السيد نصر الله.. أربعون عامًا من القيادة الجهادية.. مدرسة في الإيمان والبطولة

استشهاد القائد: روحٌ باقية ومنارة لكل الأحرار عبر العالم
من التحرير إلى الردع.. محطات صنعت هيبة لا تُقهر

الحقيقة ـ جميل الحاج 

في الذكرى الأولى لاستشهاده، يظلّ اسم السيد حسن نصر الله أيقونة جهادية لا تغيب عن وجدان الأمة، وقائدًا استثنائيًا خطّ مسيرة مقاومة حافلة بالانتصارات ضد الاحتلال الإسرائيلي والإرهاب التكفيري. لم يكن السيد مجرد أمين عام لحزب الله، بل القائد العسكري الأعلى للمقاومة حتى آخر لحظة من حياته، وصاحب البصمات الأوضح على مسارها العسكري والتنظيمي والاستراتيجي.

ثبات الموقف ورفض الهيمنة:

تميّز السيد نصر الله بمواقف سياسية ثابتة تتسم بالعداء المطلق للكيان الصهيوني ورفض كل أشكال الهيمنة الأميركية والغربية. وفي الوقت نفسه، حرص على بناء علاقات وثيقة مع إيران وسائر أطراف محور المقاومة في فلسطين والعراق واليمن، ما جعله ركيزة أساسية في هندسة التحالفات الإقليمية. أما في الداخل اللبناني، فاعتمد نهج الحوار والمشاركة في بناء الدولة، مع التشديد على السيادة ورفض التبعية، وحرص على محاربة الطائفية والتكفير والفساد، رابطًا ذلك بمفهوم المواطنة وصون كرامة الوطن.

قائد إنساني وصوت المستضعفين:

لم يكن السيد نصر الله قائدًا عسكريًا فحسب، بل جسّد في سلوكه اليومي وبعده العاطفي قيمًا إنسانية بارزة. فقد ظهر في خطاباته متعاطفًا مع المعاناة الإنسانية، متواضعًا وعفويًا مع جمهوره، صلبًا وحازمًا أمام خصومه. جمع بين المرونة الفكرية والسياسية والتسامح مع الاختلافات، مع نزعة دائمة إلى نقد الذات والتأكيد على الصمود والثقة بالمستقبل. وبذلك استطاع أن يرسّخ صورة القائد القريب من الناس، وفي الوقت ذاته الثابت على المبادئ.

ثقافة واسعة ورؤية معرفية:

امتلك السيد ثقافة دينية وسياسية عميقة، واطلاعًا على التجارب الثورية والعسكرية. عمل على بناء منظومة معرفية داخل الحزب، قائمة على جمع المعلومات وتحليلها، وتحفيز التفكير الاستراتيجي. كما اعتمد الإعلام كأداة تعبئة وكوسيلة لبناء الوعي الجمعي. اتبع أسلوب قيادة تشاركي، مشركًا الخبراء والمحللين في صناعة القرار، ما عزز من قدرة الحزب على التكيف مع المتغيرات. وشجع على التعلم المستمر وبناء ذاكرة تنظيمية تحفظ التجارب وتراكم الخبرات.

الجهاد كمشروع شامل:

نظر السيد نصر الله إلى الجهاد باعتباره واجبًا دينيًا ووطنيًا وإنسانيًا. لم يحصر المواجهة بالبعد العسكري فقط، بل وسّعها لتشمل الإعلام والسياسة والاقتصاد، مؤكدًا على مفهوم “جهاد التبيين” لتوضيح الحقائق ومواجهة التضليل. هذا المفهوم ارتبط بمناصرة المستضعفين في كل مكان: من فلسطين والعراق واليمن، وصولًا إلى قضايا عالمية مثل البوسنة. وبهذا، قدّم صورة الأمين العام باعتباره “المعلّم” الذي يربي الأجيال على ثقافة المقاومة وقيم الحرية.

