه النملة تنادي بقية النمل للدخول إلى مساكنهم؛ حتى لا يحطمهم جيش سليمان عليه السلام بدون شعور، كان هذا هو الملفت: بدون انتباه، بدون تعمد، النملة- وهي النملة- كانت تأمن من نبي الله سليمان وجيشه أنه لا يمكن أن يتعمدوا ذلك النمل بالدهس عليه، وبالظلم له، فهم مطمئنون إلى عدله، حتى النمل اطمأنت إلى عدله، وإلى عدل جيشه، وأنهم لن يتعمدوا تعمداً، قد يحصل أن يدهسوا على هذا النمل، لكن بدون تعمد؛ أمَّا وهم يشعرون لا يمكن.

هذه العدالة العجيبة في ملك نبي الله سليمان عليه السلام التي كان فيها النمل يطمئن إلى أنه لا يمكن أن يظلم عمداً، وأن يستهدف عمداً، درسٌ مهمٌ جدًّا لعالمنا الإسلامي، لمجتمعنا الإسلامي، للذين آمنوا عندما يتحركون لإقامة العدل في أي مجتمعٍ من المجتمعات الإسلامية، أن يروا هذه النماذج العظيمة جدًّا، العالية، التي لا مثيل لها في إقامة العدل.

النبي سليمان.. التفقد وحسن الإدارة

في نفس الوقت يحكي الله / قصته كيف تعامل مع الهدهد، {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ}[النمل: من الآية 20]، يتفقد وهو يتابع للمسؤوليات، والقيام بالمسؤوليات، ومن يغيب عن عمله، عن دوره، كيف كان تعامله مع الهدهد؟ {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[النمل: 20-21]، كان تعامله حازماً في إطار أن يضبط المسؤوليات والأعمال والواجبات- وفي نفس الوقت- لا يخرج عن دائرة العدل، ليس بالمتسرع، حتى عندما أتى الهدهد وحكى عليه قصة مملكة سبأ وتلك المرأة، {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النمل: من الآية 27]، يتحقق، يتبين، لا يستعجل باتخاذ الإجراءات، يحرص على أن تكون الإجراءات صحيحة، ومبنية على معلومات مؤكدة، ومعلومات صحيحة، نموذج عظيم، بقية الآيات في سورة النمل فيها دروس عجيبة جدًّا عن نبي الله سليمان عليه السلام.  [ مقتبس من محاضرة الرمضانية السادسة عشر 2020م]

قد يعجبك ايضا