بعد عام على الاغتيال.. المقاومة فرضت حضورها في معادلة الميدان والسياسة
في الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد السيد حسن نصر الله، لا يزال المشهد اللبناني والإقليمي يعيش ارتدادات ذلك الحدث الذي وصفته الصحافة العالمية بـ «الزلزال السياسي والأمني». إذ لم تكن تلك العملية مجرد عملية عسكرية مركزة أو ضربة أمنية استباقية، وبحسب أحدث كتاب في كيان العدو عن شخصية السيد بعنوان “نصر الله أسطورة لم تمت”، (المؤلفان ضابطان رفيعان في الاستخبارات العسكرية)، فقد كان اغتياله “لحظة تاريخية حركت صفائح تكتونية أدت إلى نشوء واقع جديد. ومن فهم ارتداداتها الإستراتيجية على الشرق الأوسط، بالأمس واليوم وربما غدًا، يجب أن يفهم الرجل الذي اسمه حسن نصر الله”. وهو ما يؤكد مجددًا على أن العدو هدف من وراء هذه العملية إلى تغيير مسار الصراع وإعادة صياغة توازنات القوى في لبنان والمنطقة، وتفكيك منظومة فكرية وعسكرية وإعلامية شكّلت حجر الزاوية في مشهد الردع مع “إسرائيل”.
لكن التجربة أظهرت حتى الآن، رغم الخسارة الكبيرة بالمعنى الوجداني والعملي، أن ما أُريدَ له أن يكون نهاية مسار المقاومة، تحوّل إلى بداية مرحلة جديدة، أعادت إنتاج حضورها في مستويات سياسية وعسكرية واجتماعية وإعلامية.
بنى العدو رهانه الأول على أنّ اغتيال السيد حسن نصر الله سيؤدي تلقائيًّا إلى شلل في البنية التنظيمية والقرار الميداني للمقاومة. فالصورة النمطية في المخيلة الأمنية “الإسرائيلية” تفترض أن القائد المركزي هو صمام الأمان والمحرّك الأوحد للقرار. لكن الوقائع التي تكشّفت بعد الاغتيال أظهرت أنّ البنية التنظيمية أوسع وأكثر مرونة مما تخيّل صانع القرار “الإسرائيلي”. خلال أيام قليلة وتحت النيران والهجوم “الإسرائيلي” التدميري أعيد توزيع المسؤوليات، وبرزت قيادات كانت تعمل في الظل، واستمرّ العمل وفق خطط معدّة مسبقًا تعكس فهمًا عميقًا وصمودًا واستعدادًا للتضحية.
الرهان الثاني للعدو كان خلق فراغ عسكري ومعنوي يسمح له باستعادة المبادرة في “الجبهة الشمالية”، وربما التقدم في ساحات أخرى. كان الاعتقاد أن المقاومة ستنكمش وتفقد قدرتها على إدارة الاشتباك، فينهار ميزان الردع الذي بناه السيد حسن نصر الله على مدى سنوات. لكن ما حصل أن المقاومة لم تتراجع، بل طوّرت قواعد اشتباك جديدة وأظهرت قدرات صاروخية واستخبارية متقدمة، في بعض الحالات أكثر دقة وتنظيمًا مما كان قبل الاغتيال، ما أرسل رسالة عكسية تمامًا للعدو وحلفائه.
والصدمة الكبيرة تجلت عندما اتضح للعدو أن الحسم لم يتحقق، بل واجه فرق جيش العدو التي حاولت اجتياح جنوب لبنان مقاومة أسطورية منعت تقدمه إلى العمق الجنوبي، وأبقته على الحافة الأمامية.
في حسابات العدو، كان ينبغي أن يؤدي اغتيال السيد نصر الله، إلى صدمة شعبية تفقد القاعدة الاجتماعية للمقاومة تماسكها، فتتراجع الولاءات وينكفئ الجمهور عن مشروع المواجهة. لكن النتائج جاءت معاكسة، فقد تحولت ذكرى الاغتيال إلى حدث تعبوي، وأصبحت صورة القائد الشهيد حاضرة بقوة في الشارع اللبناني والعربي والإسلامي. وارتفع منسوب الالتفاف الشعبي، واتسعت الدائرة الرمزية للمقاومة خارج حدود الطائفة أو المنطقة الجغرافية، وأعيد إنتاج السردية الجامعة التي تتخطى الشخص لتحتضن الفكرة.
أراد العدو استثمار الحدث للضغط على لبنان وإرباكه سياسيًّا، وخلق بيئة دولية داعمة لإجراءات تضييق على المقاومة، وربما دفع الأطراف الداخلية إلى مراجعة خياراتها. لكن الاغتيال أفرز دينامية معاكسة؛ إذ تحصّن لبنان الرسمي بصمود المقاومة، وازدادت الحساسيات الوطنية تجاه أي مساس بالسيادة، وفرضت المقاومة حضورها في معادلة الميدان والسياسة، وانكشف لكل المتربصين أن المقاومة كانت ولا تزال جزءًا رئيسًا من المعادلة.
في الإعلام، كان الرهان أن يُحوَّل القائد إلى ذكرى باهتة أو أن يُربط اسمه بالهزيمة أو الانكسار. لكن المعركة الإعلامية انقلبت رأسًا على عقب. تحولت ذكرى الاغتيال إلى موسم لتجديد الخطاب المقاوم، وامتلأت الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي بصور ومقولات السيد حسن نصر الله كرمز للصمود والتحدي. حتى في الإعلام الغربي ظهرت تحليلات تشكك في جدوى هذا النوع من العمليات وتعتبره «خطأ إستراتيجيًّا» منح خصوم “إسرائيل” سلاحًا معنويًّا جديدًا.
بعد عام كامل، يتبين أن العدو حقق مكاسب مهمة على مستوى «التخلّص من قائد»، لكنه لم ينجح في أن يمتد ذلك إلى المشروع والخيارات الإستراتيجية لأبناء المقاومة. فبدل أن يتراجع مشروع المقاومة، تسارعت فيه التحولات البنيوية، وتجدّد في قيادته، واتسعت رمزيته. وظهرت ملامح إعادة حزب الله بناء قدراته، كما تؤكد الاستخبارات الأميركية و”الإسرائيلية”، وهو ما يُفسر الأداء السياسي والأمني في واشنطن و”تل أبيب”، ما جعل المعادلة بالمعنى الواسع، أكثر تعقيدًا من قبل.
تكشف تجربة اغتيال السيد حسن نصر الله، أن رهانات العدو كانت محكومة بمنطق قديم لا يقرأ طبيعة الحركات ذات الامتداد الشعبي والفكري. فغياب القائد هنا لم يكن نهاية مشروع، بل بداية دورة جديدة أكثر رسوخًا. تحوّل الشهيد إلى رمز جامع وفكرة متجددة، وأعاد إنتاج المقاومة في مستويات تتخطى حدود الفرد إلى نطاق الأمة والفكرة والوجدان.
الغياب الذي أُريد له أن يفرّغ الساحة من رمزها الأكبر تحوّل إلى حضور مضاعف في الوعي والسلوك والسياسة والإعلام. بهذا المعنى، أصبح «الغياب أقوى من الحضور» في مفاعيله، فالقائد الذي أُغتيل جسده بقي حاضرًا في الإستراتيجية، في خطاب الردع، في التعبئة الشعبية، وفي استمرارية المشروع المقاوم. وهكذا تحوّل الاغتيال من كونه أداة إنهاء إلى كونه شرارة إحياء، ومن رهان على تفكيك بنية إلى رهان خاسر يعزز ما كان يُراد إضعافه.
العهد