ما وراءَ تمديدِ الهُدنة فترةٌ ثالثةٌ ؟

تداخلت عواملُ عِدَّةٌ وراءَ نجاح مفاوضات تمديد الهُدنة، حتى أفضت إلى مَدِّ عُمُرِها شهرَينِ جديدَينِ، هذه السطورُ لا تقدم قراءةً تحليليةً صرفةً، هي إلى ذلك تكشفُ معلوماتِ الساعات الأخيرة ورسائل التفاوض بين اليمن من جهة وقوى العدوان من جهة أُخرى، كما تورد مواقفَ لثلاث شخصيات وازنة وَتقفُ عند حسابات الجبهة الوطنية من تمديد الهُدنة وأهداف الدفع الأمريكي تجاه تمديد الهُدنة لفترة ثالثة أملت أن تكونَ أطولَ من الفترتين السابقتين معاً.

حساباتُ الجبهة الوطنية

الهُدنةُ في الشهر الخامس لها دونَ معادلةٍ جديدةٍ على طاولة التفاوض، الصورةُ لا تحتاجُ كثيرَ شرحٍ، صنعاءُ رأت مصلحةً في التمديدِ وَقَصَرَتْه على شهرَينِ حاسمينِ، وَرفضت أكثرَ من ذلك تحتَ سقفِ حسابات وطنية صرفة، وعضو المجلس السياسي الأعلى محمد النعيمي يكشفُ عن رفض قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي محاولاتٍ تجاه تمديد الهُدنة لستة شهور متتابعة “بنفس الشروط السابقة وَالالتزامات”، وَفي رده عن العوامل التي أفضت إلى تمديد الهُدنة لشهرين فقط يشير النعيمي إلى أن “الموافقة فرصة أخيرة أمام تحالف العدوان تهيئُ للتوصل إلى سلامٍ شامل”.

ما جَسَرَ الهُوَّةَ بين صنعاء وعواصمِ قوى العدوان، هو وصولُ الوفد العُماني، وهذا يعني أن أمريكا قد بعثت وفداً عُمانياً رفيعَ المستوى لمهمةِ إحراجِ القيادة وتمديدِ الهُدنة مع وعود بحلحلة المِلف الاقتصادي فكان أن رأت القيادةُ تمديدَ الهُدنة فترةً ثالثةً تطلبُها في المقام الأول ترتيباتٌ يمنيةٌ في أكثرِ من ميدان، بحسب ما يفيد للمسيرة نائب رئيس الوفد المفاوض، الفريق جلال الرويشان، بأن “تحريرَ الأرض وحمايةَ الشعب واستقلال القرار السياسي ثوابتُ لا يمكنُ تحقيقُ السلام دونها، وأهداف الصمود وَالمقاومة ومواجهة الوَصاية واضحةٌ والقبول بالهُدنة يأتي في هذا السياق”.

المحسومُ هُنا أن قرارَ إطالة عمر الهُدنة كان يمنيًّا، وَالتحكُّمُ بمسار التفاهمات ونتائجها يثبتُ أن الجبهة الوطنية تشتري الوقت والهدوء، وتواصل إرغام تحالف العدوان في الملف الاقتصادي من جهة ومن أُخرى تحسين تنفيذه الالتزامات في المِلف الإنساني، وأن ثمة جديدًا في هذا المِلف تمثَّلَ بإتاحة وجهات أُخرى أمام رحلات مطار صنعاء وعدم تقييد وصول السفن إلى موانئ الحديدة، وهذا بعض ما أشار إليه أمين سر المجلس السياسي الأعلى، الدكتور ياسر الحوري، حين أكّـد للمسيرة أن “تقديرات القيادة بشأن الهُدنة دقيقة وحسّاسة، وتولي المصلحة الوطنية العليا الأولوية”.

ويضيف الحوري إلى ذلك ما تَعُــدُّه صنعاءُ حالةً مبدئيةً، أن “الذهابَ لتمديدِ الهُدنة تأكيدٌ لمواقفنا الساعية لرفع المعاناة عن الشعب والمُنحازة للسلام المُشرف”.

تجري على ألسنة من تحدثوا لـ “المسيرة” نصيحةُ صانع السياسة ومتخذُ القرار في صنعاء، إلى معسكر العدوان، مفادُ النصيحة الأخذُ بعين الاعتبار السلوكَ اليمني وَالفرصَ التي يتيحُها مرةً تلو أُخرى أمامَ تسويةٍ شاملة تُجَنِّــبُ مدمني الطاقة عواقبَ سياسية واقتصادية وأمنية سلبية للغاية، كما يؤكّـد النعيمي أنَّ “على الأوساط الدولية التفاعُلَ مع سلوك اليمن تجاه الهُدنة أَو انتظار ما سيرتبه عدم التزام تحالف العدوان على أمن الطاقة وغيرها”.

إلزامُ المحافل الدولية والإقليمية الحُجّـَة أَو رميُ الكرة في ملعبها يترافقُ مع مِجهَرٍ يمني يرصُدُ تفاعُلاتِ قوى العدوان بدرجة أولى والداعمة والمؤيدة بدرجة ثانية، يؤكّـد الفريق الرويشان بالقول: “سنراقب سلوك تحالف العدوان تجاه التزاماته خلال هذين الشهرين وفي ضوء ذلك سيحدّد صانع القرار خياراتنا المقبلة”.

