مصطفى عامر يكتب :عن يمن المسيرة، وعن يمن ما قبلها ( 1+ 2)

عن يمن المسيرة، وعن يمن ما قبلها (الجزء الأول)

 

حينما يتعلّق الأمر بمقياس التأثير والحضور في تسعينيات القرن الفائت. فيمكنك القول- وبكلّ دقة- أنّ صعدة كانت على هامش اليمن، فيما كانت اليمن بكلّها على هامش الخريطة!

وفي مكتبة الوالد- يحفظه الله- وجدت كتابًا مصوًرًا عن نسخةٍ مكتوبةٍ بخط اليد، كان عنوانه “السعوديّة تلتهم اليمن”، أتذكر هذا الأمر جيّدًا، كان الكتاب محظورًا، وكانت السعودية تتحكم حتى بالكتب التي ينبغي نشرها، أو الممنوعة عن النشر.

كان يتم، عبر عقودٍ وبشكل ممنهج، “وهبنة” اليمن مذهبيًّا و”سعودتها” سياسيًّا.

لاحقًا، بعد سنين عددا، كنت طالبًا في جامعة القاهرة، سافر أحد أصدقاء والدي، وممن أعتبرهم بمقامه، إلى القاهرة، ذهبت إلى زيارته وأخذني معه لزيارة محسن العيني، أحد أهم الشهود على عصر ما بعد ثورة ٢٦ سبتمبر، كان محسن العيني- رحمه الله- من أكثر العارفين بخبايا التدخل السعودي في اليمن، ومداه!

وقد كان مداه مُفزعًا، ومخيفًا. لاحقًا: استضيف العيني في برنامج “شاهد على العصر”، ولشهادته هذه أهميّةٌ تاريخيّةٌ خاصّة، وإن كان فيها متحفّظًا، إلى حدٍّ كبير، ومهادنًا!

كان يُقال أن العيني ذو ميول بعثيّة، وفي أواخر سبعينيات القرن الماضي تم الفتك بالنّاصريين، بات معروفًا- قبلها- كيف تم قتل الحمدي بحضور الملحق العسكريّ السعوديّ، وبتوجيهات من السعودية! (١)

كثيرون، ومنهم البردوني، كانوا يعتقدون أنّه تم اغتيال ثورة ٢٦ سبتمبر في مهدها، كانت لكلٍّ منهم رؤاه الخاصّة وزاويته، وانحيازاته بالطّبع، على أن المتفق عليه، فيما يبدو، أن السعودية كانت تبتلع اليمن، بثقافتها وبتاريخها وبحاضرها، بهويتها المذهبية وبعمقها الديني والعروبيّ معًا!

وبالتأكيد: بساستها الذين كانوا يدخلون- بعد اغتيال الحمدي على الأخص- بكشوفات اللجنة الخاصة ويخضعون- بالطبع- لتوجيهاتها!
أمّا من يرفض الخنوع فيتم ترحيله إلى البيت أو إلى “بيت خاله”!، إلى الجنة أحيانًا بطلقةٍ أو بحادثٍ عرضي! وأحيانًا إلى نار الإخفاء القسري، الحزين والطويل والموحش. (٢)

فيما لو مررت اليوم على حيّ الصّافية، في صنعاء العاصمة، بالقرب من وزارة المالية ستصادفك قلعةً طويلةّ مترامية الأطراف، قريبةٌ من أهم مراكز صنع القرار بما فيها دار الرئاسة!

هكذا ستبدو لك السفارة السعودية، المهجورة حاليًّا، كما لو كان دار الرئاسة قريبًا منها، لا العكس! وبما يغنينا عن الإسهاب في بيان ما كان بيّن للكافة، وتوضيح ما يعرفه الجميع!

أمّا قبلها بعقود، وفيما لو اطّلعت على وثائق ثورة ٢٦ سبتمبر وإرشيفها، ستجد أنّ الهاشميين كانوا يشكّلون ما تزيد نسبته عن ٣٠٪ من قوام تنظيم الضباط الأحرار- وهو التنظيم المسؤول عن إشعال الثورة- كثورةٍ تشمل كل فئات الشعب بكلّ أطيافه!

أسبوعٌ واحدٌ بعد إعلانها وتمّ- في ظروفٍ غامضةٍ ومحيّرة- اغتيال علي عبدالمغني في مأرب، ثمّة من يشيرون إلى نيران صديقة! من خارج التنظيم تلمع شخصية عبدالرحمن البيضاني، محض أيام ويصبح البيضاني نائبًا لرئيس لمجلس قيادة الثورة، أي: نائبًا لرئيس الجمهورية الوليدة!

