ما وراء التشدد الأميركي في اليمن: عن المبادرة الصينية… فتّش

وصلت تكاليف العملية العسكرية الأميركية في اليمن إلى مستويات قياسية تجاوزت الـ 7 مليارات دولار، ما يجعلها الأغلى في التاريخ الحديث، مقارنةً بعمليات أخرى كتلك التي جرت في ليبيا عام 2011 وكوسوفو عام 1999، علماً أن هذه الحملة مستمرة وقد لا تنتهي في المستقبل القريب. وإذ لا تجد الولايات المتحدة حرجاً في إنفاق مبالغ طائلة لتحقيق أهدافها، فإن معايير هذا الإنفاق تتغيّر وفقاً لطبيعة الهدف وهوية مَن يجلس في المكتب البيضاوي؛ وبخصوص الوضع الحالي، ورغم أن الالتزام الأميركي بدعم كيان الاحتلال يتصدّر سلم أولويات الإدارات المتعاقبة، إلا أنه قد يكون من المبالغة القول إن الرئيس دونالد ترامب، الذي يرى العالم من نافذة «وول ستريت» ويجبر حلفاءه على دفع «خوّة» مقابل الحماية الأميركية، يوجّه بإنفاق كل تلك الأموال في اليمن، «إسناداً لإسرائيل» فقط.

الواقع أن ما يجري في البحر الأحمر هو مساس بالمصالح الأميركية أولاً، قبل الإسرائيلية. وعلى ما يبدو، باتت واشنطن ترى في «التهديد اليمني» صورة مشابهة للنموذج الكوبي؛ أي تهديداً لأمنها القومي. ولأن الحقيقة لا تؤخذ عادةً من أفواه الرؤساء، خاصة الأميركيين منهم، فلا بد من البحث في المشاريع التي تُحاك خلف الأبواب المغلقة، بغرض فهم السبب وراء إمطار اليمن بأطنان المتفجرات على مدار سنوات.

وفي هذا الإطار، تُظهر الردود العسكرية الأميركية، بوضوح، أن الولايات المتحدة تتبنّى إستراتيجيات متفاوتة بحسب أهمية المواقع الجغرافية على مسرحها الجيوسياسي؛ إذ إن الدول التي تشكل تهديداً مباشراً لمصالحها الأمنية أو الاقتصادية، أو تقع في مفترق طرق إستراتيجي حاسم، تجد نفسها تحت ضغوط عسكرية أميركية، فيما تلك التي تتمتع بموقع جغرافي أقلّ تأثيراً، حتى وإن تبنت مواقف معادية، لا تتعرض لمستوى العنف أو التصعيد نفسه. وعلى سبيل المثال، شكلت الثورة الشيوعية بقيادة فيدل كاسترو ونشر الصواريخ السوفياتية في كوبا عام 1962 تهديداً جوهرياً لأمن الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي، ما استدعى فرض حصار عسكري أميركي صارم وتدابير أمنية حادة.

أما ارتماء الموزمبيق في حضن الاتحاد السوفياتي، وتلقيها الدعم العسكري منه، فلم يُنظر إليهما على أنهما تهديد للولايات المتحدة، التي اكتفت بممارسة الضغوط الديبلوماسية، نظراً إلى أن موقع الموزمبيق في الجنوب الأفريقي لم يكُن ذا أهمية كبرى في سياق الحرب الباردة. والأمر نفسه ينسحب على فيتنام وأنغولا، رغم تقارب المدة الزمنية للأحداث في البلدين.

ويفسّر ما تَقدّم «النقمة» الأميركية على تموضع اليمن «الخارج عن سيطرة» الولايات المتحدة في هذه البقعة الجغرافية الإستراتيجية، والتي تُعد القلب الحيوي لمشروع «الحزام والطريق» الصيني. ولذلك، فإن «تهذيب» القوة المستجدّة لدى صنعاء أو القضاء عليها -ولو أنه مصلحة إسرائيلية أيضاً – يمثّل المدخل إلى فرض واقع آخر، تُعمّق عبره واشنطن نفوذها لقطع الطريق أمام أي نشاط صيني فاعل.

وفي هذا السياق، يشير الباحث في الشؤون العسكرية، العميد عبد الغني الزبيدي، إلى أن «هناك تواجداً أميركياً غير علني في عدد من المناطق والجزر»، مضيفاً، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الغارات المكثفة على جزيرة كَمران التي تقع في محافظة الحُديدة المطلّة على البحر الأحمر، قد تكون مؤشراً إلى رغبة في انتشار عسكري، خاصة وأن المحافظات الجنوبية تخضع لسيطرة «المجلس الانتقالي» المدعوم إماراتياً، والذي دعم سيطرة القوات الإماراتية والأميركية والإسرائيلية في جزيرة سقطرى مثلاً».

