السيد الذي اختصر محور المقاومة: رؤية قيادية وخطب خالدة تعيد توجيه البوصلة
لقد سطّرت مواقف الشهيد السيد حسن نصر الله صفحات مشرقة في تاريخ الأمة، مشكّلة نموذجًا نادرًا للشجاعة في قول الحق مهما عظمت المخاطر، والجرأة في مواجهة الظلم والباطل، سواء في الداخل أو أمام القوى الإقليمية والدولية.
لقد وقف بوضوح وثبات في وجه كل محاولات الالتفاف على حقوق الشعوب المستضعفة، مُدافعًا عن قضايا المظلومين ورافعًا شعلة المقاومة على حد سواء. كان السيد الشهيد، بشخصيته الفريدة، محور المقاومة الذي اختصر دوره في وحدة الساحات ودعم الحركات التحررية والمقاومة بكل أشكالها، محوّلًا الخطاب إلى سلاح إستراتيجي لا يقل تأثيره عن الصواريخ والمواجهات المباشرة. ومن خلال قيادته الحكيمة، أصبح محور المقاومة قوة متماسكة، قائمة على التعاون، التضامن، والوعي بالمسؤولية التاريخية تجاه الأمة والشعوب المستضعفة.
ولم تقتصر عظمة هذا الإرث على الشجاعة والمواقف السياسية، بل امتد ليشمل الأبعاد الإسلامية والأخلاقية العميقة. فقد جسّد السيد الشهيد القيم الحسينية العاشورائية في التمسك بالحق والمقاومة والثبات، وأكد على وحدة الأمة الداخلية والإسلامية، مع التركيز على القيم الأخلاقية، جامعًا بين القيادة العملية، والعمق الأخلاقي، والبعد الإيماني في خدمة الأمة.
إحياء الوعي
لم يكن توصيف رئيس وزراء حكومة العدو بنيامين نتنياهو للسيد الشهيد حسن نصرالله مجرّد جملة عابرة حين قال: “نصرالله لم يكن مجرد مقاتل، بل كان هو المقاتل… كان المحور داخل المحور والقوة الدافعة خلفه”. بل في الحقيقة، كان يقرّ بأنّ شهيد الأمة لم يكن شخصية عادية، بل قائدًا استثنائيًا تحوّل بحد ذاته إلى سلاح إستراتيجي في معادلة الصراع.
منذ توليه قيادة حزب الله في مطلع التسعينيات، ارتبط اسم السيد نصرالله بكل محطة مفصلية في تاريخ الصراع مع الاحتلال. تحت قيادته، وبفضل تضحيات المقاومة وشعبها، تحقق الانتصار الكبير بانسحاب العدو من جنوب لبنان بلا قيد ولا شرط. وقد جسدت عبارته الشهيرة في خطاب النصر في بنت جبيل حقيقة هذا الانتصار: “إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت”.
لم تكن هذه الكلمات مجرد توصيف عاطفي، بل تحوّلت إلى “نظرية” درستها مراكز الأبحاث الإسرائيلية، وحاول قادة العدو دحضها مرارًا. حتى أن رئيس الأركان الإسرائيلي، دان حالوتس، كان يعتزم الرد عليها بخطاب “بيت الفولاذ” من المكان نفسه عام 2006، إلا أن الفشل العسكري في السيطرة على بنت جبيل أسقط الفكرة وأوهماتها، مؤكّدًا صدق رؤية المقاومة وقوتها.
بعد حرب تموز 2006، أيقن كيان الاحتلال أنّ السيد لم يعد مجرّد قائد فصيل مقاوم، بل بات مركز ثقل للمقاومة كلّها.
فخطاباته وأشرطته لم تُعامل كرسائل إعلامية فقط، بل صارت تُعدّ جزءًا من المعركة نفسها، ما دفع شعبة الاستخبارات العسكرية الصهيونية إلى إنشاء وحدات خاصة لمتابعة كل كلمة وكل إشارة تصدر عنه.
لم يقتصر الأمر على مضمون الخطاب، بل شمل نبرته وتعابير وجهه وحركات يده، إذ رأت مراكز الأبحاث أنّ تلك التفاصيل تعطي كلماته صدقية مضاعفة، وتجعلها أبلغ في التأثير.