أمًا البيضاني فشخصيّةٍ يكتنفها الغموض، حتى مماته لم يكن يتقن اللهجة اليمنية، فيما تواترت الأخبار عن علاقته بأنور السادات، وعلاقتهما معًا بالمخابرات الألمانية سابقًا، ولاحقًا بكمال أدهم: أرفع شخصية مخابراتية سعودية في حينه! وعن علاقتهم جميعًا بالمخابرات البريطانية من قبل ومن بعد!

أما دور البيضاني فقد كان بسيطًا، أي: تحويل الثورة من كونها ثورةً لكل فئات الشعب وأطيافه، إلى ثورةٍ لفئاتٍ على فئة، شافعيّ على زيدي، “قبيلي” على “سيد”، ويتحوّل الهاشميون الذين أسهموا فيها، وبقوة، إلى أعداء للثورة الوليدة.
فيما يقف جزارٌ برتبة “نائب وزير” لدى الباب، يقتلك بحسب اسمك وهوّيتك! سيّان بعد ذلك كنت “مذنبًا” أم لا!
إنّ سيفه في كلّ الأوقات متعطّشٌ للدم، ورقبتك في كلّ الأوقات مُعدّةٌ للذبح، و “قد بسمه جا”! (٣)

هكذا، وعلى هذا النحو، لم تصل اليمن إلى أواخر الثمانينيات إلا وقد كانت “مسعودةٌ” بالكامل، وعبر طريقٍ طويلٍ من التصفية كان الموجودون في شمال الوطن طيفٌ واحدٌ موالٍ للسعودية، فيما تحولت اليمن الكبيرة متعددة الأطياف والمذاهب والثقافات إلى يمنٍ أضيق من خُرم إبرة، وأصغر من حبّة اسبرين!

بدا أنه تمّ بالفعل، مذهبيًّا، مسخ الزيديّة والشافعيّة و”وهبنتهما” معًا! وسياسيًّا فقد تم “سلق” كل المعارضين للسعودية، حرفيًّا حينًا ومجازًا أحيانا!

فيما كانت أقبية المخابرات تجمع “المشاغب” الناصري بالبعثي، الجبهويّ إلى جوار الاشتراكي، والزيدي إلى جوار الشافعي، فيما تحوّلت أعياد الثورة إلى مهرجاناتٍ للتجييش الطائفي: فئةٌ ضد فئةٍ وطائفةٌ على طائفة.

لقد تم الحكم على كافة “أعداء الثورة” أعلاه بالإفناء أو بالإقصاء، بالإخفاء وبما بعد الإخفاء!
وباستثناء “المارقين” أعلاه،
فقد كانت اليمن- بالطّبع- تفتح ذراعيها للجميع!

عن يمن المسيرة، وعن يمن ما قبلها (الجزء الثاني)

 

سيبقى السؤال على هذا النحو- ودائمًا- قائمًا:

لماذا انتهج الشهيد القائد “سلام الله عليه” مبدأ “الهدي القرآني” أساسًا للمسيرة؟
لماذا بدأ مسيرته بالإحياء الثقافي، وبالتأصيل الثقافي؟ في وقتٍ كان المتصوّر منه- وهو ابن صعدة المظلومة والمهمّشة- انتهاج الثورة المطلبية؟
“قضية صعدة”، بدلًا عن “قضية الأمة”؟

يرتبط بهذا السؤال، بالطبع، سؤالٌ آخر:
لماذا ترك منبرين موجودين بالفعل، وآمنين، وهما حزب الحق ومقعده في البرلمان؛
وانتهج عوضًا عن ذلك الطريق الخَطر الذي كانت نهايته المحتّمة- بالنسبة إليه- هي الشهادة؟

لماذا بدأ في مسيرةٍ يعلم، وبنسبةٍ عالية، أنه لن يشهد إلّا بدايتها، وأنه إذ يزرع البذرة فلن يشهد قطف الثمرة؟

تبقى بعدها أسئلةٌ بالغة الأهميّة:
هل كان يفكر بخلخلة نظام الحكم القائم، أم بخلخلة نمط التفكير السائد؟
هل كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها هي الدافع للمسيرة، أم أنّها محض حادثٍ مؤكدٍ لما كان الشهيد القائد يتصوّره سلفًا؟
هل كان “يوم القدس العالمي”، يوم إعلان الصرخة لأول مرة، هو تاريخ “انطلاق” المسيرة، أم أنه كان- فحسب- تاريخ إعلانها للناس، بعد فترةٍ طويلةٍ من البحث والتفكير والتحضير؟