لو أن صنعاء لم تجلس على حافة باب المندب، لما تجاوز الرد الأميركي حدود بيانات الشجب

والواقع أن التصعيد الأميركي في البحر الأحمر، لا يمكن فصله عن الصراع العالمي المحتدم بين مشروعين اقتصاديين متنافسين: الأول، تقوده واشنطن بتحالفها مع قوى النفط واليمين العالمي، يسعى إلى إعادة هندسة سلاسل الإمداد عبر تحويل الهند إلى بديل إستراتيجي من الصين، وإنشاء ممر تجاري يمتد من جنوب آسيا عبر الجزيرة العربية وإسرائيل وصولاً إلى أوروبا، في محاولة لتثبيت الكيان كبوابة مركزية لتدفق الطاقة والبضائع؛ وأما الثاني، فتتصدّره الصين التي تقدّم نفسها كقوة بديلة تسعى إلى تجاوز النموذج الغربي عبر مبادرة «الحزام والطريق»، حيث تشكّل ممرات البحر الأحمر وباب المندب عقدة إستراتيجية ضمن هذا الطموح. وانطلاقاً من ذلك، يمكن فهم الاستنفار الأميركي تجاه التمرد اليمني باعتباره تهديداً مزدوجاً: يُعطّل الممرات، ويُربك الحسابات الجيوسياسية الكبرى.

وهكذا، لم يعُد المشروع الأميركي في اليمن، يُدار من بوابة «مكافحة التهديد الحوثي» فقط، بل من موقع السعي إلى قطع أوصال المبادرة الصينية، ومنع تمددها في خاصرة البحر الأحمر. وهنا، تصبح المعركة في الحُديدة وعدن وكَمران، ليست سوى محطات في حرب طويلة تهدف فيها واشنطن إلى إعادة تطويع الجغرافيا لمصلحة مشروعها، ولو على حساب استنزاف مليارات الدولارات، ومضاعفة الأزمات الإنسانية. ومع ذلك، وبينما تحرص الولايات المتحدة على إظهار نفسها كحامية للملاحة البحرية العالمية، فإن قدرتها الفعلية على التأثير في حركة التجارة عبر الموانئ تبدو متواضعة مقارنة بغيرها من القوى.

إذ تسيطر الصين، عبر شركتيها الحكوميتين العملاقتين «COSCO» و«China Merchants Port»، على نحو 12.6% من إنتاجية الموانئ العالمية، ما يمنحها حضوراً واسعاً في مرافئ آسيا وأفريقيا وأوروبا (لا يمكن تجاهل أن بكين أنشأت عام 2017 أول قاعدة عسكرية خارجية لها في جيبوتي، على بُعد أميال قليلة فقط من مضيق باب المندب، وفي ذروة الحرب في اليمن).

وبعد الصين، تأتي مباشرة كل من الإمارات عبر «موانئ دبي العالمية»، وفرنسا عبر «CMA CGM» و«Terminal Link»، وسنغافورة عبر «PSA International»، بينما تتراجع الولايات المتحدة خلف هذه القوى جميعاً، علماً أنها لا تملك شركات مدعومة من الدولة ضمن قائمة كبار مشغلي الموانئ. وقد دفع هذا التفاوت مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ، في مقدمتهم السيناتور تيد بود (جمهوري من نورث كارولاينا)، إلى تقديم قانون الإبلاغ عن الموانئ الإستراتيجية، والذي يُلزم وزارتي الخارجية والدفاع بوضع خريطة شاملة للموانئ الحيوية التي يجب مراقبتها أو تعزيز النفوذ فيها، في مواجهة التمدد البحري الصيني.

لكن أحد أوجه الصمت عن طبيعة العملية العسكرية الأميركية في البحر الأحمر واليمن، بخلاف ما حصل في حالة بنما، قد يعود إلى أن الإدارة الأميركية لا تخاطب فقط خصومها الجيوسياسيين، بل جمهورها الداخلي – الذي أقنعه ترامب بأنه رجل السلام – والكونغرس أيضاً. ووفقاً لقانون سلطات الحرب، لا يمكن الرئيس الاستمرار في أي عمل عسكري خارج الحدود لأكثر من ستين يوماً من دون تفويض صريح من الكونغرس، علماً أن هذه المهلة ستنتهي عملياً في 14 أيار المقبل. ومع بقاء العملية ضمن إطار «حماية الملاحة»، فإن تمديدها أو توسيعها يتطلب تبريراً سياسياً وإجماعاً تشريعياً، لا يبدو مضموناً في ظل الانقسام الحزبي وسقف الأولويات الداخلي.

على أي حال، يمكن القول إن الأزمة ما كانت لتأخذ هذا المنحى التصعيدي لو أن اليمن أطلق الصواريخ نفسها في اتجاه إسرائيل من موقع جغرافي مختلف، يفتقر إلى الإطلالة على أهم عقدة بحرية في المنطقة. فالمشكلة ليست في نوع الصاروخ ولا في هوية الطرف المُستهدَف، بل في موقع المُطلِق وطبيعة تموضعه الجغرافي. ولو أن صنعاء لم تجلس على حافة باب المندب، لما تجاوز الرد الأميركي حدود بيانات الشجب، ولربما اكتفى أصحابه بفرض العقوبات، وفقاً لما درجت عليه العادة.

مريم السبلاني الخميس 1 أيار 2025

قد يعجبك ايضا