هذه الصدقية بالذات كانت أكثر ما يخيف العدو. ففي استطلاعات للرأي بعد حرب 2006، رأى جزء من المستوطنين أنّ السيد حسن نصرالله أكثر صدقًا من قادتهم السياسيين والعسكريين، لأن تهديداته دائمًا ما كانت تقترن بالأفعال، بينما اعتادوا هم في المقابل على كذب قاداتهم. وهكذا، صار اسم السيد نصرالله في الوعي العبري مرادفًا للمصداقية. وكسبيل المثال على هذه المصداقية، ما حدث عام 2017، عندما استجاب العدو عمليًا لتهديدات السيد الشهيد بإغلاق خزان الأمونيا في حيفا، بعدما كان قد حذّر من استهدافه في أي مواجهة مقبلة.
القرار شكل الإدراك العميق لدى قادة العدو بأن تهديد السيد نصرالله واقع لا يُستهان به. لهذا السبب، لم تتوقف الدعوات الصهيونية إلى اغتياله على مدى عقدين.
فقد أدركت المؤسسة الإسرائيلية أنّها تواجه قائدًا لم يجمع فقط بين الكاريزما والحنكة العسكرية، بل نجح أيضًا في أن يحوّل خطابه إلى سلاح عملياتي لا يقل أثرًا عن الصواريخ والميدان، وبات هذا الخطاب ينتشر في الإقليم والعالم ويحيي حركات المقاومة بل ويصنع المعادلات. في وعي الأمة كان سماحة السيد رمزًا للإيمان والصمود، وفي وعي العدو كان الخطر الأكبر الذي يقضّ مضاجعه.
مواقف خالدة – لبنان
“إسرائيل سرطان يجب استئصاله”، بهذه الكلمات جسّد الشهيد السيد حسن نصر الله جوهر موقفه من الاحتلال الإسرائيلي للبنان وفلسطين، مؤكدًا أن المقاومة هي السبيل الوحيد لحماية الأرض والكرامة. فقد أوضح أنه “إذا كنا سنطرد الاحتلال الإسرائيلي من بلدنا، كيف نفعل ذلك؟ رأينا ما حصل في فلسطين، في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وفي الجولان وفي سيناء. وصلنا إلى قناعة بأننا لا نستطيع الاعتماد على الدول العربية، ولا على الأمم المتحدة.. الطريقة الوحيدة هي أن نحمل السلاح ونقاتل قوات الاحتلال.”
عبّرت هذه الكلمات عن استراتيجية متكاملة شملت البعد العسكري والسياسي والاجتماعي، وأكدت أن الانتصار لا يقتصر على تحريك الميدان فقط، بل يمتد لإعادة الأمل للشعب وحماية الهوية الوطنية.
هذه الرؤية المتكاملة تجلّت خلال انتصار عام 2000 وعدوان تموز عام 2006، عندما أظهرت المقاومة بقيادته قدرة فائقة على مواجهة كيان الاحتلال وإحباط مشاريعه لتقسيم المنطقة وفرض معادلات جديدة لم يعرفها العدو من قبل. ومن بين هذه المعدلات، نستذكر خطاب عملية “ساعر”، حيث قال السيد الشهيد: “الآن في عرض البحر البارجة الحربية العسكرية التي اعتدت على البنية التحتية وعلى بيوت الناس والمدنيين، انظروا إليها الآن تحترق وتغرق ومعها العشرات من جنود العدو.” هذه المشهدية، زرعت فكرة إمكانية الانتصار على العدو، وكانت رصاصة في قلب ما حاول العدو زرعه في نفس الأمة.
– سوريا
كان يحذر السيد أن سقوط سوريا في أيدي الولايات المتحدة وكيان العدو الإسرائيلي والجماعات التكفيرية لن يضرّ بها فقط، بل سيشكل تهديدًا وجوديًا للمقاومة وفلسطين ولكامل توازن القوى في المنطقة.
لذلك، أعلن في أيار 2013 أن حزب الله سيشارك الجيش السوري في مواجهة الإرهابيين، مؤكّدًا أن حماية سوريا هي حماية للمقاومة ولحقوق الأمة: “يجب أن تصمد سوريا بقيادتها، وألا تسقط في أيدي الولايات المتحدة وإسرائيل والتكفيريين، حتى تصمد المقاومة وفلسطين، وحتى لا يدخل سكان المنطقة في الظلمة.”
