لليمن وعنه

هذه مقالة في حبّ اليمن! أصرّح بالسبب الذي يدفعني لكتابة المقالة في أوّلها، رغم أنني لم أعتد ذلك، ولكن أحاول أن أكون مجارياً للوضوح اليمنيّ في الموقف، لا أكثر ولا أقل.
اتفاق وقف إطلاق النّار الذي أعلنت عنه الولايات المتّحدة على لسان ترامب مع الحكومة اليمنيّة (جماعة «أنصار الله»)، لم يكن مفاجئاً بالنّظر إلى سياق الأحداث، ويتماشى مع ما كتبته في مقالات سابقة عن «كيف يفكّر ترامب؟»، يضاف إليه هنا «كيف تفكّر أنصار الله؟».

فحرب إسناد «الطوفان» بعنوانها اليمني «الفتح الموعود والجهاد المقدّس» امتداد للمعركة التي يخوضها اليمن مع وكلاء أميركا منذ عشر سنوات، الذين استهدفوا فيها البشر والحجر والزّرع والضّرع، لكنهم فشلوا في البر والبحر والجو. استمرّ اليمن بوتيرة متصاعدة في الرد، وفي تطوير بنيته العسكريّة، ومن «بركان»، «سعير»، «صمّاد»، «ذو الفقار»، وصولاً إلى «فلسطين-2»، قدّم اليمنيّون ترجمة عمليّة على ثبات الموقف، وإفشال أهداف خصومهم.

في محاضرة له -قبل أشهر- بعنوان «الرحلة اليمانيّة إلى الديار اليافاويّة»، قدّم الباحث الفلسطينيّ الدكتور خالد عودة الله أبعاد إطلاق اليمن مُسيّرته «يافا» نحو يافا المحتلّة، ضمن سياق أفكار تجريديّة، مبنيّة على مفهوم الهندسة العكسيّة، بأن تدرك ما يريده العدوّ ثم تعكس أهدافه، وتكون بتطوير التّقنية ضمن إمكانات محدودة، وخلق تقنيات بسيطة، لكنها فاعلة أمام التقنيات المعقّدة، وأن تبحث عن الأفكار داخل الأشياء. يقول عودة الله إن قوى النهب والاستعمار قامت بهندسة مبدأ الهيمنة من الجو أول الأمر في بلادنا، وتحديداً في اليمن، على يد البريطانيين قبل نحو 100 عام.

البعد الفلسفي تلخّص عند الاستعمار في أن العرب ينظرون إلى السماء كقوة عليا (في رمزيّة لله)، ولا يبدأ كسر هؤلاء العنيدين، إلا بأن يأتيهم الموت من السماء على شكل غارات وقنابل، ويتابع قوله إن تاريخ فلسطين من الأعلى، هو التاريخ الذي أراده الاستعمار أن يكون لها، في إشارة إلى رحلة المنطاد قبل أكثر من قرن، فوق فلسطين، وما ذكره الصهاينة في أدبيّاتهم عنها، في أنها منحتهم صوراً من السماء «للأرض الموعودة».

يأتي هنا دور الهندسة العكسيّة، وما تحمله من أفكار تجريديّة وعمليّة لتقول إن رحلة المُسيّرة «يافا» وتحليقها لمسافة 2600 كيلومتر، ربّما تكون الأطول لمُسيّرة بهدف أداء غرض عمليّ ما، لا لتحقيق رقم قياسي فقط، وفيها بعد روحيّ يتعلّق بمسراها نحو الأرض المحتلّة، كأنها تعيد الاعتبار للعربيّ ورمزيّة السماء لديه. يستخدم عودة الله تعبير الدخول إلى غرفة نوم الاستعمار، في يافا المحتلّة (تل أبيب) دون غيرها من مراكز العدو الصهيونيّ، يقطنها مهندسو الهيمنة الجويّة وصانعو تقنياتها، وفي وصول المُسيّرة «يافا» دون قدرة على اعتراضها، هزيمة رمزيّة للعدو، وشعور لديه بعدم الأمان.