عقود من البناء والإبداع العسكري:

قاد السيد نصر الله عملية بناء القوة العسكرية للمقاومة برؤية إبداعية غير تقليدية. فقد جمع في سلوكه بين التواضع والدقة المفرطة، واعتبر أن مشروعية العمل المقاوم تقوم على ركيزتين: أحقية القضايا العادلة، وعلى رأسها فلسطين وتحرير الأرض المحتلة، واعتبار الجهاد واجبًا دينيًا وأخلاقيًا وإنسانيًا.

مفاصل بناء القوة:

* البعد التعبوي المجتمعي:  عمل على خلق مجتمع مقاوم يستلهم من روح الحسين (ع)، محوّلًا الإيمان إلى قوة دفع جماهيرية.

*  البعد التنظيمي:  ابتكر نموذجًا تنظيمياً يجمع بين التأطير والتعبئة والسرية، ما جعل المقاومة عصيّة على الاختراق.

* الإعداد والتدريب: أشرف شخصيًا على وضع أسس التدريب، جامعًا بين عصرنة المهارات العسكرية وترسيخ أسلوب قتال مرن وغير نمطي.

من المقاومة المحلية إلى اللاعب الإقليمي

في عهد السيد نصر الله، انتقلت المقاومة من قوة تحرير محدودة الإمكانات إلى لاعب إقليمي بارز. بعد حرب تموز 2006، تطورت قدرات المقاومة بشكل نوعي، فامتلكت ترسانة صاروخية ومسيرات متطورة قادرة على ضرب مواقع حساسة في عمق الكيان الإسرائيلي، لتفرض بذلك معادلات ردع جديدة لم تكن واردة في الحسابات العسكرية التقليدية.

سيد الحرب النفسية:

إلى جانب الميدان العسكري، برع السيد نصر الله في الحرب النفسية. فكل إطلالة إعلامية له كانت تُعدّ جولة مواجهة مع الكيان الإسرائيلي، تُضعف معنوياته وتعزز ثقة جمهور المقاومة. بلغ تأثيره حدّ أن المراكز الإسرائيلية خصصت دراسات مطولة لتحليل خطاباته وإشاراته الجسدية. وفي إدارة الصراع، اعتمد على استراتيجية النفس الطويل، والمناورة السياسية، وبناء الردع على أسس متينة دون المساس بالثوابت.

البعد الاجتماعي والتنموي:

لم تقتصر مساهماته على الساحة العسكرية والسياسية، بل امتدت إلى بناء شبكة مؤسسات اجتماعية وصحية وتعليمية، ودعم المرأة والطفل، ورعاية أسر الشهداء والجرحى. هذه المؤسسات لم تكن مجرد خدمات، بل جزءًا من ثقافة الصمود الوطني والتكافل المجتمعي.

إرث خالد يتجاوز الحدود:

يصعب اختصار مسيرة السيد حسن نصر الله في تقرير واحد. فهو القائد العسكري والمفكر الاستراتيجي، والثائر الأممي وصوت المستضعفين. شخصيته جمعت بين الأبعاد الدينية والسياسية والفكرية والتنظيمية، ما جعلها مؤثرة في الداخل اللبناني وفي الإقليم على حد سواء. اعتمد في رؤيته على مزيج من العقيدة الإسلامية والفكر الثوري، مستندًا إلى ولاية الفقيه كمرجعية، ومعتبرًا المقاومة المسلحة حقًا مشروعًا للدفاع عن الأرض والسيادة.

ختاماً: في ذكرى استشهاده، يبقى السيد حسن نصر الله منارة للأحرار والمجاهدين في كل مكان. لقد أثبت أن الإبداع القيادي والرؤية الدقيقة قادران على تغيير موازين القوى، وإلحاق الهزيمة بأعتى قوى الاستكبار.

إرثه لم يتوقف باستشهاده، بل أصبح طريقًا مرسومًا نحو القدس، ومشروعًا يرسّخ معادلة أن الاحتلال الإسرائيلي إلى زوال، وأن فلسطين في قلب كل مواجهة حتى التحرير الكامل.

قد يعجبك ايضا