من صعدة إلى باب المندب: اليمن يحاصر العدو الصهيوني ويعيد رسم خرائط القوة
هذا التحول العميق في موازين القوى تجلّى بوضوح في إعلان ترامب وقف الضربات على اليمن، وهو تراجع أميركي يُقرأ بوصفه هزيمة استراتيجية مدوية. بينما يقف “العدو الصهيوني” مصدوما ومكشوفا، ويفرض اليمن معادلاته من الجو والبحر، مؤكداً أنه لم يعد مجرد ساحة نفوذ خارجي، بل فاعلاً يصوغ خطوط الاشتباك الجديدة، منذ حصار السفن إلى تهديد الأجواء، في لحظة تنذر بانهيار منظومة الردع التقليدية التي طالما حكمت المنطقة.
ما يجري اليوم ليس مجرد تحوّل تكتيكي، بل زلزال جيوسياسي يُعيد رسم موازين الردع في الشرق الأوسط. صنعاء، التي كانت تُقصف يومًا بالطائرات والصواريخ، أصبحت اليوم تُطلق صواريخ فرط صوتية نحو مطار بن غوريون وتُغلق البحر الأحمر أمام السفن الصهيونية، فارضة معادلة جديدة: “من كان محاصرًا، بات هو من يُحاصر”. في هذا المشهد غير المسبوق، لم تأتِ الضربة من عواصم كبرى، بل من مدينة كانت تُقدَّم لسنوات كضحية حرب، فتحولت إلى مركز ردع إقليمي يُربك حسابات واشنطن وتل أبيب معًا.
هذا التحول العميق في موازين القوى تجلّى بوضوح في إعلان ترامب وقف الضربات على اليمن، وهو تراجع أميركي يُقرأ بوصفه هزيمة استراتيجية مدوية. بينما يقف “العدو الصهيوني” مصدوما ومكشوفا، ويفرض اليمن معادلاته من الجو والبحر، مؤكداً أنه لم يعد مجرد ساحة نفوذ خارجي، بل فاعلاً يصوغ خطوط الاشتباك الجديدة، منذ حصار السفن إلى تهديد الأجواء، في لحظة تنذر بانهيار منظومة الردع التقليدية التي طالما حكمت المنطقة.
باب المندب.. من نقطة عبور إلى سلاح استراتيجي
يتحكم اليمن بمضيق باب المندب، أحد أهم الممرات البحرية في العالم، والذي يمر عبره أكثر من 20 ألف سفينة سنويًا، تمثل قرابة 7% من حركة التجارة العالمية. منذ إعلان “أنصار الله” منع عبور السفن المتجهة إلى الكيان الغاصب، تراجعت شركات الشحن الكبرى، وارتفعت تكاليف التأمين، وتباطأت سلاسل الإمداد، وسُجّل الركود في موانئ الاحتلال. البحر لم يعد ممراً آمناً، بل ساحة ردع تتحكم بها صنعاء.
ما كانت القوى العظمى تعتبره نقطة ضعف جيواستراتيجية لليمن، تحوّل اليوم إلى نقطة خنق للعدو. فمن باب المندب إلى البحر الأحمر، لم يعد الكيان الغاصب وحده يشعر بالاختناق، بل حتى الأساطيل الأميركية باتت تعيد النظر في بقائها هناك، خشية أن تطالها صواريخ “البركان” و”القدس” و”ذو الفقار”.
التحول من حركة محاصرة إلى سلطة مُهاجمة
بدأ الحوثيون كحركة محلية في صعدة تطالب بالعدالة والتمثيل السياسي، وخاضوا ست حروب مع نظام علي عبد الله صالح قبل أن يتحولوا إلى قوة سياسية وعسكرية فاعلة. بعد مشاركتهم في ثورة 2011، سيطروا على صنعاء عام 2014 وأسقطوا الحكومة المعترف بها في 2015، ليصبحوا سلطة أمر واقع تدير مؤسسات الدولة شمالًا.
ورغم الحصار والتدخلات الخارجية، حافظوا على بنية حكم متماسكة، وأسّسوا مجلسًا سياسيًا وهيئات تنفيذية. تحولت صنعاء إلى مركز قوة إقليمي، حيث باتت تهدد “تل أبيب” وتردع القواعد الأميركية، وتملك برنامجًا صاروخيًا متقدمًا اعترفت به واشنطن.
أميركا وحيدة في الميدان… وصنعاء تكتب معادلات الردع
حين شكّلت واشنطن تحالفًا بحريًا لفتح البحر الأحمر، توقعت تراجع صنعاء تحت الضغط، لكنها سرعان ما وجدت نفسها وحيدة بعد انسحاب السعودية والإمارات ودول أوروبية عدة. بقيت المدمرات الأميركية وحدها تتعرض للضربات، وصافرات الإنذار تدوّي في تل أبيب وإيلات، بينما صنعاء ترد بخطوات تصعيد مدروسة: من الحصار البحري، إلى قصف السفن، ثم الموانئ، وأخيرًا فرض حصار جوي باستهداف مطار بن غوريون.