بل أكثر من ذلك؛ أن تركيز العدو في السنوات الأخيرة كان موجّهاً نحو تأمين الدفاع الجويّ وتطويره ليكون مهيمناً هو الآخر، لكنّ المُسيّرة «يافا»، وصاروخ «فلسطين-2»، ومثلها مُسيّرات حزب الله (التي ضربت منظومات القبة الحديديّة ومنطاد «تل شميم» المفترض أنهما موجودان لكشف كل ما يطير)، والصّواريخ المنطلقة من غزّة، رسّخت من شعور العدو بالفشل. فامتلاكنا للتقنيّة ضمن إمكاناتنا المحدودة يعطّل تقنيات العدو المعقّدة.

يضرب خالد عودة الله مثال المُسيّرات الإيرانيّة خلال عملية «الوعد الصادق 1»، ساخراً ممّن نعتها بأنها بطيئة، إذ هنا يكمن سرّ قوّتها. الفكرة هنا أن زيادة سرعة المُسيّرة، يعني وجوب تصفيحها بمواد معدنيّة أكثر، كي لا تتفتّت في الجو أثناء طيرانها، لكن هذا التصفيح يجعلها عرضة للانكشاف أمام رادارات العدو المتطوّرة، ولذلك يكون تصميمها للطيران بسرعات بطيئة سبباً لعدم تصفيحها، أي عدم انكشافها أمام الرادارات. إنّ أثر الهندسة العكسيّة يؤتي ثماره هنا، في أن العدو يضطر إلى التشويش وقطع الخدمات التقنيّة التي يُعتبر مزوّداً لها كخدمة GPS.

ضمن ما سبق، يمكن فهم كيف نجح اليمنيّون في ضرب مطار اللّد (بن غوريون) قبل أيّام، وتجاوز منظومات القبّة الحديديّة، «حيتس»، «مقلاع داود» و«ثاد». منظومة «ثاد» التي تمثّل أفضل ما أنتجته تقنية الدفاع الجويّ عند أميركا، المكلفة جدّاً والتي بيعت لدول مثل الإمارات والسّعوديّة، لم تنجح في صدّ الصاروخ اليمنيّ، وبحسب ما يقوله العسكريّون إن سرعة صواريخ منظومة «ثاد» تبلغ نصف سرعة صاروخ «فلسطين-2» الفرط صّوتي والتي تصل إلى نحو «16 ماخ». لحظة ضرب المطار مثّلت ذروة الفعل اليمني، المبادر في الدخول كجبهة إسناد وازنة بعد «الطوفان»، وفي استئناف ما بدؤوا فيه سابقاً، نيابة عن جبهة المقاومة، بعد أن عادت حرب الإبادة في غزّة، وضمن سياق متدرّج في التصعيد، أعلن اليمنيون عنه في ستّ مراحل، وصلت إلى فرض الحظر الجويّ الشّامل على الكيان الصّهيونيّ.

الأمر ليس بسيطاً أبداً، أنت تضع نفسك في مواجهة مباشرة مع رأس الهيمنة، الولايات المتّحدة، قمت فيها بإفشال عمليّة ما سمّوه «حارس الازدهار» لتأمين السّفن الغربيّة والصهيونيّة، ثم دخلت في صدام مباشر مع رمز الهيمنة في البحار، أي حاملات الطائرات، وتسبّبت في سقوط طائرتَي F18، وثالثة قبل أشهر، ولم تمنح الأميركيين أبداً فرصة أن يكون لهم بنك أهداف عسكريّة واضح المعالم، فعيون أميركا في السّماء (طائرات MQ9) جرى إسقاطها بوتيرة ثابتة، وبات ضربها أمراً اعتياديّاً.

