“اسرائيل” والاستكبار العالمي: 40 عاما من الرهانات الخائبة والخيارات الفاشلة

 

شكَّل انتصار الثورة الاسلامية في ايران بداية تحوّل معادلات الصراع مع الكيان الاسرائيلي، حتى غدا انتصارها المحطة الفاصلة بين عصري الهزيمة والانتصارات. وبدأ هذا المسلسل مع إسقاط أهم حليف لكيان العدو في الشرق الاوسط (نظام الشاه)، واستبداله بنظام اسلامي معادي بالمطلق لأصل وجوده. مع ذلك، لم تقتصر نتائج انتصار الثورة على إقامة نظام الجمهورية الإسلامية، عام 1979، بل توالت انتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين، وامتدت مفاعيلها الى انتاج خارطة اقليمية مغايرة كليا لما كانت تخطط له الولايات المتحدة.

في المقابل، مرت المقاربة الاسرائيلية لمفاعيل انتصار الثورة بمحطات وتحولات ورهانات تبددت مع صمود الجمهورية التي نجحت في الانتصار على كل المخططات التي استهدفت وجودها وأمنها وتطورها. وحول ذلك يمكن تسجيل ما يلي:

في البداية كان الرهان الاسرائيلي وبقية الأنظمة المعادية للجمهورية الاسلامية، على بعض التحركات الداخلية التقسيمية ومحاولات الانقلاب واغتيالات القادة والحصار الاقتصادي وصولا الى الحرب التي شنها صدام حسين. وفي حينه قدَّرت الاستخبارات العسكرية (أمان) سقوطا سريعا للنظام الاسلامي بفعل الحرب التي شنها صدام حسين على الجمهورية الاسلامية بعد نحو 20 شهراً على انتصارها. وحول ذلك ذكرت دراسة صادرة عن مركز بيغن السادات للدراسات الاستراتيجية بقلم الباحثة في الاستخبارات العسكرية (أمان) وفي الحرب النفسية، “يهوشاع تييخر”، (16/5/2017) أن “الاستخبارات العسكرية حددت مع بداية الحرب الايرانية العراقية في أيلول/ سبتمبر عام 1980 بشكل قاطع أن الحرب ستنتهي خلال أسابيع معدودة بانتصار عراقي ساحق نتيجة تفوقه في الوسائل القتالية المتطورة. وفي المقابل كان هناك شبه انهيار للجيش الايراني، الذي تم التخلي عنه من قبل الاميركيين بعد انتصار الثورة. لكن الحرب انتهت بعد مضي ثمان سنوات، ويعود سبب خطأ الاستخبارات انهم لم يأخذوا بالحسبان الروح القتالية للجنود الايرانيين الذين كانوا ينقضون على الجبهة الايرانية في طريقهم الى جنة عدن ونتيجة الاداء المخل والمترهل للجيش العراقي”. وهكذا يتضح بشكل جلي مستوى الرهان الاسرائيلي الذي تبدَّد مع صمود الجمهورية الاسلامية في مواجهة كافة المخططات التي استهدفتها في وجودها وأمنها واقتصادها وتطورها.

مع ذلك، تجددت الرهانات الاسرائيلية على امكانية الحد من مفاعيل انتصار الثورة انطلاقا من عدة اعتبارات جغرافية واستراتيجية وسياسية. ومما عزَّز هذا الرهان في حينه أن ايران تبتعد جغرافيا عن فلسطين نحو 1200 كلم، وهو ما كان يحول دون التماس المباشر بينهما. أضف الى أن الفاصل بين الجمهورية الاسلامية عن سوريا ولبنان، كان وجود النظام البعثي في العراق المعادي للجمهورية الاسلامية في ايران.  وكانت “تل ابيب” تراهن ايضا على السد الدولي والاميركي اضافة الى تحالف النظام البعثي والخليجي الذي كان يفترض أن يشكل مظلة دولية واقليمية، تحمي “اسرائيل” وأمنها. لكن الجمهورية الاسلامية لم تنتظر استكمال انتصاراتها حتى بادرت الى دعم قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، ونتيجة هذا الدعم والاحتضان الايرانيين (والسوري) تحققت انتصارات استراتيجية وتاريخية على الاحتلالين الاسرائيلي (تحرير العام 1985) والاميركي (والانسحاب الاطلسي من لبنان). وهو ما غيَّر مجرى التاريخ في لبنان والمنطقة وأدى الى انتاج معادلات جديدة في الصراع انعكست ايجابا على فلسطين وشعب وفلسطين والمقاومة في فلسطين.

إنهيار الاتحاد السوفياتي

تجددت الرهانات الاسرائيلية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مع تبلور الاحادية القطبية التي عمدت الولايات المتحدة الى استغلالها ودمرت العراق وفرضت مسار تسوية انطلق من مؤتمر مدريد الذي هدف الى تصفية القضية الفلسطينية وفرض الهيمنة الاميركية على المنطقة، وانشاء حزام أمني اقليمي يحمي وجود وأمن “اسرائيل”، ويقضي على قوى المقاومة ويطوق الجمهورية الاسلامية في ايران.