إعلان ترامب وقف القصف على اليمن لم يكن “مبادرة سلام”، بل تراجع فرضته الوقائع، إذ لم تبدأ صنعاء العدوان، بل ردّت عليه. وتصريحه عن “وعد يمني” ليس سوى تغليف دبلوماسي لهزيمة محرجة.
والأخطر: أن العدو الصهيوني لميُبلّغ مسبقًا، ما جعلهه يبدو مكشوفا في الميدان، تُرك وحده في مواجهة ترسانة صنعاء، بعدما انسحبت واشنطن فجأة من معركة البحر الأحمر.
المشهد الصادم في تل أبيب
مراكز القرار الصهيونية في حالة ذهول. وصف إعلامهم إعلان ترامب بأنه “قنبلة خلطت الأوراق”. بعضهم قال: “لو كنت إيرانياً، لفهمت الرسالة: اضربوا تل ابيب واتركونا”. آخرون وصفوا الوضع بالكارثي: “واشنطن تخلّت عنا”.
التفسير واضح:
لأول مرة، يستهدف الكيان الغاصب بصواريخ فرط صوتية من اليمن.
لأول مرة، لا تأتي أميركا للدفاع، بل للتفاوض مع صنعاء.
لأول مرة، يجد العدو الاسرائيلي نفسه خارج اللعبة الكبرى.
ما بعد ترامب: ارتباك الحليف وانكشاف الجبهة
بإعلانه وقف القصف، يفتح ترامب الباب لتفاهمات أوسع. حديثه عن “إعلان كبير” قبل زيارته إلى الشرق الأوسط يُقرأ كتحضير لصفقة شاملة مع إيران ومحور المقاومة، تعيد التوازن في الإقليم على حساب النفوذ الصهيوني.
محمد علي الحوثي قالها بوضوح: “ما رفضنا استمراره في فلسطين، لن نقبل به في اليمن”.
هذه ليست جملة بل استراتيجية. إنها وحدة الجبهات: من غزة إلى صنعاء، من الضاحية إلى بغداد.
من غزة إلى البحر الأحمر.. اليمن حاضر بالسلاح والموقف
لم يكن موقف اليمن من العدوان على غزة مجرد تعاطف رمزي، بل تحرك استراتيجي فعلي نقل الصراع إلى مستوى إقليمي شامل. فتحت صنعاء جبهة بحرية ثم جوية دعماً لغزة، ومنعت مرور السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني، ووسّعت الحصار ليشمل استهداف مطار بن غوريون من آلاف الكيلومترات.
نجاح هذا التحول اعتمد على توافر الإرادة السياسية، والقدرة العسكرية، والتكامل بين الجغرافيا والسيادة، ما أدى إلى تعطيل خطوط الشحن العالمية وتكبيد الاقتصاد الصهيوني والعالمي خسائر بمليارات الدولارات. وهكذا، لم تعد فلسطين وحدها، بل باتت محمية بمظلة نارية ترسمها صنعاء من خارج الحدود.
إعادة تعريف مركز القوة في الإقليم
أمام هذه التطورات، يتضح أن اليمن ـ بقيادة أنصار الله ـ لم يعد مجرد ساحة صراع، بل عنصر فاعل في إعادة تشكيل المعادلات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. فمن خلال السيطرة على مضيق بحري استراتيجي، وامتلاك القدرة على تنفيذ ضربات دقيقة بعيدة المدى، انتقل اليمن من موقع الدفاع إلى دور الهجوم السياسي والعسكري. فاليوم، أصبح للبحر الأحمر معادلات جديدة. وأصبح لمطار بن غوريون مجال تهديد غير متوقع. كما أصبحت “أنصار الله” رقماً يصعب تجاوزه في أي قراءة لمستقبل الصراع العربي الصهيوني، أو أمن الممرات الدولية.
خاتمة: صنعاء تصوغ الشرق الأوسط من جديد
تحوّلت الجغرافيا اليمنية من هامش منسي إلى مركز ثقل استراتيجي في قلب الصراع الإقليمي، بعدما أعادت صنعاء صياغة معادلات الردع والسياسة في الشرق الأوسط. لم يعد اليمن بلدًا منكفئًا أو محاصرًا، بل أصبح قوة فاعلة تمتد من باب المندب إلى مطار بن غوريون، تفرض حضورها على القوى الكبرى وتُرغم العالم على التعامل معها كقوة إقليمية لا يمكن تجاوزها.
اليمن، الذي كان يُنظر إليه كورقة تفاوض أو ذراع إيرانية، بات لاعبًا مستقلًا يرسم قواعد اشتباك جديدة ويقلب الموازين. اليوم، واشنطن تفاوضه، و”العدو الصهيوني” يواجهه منفردا، والبحر الأحمر بات تحت نفوذه. ما يحدث ليس مجرد تصعيد عسكري، بل إعلان دخول اليمن رسميًا في معادلة الردع، وتحول استراتيجي يجعل من صنعاء مركز القرار الإقليمي الجديد.
د.اكرم شمص : الوفاق