هذا القرار كان ترجمة لرؤية استراتيجية شاملة، تربط البعد العسكري بالبعد السياسي والاجتماعي، وتؤكد أن الحفاظ على تماسك الدولة السورية هو عامل حاسم لاستمرار محور المقاومة في مواجهة المشروع الصهيوني الأمريكي التكفيري. وقد أظهر السيد نصر الله مصداقية هذه الاستراتيجية على الأرض من خلال معركة تحرير الجرود عند الحدود اللبنانية – السورية في آب 2017. وكان لهذا الدور أثر بالغ في تغيير موازين القوى في المنطقة. كما صرح السيد في مناسبة لاحقة مشيرًا إلى هزيمة مشاريع العدو.
“الإسرائيليون قلقون وغاضبون لأن مشروعهم في المنطقة سقط، الإسرائيليون علقوا آمال كبيرة على ما كان يجري في سوريا وعلى ما كان يجري في العراق، علقوا آمال كبيرة في السابق على ما كان يجري في لبنان، ولكن كل هذه الأوهام ذهبت أدراج الرياح. الإسرائيليون يعرفون أن محور المقاومة عائد أقوى من أي زمن مضى، وأن شعوباً كانت خارج دائرة الصراع مع العدو الإسرائيلي أصبحت اليوم داخل دائرة الصراع مع العدو الإسرائيلي وبقوة وبفعالية وبانسجام”.
جاءت بصيرة السيد دقيقة وحاسمة، إذ لم تُخِب بعد سقوط النظام السوري وتسلم الجماعات الإرهابية بقيادة أبو محمد الجولاني زمام الحكم، وارتكابها المجازر بحق أبناء سوريا الأبرياء، مع بروز أصوات تهدد أمن لبنان وسيادته. فيما كان العدو الإسرائيلي يمعن في استهداف سيادة سوريا سواء بتدمير مقدراتها العسكرية او احتلال أجزاء من أراضيها.
– اليمن
لم ينسَ السيد الشهيد حسن نصر الله، المدافع عن الحق أينما كان، اليمن وأهله المظلومين، فاتخذ موقفًا داعمًا للشعب اليمني في وجه تحالف العدوان السعودي المدعوم من الولايات المتحدة. صادحًا في وجوه كل من حاول تبرير العدوان أو تصويره على أنه دفاع عن عروبة اليمن، قال: “حرب عربية على من؟ على شعب عربي؟ على العرب الأقحاح؟ انظروا إلى سحنتهم، لهجتهم، لغتهم، شعرهم، أدبهم، بلاغتهم وفصاحتهم. انظروا إلى شهامتهم وشجاعتهم وأبوتهم وإبائهم للضيم ونخوتهم وغيرتهم وكرمهم وجودهم.. إن لم يكن الشعب اليمني مِن العرب، فمَن العرب؟”.
بهذه الكلمات، رسم السيد حسن نصر الله صورة واضحة لموقف المقاومة تجاه العدوان، مؤكدًا أن دعم الشعوب المستضعفة واجب أخلاقي وإنساني وجهادي وديني. وأضاف في تحليله للمسؤولية التاريخية:
“من واجبنا الإنساني والأخلاقي والجهادي والديني أن نتخذ هذا الموقف. هذا تشخيصنا لأنفسنا، وكل أبناء هذه الأمة عليهم أن يراجعوا تكليفهم ومسؤوليتهم ويتخذوا الموقف الذي يرونه مناسبًا. هذا الموقف، منذ اليوم الأول، أعلنّاه لله وليوم القيامة والآخرة ويوم الحساب، لا للتاريخ ولا للجغرافيا، فليكتب التاريخ ما يشاء، نحن قوم مسؤولون أمام الله وسنحاسب على الموقف. والمسؤولية في هذه المرحلة التاريخية الخطيرة الكبرى لا تطال اليمن وحده، بل المنطقة والأمة جمعاء.”
اليمنيون اليوم يعرفون جيدًا أن السيد حسن نصر الله وقف إلى جانبهم عندما أدار العالم وجهه عنهم. فرغم إعلان العالم تضامنه مع غزة، يظل اليمنيون يتذكرون خذلان العالم لهم كما خذلهم في اليمن، ويستذكرون بكل فخر دور حزب الله الذي نصرهم.