انطواءُ التصريح من النعيمي إلى الرويشان على التهديد، ليس من قبيل المصادفة، ويفيدُ بأن الجبهةَ الوطنيةَ حسمت أمرَها، وهي عمليًّا تنتظِرُ بوادرَ إيجابيةً تُحَلْحِلُ جميعَ المِلفات العالقة، لكن موافقةَ صنعاء على تجديدِ الهُدنة قد تُقْــرَأُ من منظور قوى العدوان بشكل معاكِسٍ تماماً، فتضعُه في خانة جدوائية السياسة المتبعة تجاه اليمن، وهذا يعني مواصلتَها التنكيلَ الاقتصادي لإكراه صنعاء على فعل ما لا تريدُ سياسيًّا، سألنا نائب رئيس الفريق الوطني المفاوض: “أين الجبهة الوطنية من ذلك؟ فرَدَّ: “ندرك أن حالة اللا حرب واللا سلم مُرهقة لشعبنا ونعد لمواجهة خطط تحالف العدوان بهذا الشأن”.

حين طرحنا ذاتَ الأمر على أمين سر المجلس السياسي الأعلى لم تختلف الإجَابَةُ لا بل توافق الحوري مع الرويشان في التوصيف للحالة التي يسعى تحالُفُ العدوان في تثبيتها على الساحة اليمنية، حين قال: “نحن نرفض أن يتحول الوضع إلى حالة اللا حرب واللا سلم، وما لم يستطِع تحالف العدوان تحقيقه بالسلاح لن تنجزه المماطلة بالهُدنة مطلقاً”.

وعن ذات الأمر السابق أَو ما قد يحكُمُ مواقفَ وتوجّـهات قوى العدوان، إزاء موافقةِ صنعاء على تمديد الهُدنة لفترة ثالثة في ظل تجربتين غير مشجعتين، يتحدث عضو السياسي الأعلى محمد النعيمي بشكل مباشر عن مآلات هكذا توجُّـه، بالقول: “إذا كان النظام السعوديّ ما يزال يراهن على مثل هذه السياسة فعليه أن يقاتلَ حتى آخر جندي وآخر قدرة عسكرية يمتلكها”.

ماذا تريدُ واشنطن من الهُدنة في اليمن؟

بناءُ شبكة أمان على مستوى المصالح الاقتصادية الكبرى، في ساحة تلعب دوراً حاسماً بالنسبة لأمن الطاقة وَإمدَاداتها قبل وبعد الصراع على الساحة الأوكرانية، وفي سياق متصل ثمة أهدافٌ أُخرى، برأي الفريق الرويشان هي أن “الدفع الأمريكي باتّجاه الهُدنة وراءه أجندات استراتيجية في المنطقة بداية بقطع الطريق أمام الشرق وحماية أمن الكيان الصهيوني ورعاية التطبيع مع الأنظمة الخليجية بالإضافة إلى أمن الطاقة”.

ما تريدُه واشنطن بعدَ تجربةِ الشهور الأربعة هو ذاتُه ما سعت له قُبيلَها، الأمريكي ليس جاهزًا بعدُ للسماح للسلام أن يجد طريقَه سالكةً في هذه الساحة على الرغم من كون الظروف الأمريكية الراهنة أكثرَ تعقيدًا من أي وقت مضى.

تحت حُمَّى مخاوفها المتعددة وأهدافها الاستراتيجية في المحيط الهندي في مواجهة الصين وروسيا، غيَّرت إدارةُ بايدن فقط نبرتَها السياسية فقط، وهذا لا يعني شيئاً في النظرةِ اليمنيةِ تجاه أمريكا، والتأكيد للنعيمي، إذ قال: “الدفعُ الأمريكي تجاه الهُدنة تكتيكٌ يرتبطُ بمصالحَ أمريكية وإن تذرع بالسلام والوضع الإنساني بالنسبة لجماهير شعبنا”، لكن هذا يعني في ما يعنيه أن أمريكا لم تقدم بعدُ ما تعتبره هي تنازلات رغم مأزقها، وَأنها تشتري الوقت في الساحة اليمنية، وتحاول الحفاظ على هيمنتها في أكثر من بُقعة جغرافية.

رُدُودُ النخبة السياسية على هذه المفارقات تحيلُك أَيْـضاً إلى متطلبات اليمن من الهُدنة من جهة، وتؤكّـد من جهة أُخرى على لسان الحوري أن “القيادةَ تأخُذُ بعين الاعتبار الأجنداتِ والأهدافَ الأمريكية من وراء تمديد الهُدنة وتدرُسُها”.

وفي حديث الحوري إشارةٌ إلى ضرورة أن نستوعبَ على مختلف المستويات أن الإفادةَ من ذلك رهنُ قرار القائد وحدَه وتحديد الزمان والمكان تابعٌ، وغيرُ ذلك أن من يستعجلُ التثميرَ اليمني للضغوط الخانقة للعدو يبني على فرضية مفادها أنّ طيًّا أمريكيًّا للهُدنة محتملٌ وَواردٌ بالنظر لمتغيِّر مُوَاتٍ على الساحة الدولية، لكن هذه الفرضية نفسَها لا تُلغِي حقيقةَ معادلة توازُنِ الرعب الحاكمة للمواجهة مع قوى العدوان بعدَ أن تحقَّقَ لليمن في مجال الإعداد من العتاد وغيره، وهو ما يجعلُ قوى العدوان مجتمعةً تحت رعبٍ دائمٍ من غضب وثأر يمني يدُكُّ عَصَبَ وشريانَ الاقتصاد العالمي، وَهكذا لا بأس أن قَدَّمَ اليمنُ في هذه المرحلة نموذجاً مختلفاً للدبلوماسية.

 

تحليل| عبدُ الحميد الغُرباني

قد يعجبك ايضا