كان يكفي اليمن أن يفاخر بإسناده الشّعبي وفعالياته الداعمة لوقف الحرب على غزّة، وهي الأضخم على مستوى العالم بالمناسبة، لكنه ذهب أبعد من ذلك بكثير، ليفرض على أميركا نفسها اتفاقاً يترك الكيان الصهيونيّ وحيداً أمام الصواريخ اليمنيّة.

تلعب الجغرافيا السياسيّة وبعد المسافة دورهما هنا، فالعدو لا يستطيع شنّ عمليّة برّية في اليمن، بل ليست لديه القدرة على شنّ عدوان يوميّ جويّ، يتطلّب إمداد الطائرات بالوقود في منتصف المسافة إلى اليمن، بل ليست لديه القدرة الماديّة لعمل كهذا، وخلال عام ونصف عام لم يصل إلى اليمن إلا في ثلاث مرات وبتنسيق ودعم كامليْن من الولايات المتّحدة، ثم إنه أيقن أن التصعيد مع اليمنيين لن يُقابل إلاّ بتصعيد أكبر. ضرباته الأخيرة على الحديدة وصنعاء لم تستهدف إلا بنية تحتيّة مدنيّة، أي إنّها ضربات فاشلة بالمقياس العسكري، فالهدف المعلن كان القضاء على قدرات «أنصار الله»، ولم ولن يحدث ذلك، ولنا أن نطرح سؤالاً بسيطاً: ماذا لو أطلق اليمنيون خمسة أو عشرة صواريخ دفعة واحدة؟

صحيح أن العدوان الأخير على الحديدة ثم صنعاء تسبّب بخسائر كبيرة، لكن ما لا يعلمه العدو أن هذه المدن لم تأخذ اسمها من فراغ. صنعاء -على ما يروي ياقوت الحموي في معجم البلدان- كان اسمها قديماً «أزال»، فلمّا وافتها الحبشة، رأوا مدينتها فوجدوها مبنية بالحجارة، فقالوا: هذه صنعة أي حصينة، فسُمّيت صنعاء بذلك. أمّا الحديدة، فقيل إنها أخذت اسمها عن سيّدة كبيرة السنّ، اسمها حَديدة، امتلكت استراحة على شاطئ البحر الأحمر، وكانت مقصداً للزوّار والعابرين والصيادين، قبيل تأسيسها.

المدينة الواقعة أقصى غرب اليمن، تشرف على البحر الأحمر، كحال غزّة؛ مشرفة على البحر الأبيض أقصى غرب فلسطين، وللمدينتين حكايات عن صد العدوان وهزيمته. ربّما من الصواب أن تأخذ المدينة اسمها عن عزيمة أهلها، فما لا يعلمه العدوّ، أن عدواناً مثل استهداف خزانات النفط فيها، ومنظر النيران المشتعلة، لن يزيد اليمنيين إلا إصراراً، لأن الحديد مع النار يصير فولاذاً!

أعاد اليمنيون كتابة تاريخ بلادنا، بعيداً عن الصّور النمطيّة الساذجة، فاليمن ليس قبائل وأرضاً جرداء، ولم يبدأ تاريخه بانخراطه في محور المقاومة، بل هو بلد يسعى دوماً منذ القديم إلى أن يكون مستقلاً. البحر الأحمر أيضاً، ليس مجرّد تجمّع للشعاب المرجانيّة، بل مجال حيوي استعاد معناه بأثر رجعيّ، وأعاد اليمنيّون فيه الاعتبار لمفاهيم الجغرافيا السّياسيّة. الأهم من هذا كله، أن اليمني عربيّ قحّ صفة ودماً، أفعاله كانت وما زالت مصدر قلق وإزعاج لقوى الهيمنة والنّهب، يصدمها بهندسة عكسيّة وحكمة يمانيّة.

محمد خالد الإثنين 12 أيار 2025 * كاتب عربي من الأردن

قد يعجبك ايضا