– البحرين
أظهر السيد الشهيد حسن نصر الله في موقفه من الثورة البحرينية شجاعة ووضوحًا سياسيًا وأخلاقيًا نادرين في المنطقة. فقد وصف البحرينيين بأنهم “شعب مظلوم خرج ليطالب بحقوقه الطبيعية، وليعبّر عن مطالبه بالأساليب السلمية والراقية، ودفع في سبيل ذلك حتى الآن الكثير من التضحيات، من شهداء وجرحى وآلاف السجناء والمعتقلين من علمائه ورموزه وقادته وشبابه ونسائه”. وكان يؤكد أن الثورة ليست مجرد احتجاج شعبي، بل حق مشروع للشعب في الحرية والكرامة والسيادة الوطنية.
وقد حذّر السيد مرارًا من أن ما يتعرض له الشعب البحريني من قمع وتعسف ليس مسألة داخلية فقط، بل قضية استراتيجية وأخلاقية، خاصة بعد أن حول الحكام المستبدون البلاد إلى قاعدة للتطبيع مع العدو الصهيوني ووسيلة للتآمر على القضية الفلسطينية ومقدسات الأمة: “كنا وسنبقى إلى جانبه في خياراته، في طريقه، في التزامه وفي سعيه إلى الحرية والكرامة والسيادة وحقوقه المشروعة”. يبرز هذا الموقف صدق السيد نصر الله ووضوحه في قول الحق، ويعكس التزامه بالدفاع عن الشعوب المظلومة.
– العراق
لقد كان العراق دائمًا في قلب اهتمامات السيد حسن نصر الله، حيث أظهر دعمًا ثابتًا لمقاومته ضد التواجد الأمريكي، معتبرًا أن مواجهة هذا الاحتلال ليست خيارًا بل ضرورة استراتيجية وأخلاقية. في عام 2003، قبيل الغزو الأمريكي للعراق، حذر السيد نصر الله بوضوح من طبيعة الحرب، مؤكدًا أن “الحرب الأميركية على العراق ليس هدفها إنقاذ الشعب”، وشدد على ضرورة رفض أي تعاون مع القوات الأمريكية، مضيفًا: “أي عون للأميركيين ليس عونًا على صدام حسين، هو عون على كل هذه الأمة وعون على فلسطين وانتفاضتها ولبنان وسوريا وكل دول العالم العربي والإسلامي”.
ومع تصاعد الهجمات الإرهابية في العراق، والتي شهدت ذروتها عام 2014 مع توسع نشاط تنظيم القاعدة ومن ثم ظهور داعش الوهابيين، وقف السيد نصر الله إلى جانب الشعب العراقي، مؤكّدًا دعم حزب الله للحشد الشعبي العراقي في مواجهته لهذه الجماعات الإرهابية، مشيدًا بالدور الذي لعبه الحشد في حماية سيادة العراق وأمنه. وكان أيضًا صاحب رؤية واضحة في كشف المخططات الأمريكية في المنطقة، محذرًا من أن الإدارة الأمريكية تسعى لضرب عناصر القوة الكامنة لدى الشعب العراقي والتي تمثل خط الدفاع الرئيسي ضد الإرهاب التكفيري، وقال: “لولا الحشد الشعبي لابتلع الأمريكيون العراق”.
– السعودية
كان شهيد الأمة من أبرز الشخصيات العربية التي تجرأت على قول الحق دون خوف، متبنيًا مواقف صريحة وواضحة ضد السياسات السعودية في المنطقة. فقد أدان العدوان السعودي على اليمن، واصفًا الحرب بأنها ظالمة استهدفت الشعب اليمني المظلوم، وأن السعودية لم تسع لحل سياسي أو لتحقيق استقرار، بل لإخضاع الشعب اليمني وإيقاف قدرته على مقاومة الهيمنة الأمريكية.
وتواصلت جرأته في موقفه من البحرين، حيث كشف دور السعودية في دعم النظام البحريني لقمع الثورة وإسكات صوت الشعب المظلوم، مستغلةً قوات درع الجزيرة لتنفيذ هذا القمع، مؤكدًا أن ما حدث لم يكن مسألة داخلية فحسب، بل قضية أخلاقية واستراتيجية تمس الأمة بأسرها.