في المقابل، أتى صمود ايران وقوى المقاومة في لبنان وفلسطين كي يفرمل تقدم هذا المسار الانهزامي في المنطقة، والذي تحطم في سوريا ولبنان بدعم الجمهورية الاسلامية. ومع أن “اسرائيل” استطاعت أن تحدث خرقا في فلسطين والمنطقة، إلا أن مسار التطورات على جبهتها الشمالية وانتقال ثقل المقاومة الى داخل فلسطين، غيَّر المعادلات الاقليمية.

في مراحل لاحقة، تجددت الرهانات الاسرائيلية مع الاحتلال الاميركي للعراق، على اسقاط الجمهورية الاسلامية وسوريا ولبنان. وبلغت أعلى درجاتها انطلاقا من أن الولايات المتحدة تحوّلت الى قوة اقليمية، وجزء مباشر من موازين القوى…. لكن هذه الفرحة لم تكتمل مع تحول العراق لاحقاً الى مستنقع للجيش الاميركي… وحاولت “اسرائيل” ومعها واشنطن إسقاط لبنان والمقاومة عبر الضغط على سوريا لرفع مظلتها الاقليمية، وعلى هذه الخلفية، تم الضغط لاخراج الجيش السوري من لبنان.

لكن هزيمة الجيش الاميركي بدَّدت الرهانات الاسرائيلية، بل عززت موقع ايران ودورها في المنطقة، خاصة وأن الولايات المتحدة بعد هزيمتها في العراق تختلف عن الولايات المتحدة قبل ذلك. وحضور ايران ونفوذها في المنطقة بعد هذه المحطة التاريخية يختلف عما كانت عليه قبلها. وهو ما عزَّز موقعها ودورها في المعادلات الاقليمية. وخابت في ضوء ذلك، آمال اسرائيل ورهاناتها. ومع هزيمة جيش العدو في مواجهة حزب الله خلال حرب العام 2006، اشتد قلق صناع القرار في “تل أبيب” من رسائل ومفاعيل وتداعيات هذه المحطة الاستراتيجية في تاريخ الصراع في المنطقة.

صعود البرنامج النووي

… ايضاً، في مراحل لاحقة، استند الرهان الاسرائيلي البديل على استدراج الولايات المتحدة لمواجهة ايران على خلفية برنامجها النووي. وكان تقدم ايران النووي العنوان والشعار الذي تحت ظله تم فرض عقوبات قاسية عليها. في المقابل واصلت ايران تقدمها النووي، وعمدت “اسرائيل” الى تحريض الولايات المتحدة وتهديد العالم بتوريطه في مواجهة عسكرية مع ايران، عبر المغامرة بضربة عسكرية لمنشآت ايران النووية الامر الذي كان سيؤدي الى رد ايران واسع، ويشعل المنطقة ويؤدي الى تدخل الولايات المتحدة… وهكذا وقفت واشنطن أمام مسارين في مواجهة ايران، على خلفية برنامجها النووي: إما عقوبات متصاعدة من أجل اخضاع الجمهورية الاسلامية أو اسقاطها، أو عدوان عسكري بذريعة تدمير برنامجها النووي، وبحسب تقدير نتنياهو في حينه فإن خطوة كهذه (استهداف أميركي للمنشآت النووية) ستؤدي الى تداعيات دراماتيكية في الداخل وصولا الى اسقاط نظام الجمهورية الاسلامية.. لكن الذي حصل في نهاية المطاف أن الولايات المتحدة في ظل ادارة اوباما تجنبت المواجهة واختارت التوصل الى اتفاق نووي يشرعن تحوّل ايران الى دولة نووية والى صيغة اتفاق لرفع العقوبات عنها… وهو ما شكل خيبة مدوية لـ”اسرائيل”.

في نفس السياق تجدَّدت رهانات أخرى مع بدء الاحداث السورية التي لم تُخفِ تل أبيب أملها من أن تؤدي الى اسقاط الرئيس الاسد في سوريا واستبداله بنظام معادي للمقاومة ويدور في الفلك الأميركي.. ويكمل الطوق الاقليمي الحامي لـ”اسرائيل”… لكن الذي حصل أن كل رهانات “اسرائيل” خابت وخرجت سوريا ومحور المقاومة أكثر قوة… وباتت الجمهورية الاسلامية أكثر تطوراً وقدرة وتمسكاً بمبادئها وخياراتها الاستراتيجية.

ومع فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة وخروجه من الاتفاق النووي وفرض عقوبات غير مسبوقة على ايران تجددت رهانات تل ابيب ومعها واشنطن على اخضاع الجمهورية الاسلامية واسقاطها، ولكنهما فوجئتا كما حصل في كل المحطات السابقة، بخيبة متجددة نتيجة صمود ايران وحلفائها، واحتوائها لمفاعيل هذه العقوبات… وما زالت المعركة متواصلة.

بنظرة اجمالية الى كل هذا المسار، يتضح أن “اسرائيل” التي كانت تراهن على الديناميات الداخلية في بدايات الانتصار وعلى الحرب التي شنها صدام حسين لاسقاط الجمهورية الاسلامية، ولاحقا على الطوق الاقليمي الذي عملت عليه الولايات المتحدة تارة من خلال وجودها المباشر في العراق، واخرى عبر الجماعات التكفيرية… اذا بها تصارع الان لمنع ما تسميه التمركز العسكري الايراني على حدود فلسطين المحتلة.. وتستميت في مواجهة منع استكمال الطوق الذي يهدف الى تقييدها وخنقها من الشمال والجنوب.

قد يعجبك ايضا