هل كان يفكر بالوصول إلى الحكم؟
وإن كان، فلماذا اختار الطريق الصعب إذن؟
وإذا لم يكن الأمر كذلك:
فلماذا لم يفكّر بالوصول إليه؟ حتى من مدخلٍ- يبدو منطقيًّا- مؤداه: أن الوصول إلى الحكم بالنسبة للثورات هدفٌ أوّل، ومبدئي، لتحقيق بقيّة أهدافها في أقصر وقت؟

يبقى، بعد ذلك وقبله، سؤالٌ منطقي:
لماذا ترك الشهيد القائد كل المغريات والمزايا التي كان يملكها بالفعل، وهو المُهاب في منطقته وسليل أسرةٍ مرموقةٍ يحترمها النّاس، والده من أجلّ علماء الزيدية في عصره قدرًا ومقاما، وهو- أي الشهيد القائد- عضوٌ في مجلس النواب، وكانت السلطة تطلب منه- لا أكثر- غضّ الطرف لا الولاء، لتفتح له خزائنها ومناصبها ومنابرها، وكلّ ما يكفل له عيشًا رغيدًا وكلمةً مسموعة؟

لماذا ترك هذا كلّه واختار طريقًا قادهُ إلى جبلٍ يحاصره الأعداء من كلّ الأرجاء؟ يجوع هو وأصحابه فيقتاتون أوراق الأشجار، ماؤهم لا يروي من عطش، وأنصارهم في السجون إن صرخوا، ولا يأمنون الملاحقات حتى وإن سكتوا؟

لماذا ترك هذا كلّه مقابل “مسيرةٍ” تبدو على نقاء فكرتها محض “مغامرة”؟!
وتبدو في حينه- عند النظر في الظروف المصاحبة- حتميّة الفشل: نهجها المُعادي لعتاة الأرض مع قلّة الأنصار والموارد؛ وكذا انطلاقها من صعدة المكان المهمّش والقصيّ، فلا هي عاصمةٌ أولى ولا ثانية، لا تهتمّ بها الحكومة ولا يسمع بأخبارها النّاس!

أيًّا كانت الإجابات على الأسئلة المطروحة أعلاه، فسيبدو لك الأفق مسدودًا، تبدو المسيرة لأول وهلةٍ كما لو أنّها ولدت لكي تموت!
ستحترم “المغامرين” الذين بدأوا فيها، بلا شك!
على أنك- باستقراء الظروف آنذاك- ستعتبرهم “محض مغامرين”، لا أكثر ولا أقل!

أمّا الغريب، والأكثر إدهاشًا بالفعل، أن كلّ حركات التغيير الجذريّ في التاريخ- وبلا استثناء- تشبه المسيرة!
وعبر التّاريخ، منذ قصّة الإنسان وحتى الآن، لا يغيّر دفّته إلّا المغامرون.
المغامرون- وفق معاييرنا نحن- هم سادة التاريخ وقادته!
كلّ من واجهوا الجبروت مغامرون،
سيدنا إبراهيم إذ يواجه النمرود وحده، يوقدون له نارًا ويلقونه إليها،
هل كان- لغير العارفين- إلّا مغامرًا يُلقي بنفسه في التهلكة؟
وإن كانت النار سلامًا على سيدنا إبراهيم عليه السلام، فإنّ غلامًا- بعد سنواتٍ طويلة- واجه ذو النّواس وجنده، وحده، ثمّ إنّ السّهام لم تكن عليه سلاما، على أنّ شهادته كانت مُقدّمةً لهداية أمّة، وشرطًا ضروريًّا لاكتمال مهمّته، ونعمّا هِيْ!

الأنبياء بلا استثناء- ولا نقارن بهم أحدًا سلام الله عليهم- مُغامرون.
الأولياء وأعلام الهُدى، مُغامرون.
الثّوّار والمصلحون والفلاسفة العظام،
المؤسسون للإمبراطوريّات التي سادت ثمّ بادت، كلّهم مغامرون.

ولقراءتهم كما ينبغي فلا يحسن بك قراءة التاريخ على نحوٍ مألوف، مسطّح، واعتيادي!

بقدر ما ينبغي بك- عوضًا عن ذلك- خوض مغامرةٍ مع التاريخ، بلا مقدماتٍ مألوفةٍ وبلا تصوّرات مُسبقة.

أن تفكّر:
لا بكتابة التاريخ، وإنّما بالتفاهم معه.
لا بتدوين الأحداث، وإنما باستقراء ما كان يدور- بالفعل- في عقول صانعيها، ويؤثر على وجدانهم!

ألّا تقف، كثيرًا، عند “متى” وأين” و”مَن”،
بقدر ما تقف عند “كيف”، و “لماذا”!

وهذا ما سنحاول القيام به- إن شاء الله- في الأجزاء القادمة.

قد يعجبك ايضا