وفي لبنان، برز موقفه في كشف محاولات السعودية إشعال الفتن الداخلية، من خلال دعمها السياسي والمالي لبعض القوى اللبنانية لمحاربة المقاومة، بما في ذلك دعمها لحرب تموز عام 2006 التي هدفت إلى إنهاء وجود المقاومة وفرض الهيمنة الإسرائيلية، ما أبرز فهمه العميق للمخططات الإقليمية.
كما انتقد دعم السعودية للجماعات التكفيرية في سوريا والعراق واليمن، معتبرًا هذا الدعم جزءًا من مشاريع الهيمنة الأمريكية والصهيونية، مؤكدًا أن المملكة لم تتردد في توجيه سلاحها السياسي والمالي والإعلامي لإضعاف قوى المقاومة والمستضعفين. من خلال هذه المواقف المتواصلة، برز السيد حسن نصر الله كشخصية عربية نادرة الجرأة، لم تتردد في مواجهة السياسات السعودية الظالمة، مدافعًا بوضوح وثبات عن المستضعفين وقوى المقاومة.
– إيران
كان يؤكد السيد الشهيد حسن نصر الله أن التحالف مع الجمهورية الإسلامية في إيران ليس تبعية بل شراكة استراتيجية قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، تشمل الدعم السياسي والإعلامي والشعبي والمعنوي. فالموقف تجاه إيران ينبع من أهداف استراتيجية أوسع، تتمثل في حماية الأمة والمقاومة، ومواجهة الهيمنة الأمريكية والصهيونية، والدفاع عن شعوب المنطقة المستضعفة، بعيدًا عن أي اعتبارات تكتيكية قصيرة المدى: “وكلنا يعرف أن الجمهورية الإسلامية تعاقب من قبل أمريكا لأنها أولًا متمسكة بدينها وإسلامها واستقلالها وسيادتها وحرّيتها، وترفض أن تصبح عبداً عند السيد الأمريكي، وترفض أن يصادر أحد قرارها أو ينهب أحد ثرواتها، كما يحصل مع دول أخرى في المنطقة. وهي تعاقب وتحاصر لأنها تقف إلى جانب شعوب المنطقة، وتساعد في إسقاط مشاريع الهيمنة والاحتلال والتكفير والتسلط”.
وكان يشير السيد نصر الله إلى الدور الحيوي لإيران في دعم قضايا المظلومين في المنطقة: “الجمهورية الإسلامية وقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني، ووقفت إلى جانب الشعب اللبناني، وببركة دعمها استطاعت المقاومة في لبنان أن تحرر الأرض وتستعيد الأسرى، وأن توجد توازن الردع مع العدو الإسرائيلي”.
كما كان لإيران الدور الأبرز في دعم العراق أثناء اجتياح داعش، ووقوفها إلى جانب سوريا في الحرب الكونية عليها، مؤكداً أن الجمهورية الإسلامية الملتزمة بمبادئها وبدفاعها عن المستضعفين لها حق علينا في الوقوف إلى جانبها على كل صعيد في مواجهة الحصار والعقوبات والضغط: “هذا أضعف الإيمان”.
بهذه المواقف وغيرها، يجدد السيد حسن نصر الله التأكيد على أن العلاقة مع إيران ليست تبعية ولا خضوعًا، بل تحالفٌ مبنيّ على المبادئ والقيم. وهو بذلك يمثل نموذجًا حيًّا للتحالف المبني على الثقة والاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة للأمة.
– فلسطين
كانت فلسطين في قلب خطابات السيد حسن نصر الله، حاضرة دائمًا كقضية محورية تختصر هموم الأمة وآمالها. لم يتعامل معها كمجرد قضية تضامنية، بل كمعيار لوعي الأمة وكرامتها، مؤكدًا أن ما يجري في فلسطين ينعكس على المنطقة كلها. لذلك حرص على إبقاء فلسطين في وجدان الشعوب، محذرًا من محاولات تهميشها أو تصفيتها عبر مشاريع التسوية والتطبيع. رأى السيد أن الموقف من فلسطين هو الموقف الفاصل بين الحق والباطل، فجدد مرارًا التزامه “الإيماني والعقائدي والجهادي بقضية فلسطين والقدس ووقوفنا إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم والمقاوم”، مشددًا أن إسرائيل “كيان غاصب سرطاني ليس له أي شرعية أو قانونية على الإطلاق ولن تكون”.
وكان يعتبر أن أي اعتراف بالكيان “وصمة عار”، وأن أي دعوة إلى التطبيع “لا تلزم إلا أصحابها” ولن تمر على شعوب الأمة. على مستوى العلاقة العملية، نسج حزب الله علاقة متينة مع حركات المقاومة الفلسطينية، فكان الداعم السياسي والإعلامي والمالي والعسكري لها، وفتح ساحته وخبراته لدعمها.
لقد قدّم الحزب نموذجًا عمليًا يثبت أن وحدة الساحات بين لبنان وفلسطين ليست شعارًا، بل التزامًا ميدانيًا واقعيًا، ما جعل المقاومة الفلسطينية أكثر صلابة وقدرة على الاستمرار.
طوفان الأقصى..
الامتحان المفصلي شكّلت معركة طوفان الأقصى محطة مفصلية في اختبار صدق المواقف ووعي الأمة. في وقت فشل فيه كثيرون، وكان الصمت أو التواطؤ هو السمة الغالبة في المواقف العربية والإسلامية، خرج السيد نصر الله ليحدد البوصلة منذ اللحظة الأولى: نحن مع فلسطين مهما بلغت التضحيات، ومهما كانت التهديدات.
قال بوضوح: “العبرة ليست بالأكثرية، بل بالبحث عن الحق سواءً كانت معه الأكثرية أو الأقلية”، ليكشف أن معيار الموقف ليس حجم التأييد الدولي أو العربي، بل الالتزام بالمبادئ الثابتة. وأعلن أن المقاومة في لبنان ماضية في ما بدأته في 8 تشرين الأول، معتبرًا أن جبهات الإسناد في لبنان واليمن والعراق وسوريا وإيران تمثل الوجه المشرق للأمة في مقابل خذلان الحكام. ورغم الشهداء والدمار والتهديدات، كان يقول: “هل يمكن أن نتراجع؟ هل يمكن أن نخاف؟ هل يمكن أن نتخلى عن المسؤولية؟… ليكن الصديق على يقين وليكن العدو على يقين أنّنا سنمضي في هذا الطريق حتى نصل إلى الهدف”.
كان السيد يعلم تداعيات المشروع الذي يُحاك ضد فلسطين، فقال: “سبعة تشرين هو مفصل تاريخي، وما قبل طوفان الأقصى ليس كما بعد طوفان الأقصى على كل صعيد، بالنسبة للعدو وبالنسبة للصديق وبالنسبة للمنطقة، حتى بالنسبة للعالم.” بهذا الموقف، أثبت السيد حسن نصر الله أن فلسطين لم تكن قضية ثانوية أو ورقة ضغط، بل جوهر مشروع المقاومة. فكانت خطبه في زمن طوفان الأقصى بمثابة إعلان قاطع أن البوصلة لم ولن تنحرف، وأن حزب الله سيبقى في قلب المعركة مهما تعاظمت الضغوط والتهديدات.
فلسفة الخطاب
لقد حملت خطب السيد حسن نصر الله إرثًا إسلاميًا وأخلاقيًا غنيًا، يعكس عمق الوعي الديني والسياسي والاجتماعي، ويظهر كيف يمكن للخطاب أن يكون أداة لبناء الفرد والمجتمع على قيم الحق والعدل والصبر، مستلهماً من التاريخ الإسلامي وتجارب المقاومة الحديثة، مع ربط الأمة بمبادئها الأساسية ومقاومتها للظلم والاحتلال.
– البُعد العاشورائي
تتجلى في خطاباته البوصلة الحسينية العاشورائية بشكل واضح، إذ يستلهم نهج الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة الظلم والباطل، ويعتبر الثبات والمقاومة والمبادرة بالحق جزءًا من التزام ديني وأخلاقي. فقد أكد السيد نصر الله: “في هذه المعركة، سواء مع العدو الإسرائيلي أو مع المشروع الأمريكي التكفيري.. نحن أيضًا في هذه المعركة لن نتراجع… من يفكر أن يتراجع فهو كمن يترك الحسين عليه السلام”.
هذا البُعد، يظهر أن قيم كربلاء ليست مجرد سرد تاريخي، بل منهج عملي لبناء مجتمع مقاوم ملتزم بالقيم الدينية والوطنية. كما يشدد على حضور المؤمن في كل ميادين الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، وأن التضحيات جزء من الالتزام بالحق.
– الوحدة الداخلية والإسلامية
يركز خطاب السيد على وحدة الأمة كشرط أساسي للقوة والمقاومة، معتبرًا أي انقسام داخلي خدمة للأعداء: “المقاومة في لبنان انتصرت بهذا التعاون والتضامن، والمقاومة في فلسطين تنتصر عندما تتوحد داخليًا ومع محور المقاومة”. ويحذر من مخاطر التقسيم على أسس عرقية وطائفية، مؤكدًا أن أي مشروع تقسيم يسعى إلى إبقاء الدول متصارعة ومتحاربة لعشرات السنين. ويربط الخطاب المسؤولية الكبرى بالعلماء والقادة لمنع الفتن والعمل على التقارب، مشددًا على أن الوحدة ليست شعارًا بل واجبًا دينيًا واستراتيجيًا يضمن حماية الأمة واستمرار مقاومتها.
– القيم الأخلاقية والعبر التاريخية
يركز الخطاب أيضًا على منظومة القيم الأخلاقية والتربوية التي تهدف إلى بناء مجتمع مثالي. فيصدر العدل ورفض الظلم كقيم أساسية، حين يقول: “نحن نحيي عاشوراء رفضًا للظلم وإعادة الأمة إلى قيم الحق والعدل”. كما يشدد على الصدق وحسن الجوار، ويعتبر أن الصدق أساس العلاقات الإنسانية والمجتمعية، وأن حسن الجوار جزء من الإيمان.
ويركز على قيمة الصبر كركيزة أساسية في مواجهة الأزمات، مستشهداً بالقرآن الكريم: “وَٱسۡتَعِينُواْ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلۡخَٰشِعِينَ”.
كما يولي أهمية للـ إنفاق والبذل في سبيل الله، معتبرًا أن الإنفاق من خصائص المؤمنين، ويؤدي إلى رضا الله ونجاح المجتمع. ويستشهد بمواقف الشهداء والأصحاب الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل الحق، مؤكدًا قيمة الوفاء وعدم الخيانة والالتزام بالقيم الحسينية في مواجهة الإغراءات والضغوط. ويشير أيضًا إلى خطر حب الدنيا والانحراف عن نصرة الحق، مؤكدًا أن الالتزام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشكل أساسًا لبناء مجتمع صالح وملتزم بالقيم الإسلامية، ويشمل الصدق، أداء الأمانة، مساعدة الفقراء، صلة الرحم، وأداء الحقوق.
تمثل خطب السيد الشهيد حسن نصر الله بمثابة البوصلة التي توجه الأمة في خضم الأحداث والتحولات. فكلما مرت السنوات وتبدّلت الظروف، يزداد وضوح الرؤية عند العودة إلى خطاباته، حيث نجد فيها قراءة دقيقة للواقع وتحليلاً عميقًا لكل محاولة للتآمر أو الالتفاف على حقوق الشعوب.
إنها خُطب تستشرف المستقبل وتكشف الغيب السياسي والرسمي والميداني، فمع كل حدث جديد، نجد أنفسنا نعود إليها لنكتشف ما كان السيد يقول وما كان يقصد، متيحًا للأمة فرصة فهم الواقع، استلهام الدروس، وتثبيت البوصلة نحو الحق والمقاومة والوحدة. لتظل مواقفه نبراسًا للأمة، تعلمها كيف تصون وحدتها، وتدافع عن كرامتها، وتبني مجتمعًا مؤمنًا وقويًا قادرًا على مواجهة التحديات، محافظًا على إرثه الإسلامي والأخلاقي. وهكذا، يظل السيد الشهيد رمزًا خالدًا في التاريخ، قائدًا ومثالًا يُستلهم منه الصبر والمقاومة، والشجاعة في قول الحق، والوفاء للأمة، والدفاع عن قيمها ومقدساتها مهما بلغت التضحيات.
مراة الجزيرة