السيد نصر الله: عامٌ على الغياب الحاضر
في السابع والعشرين من أيلول 2024 هزّت الضاحية الجنوبية لبيروت -بل كل أنحاء العاصمة- إنفجارات ضخمة متتالية بَدَت غريبة في قوّتها، ليتبين فيما بعد أنها غريبة أيضا في وقعها على المقاومة اللبنانية وجمهورها. كانت أطنان المتفجرات التي نزلت على حارة حريك تستهدف الأمين العام السابق لحزب الله، السيد حسن نصر الله، ارتًقى على إثرها شهيدا على طريق القدس.
في الأيام الأولى من بدء الحرب الإسرائيلية الشاملة على لبنان –التي بدأت في 23 أيلول- وقبل السنوية الأولى لمعركة طوفان الأقصى، ألقت القوات الجوية للعدو الإسرائيلي قنابل خارقة للتحصينات (Bunker-Buster bombs) ، على منطقة حارة حريك في الضاحية الجنوبية، يُرجح أنها من طراز BLU-109، بقدرة تدميرية كبيرة لاختراق الخرسانة المسلحة.
أكثر من 80 قنبلة، بحمولة إجمالية تقارب 83 طناً من المتفجرات، تم إسقاطها على المربع السكني الضيّق. أدى هذا الحجم غير المسبوق من القصف إلى تدمير ما لا يقل عن ستة مبانٍ، وخلّف فوّهة عميقة في موقع العملية.
الهدف المباشر كان اختراق التحصينات والوصول إلى الطوابق السفلية حيث كان يعقد الاجتماع الذي ضمّ السيد إلى جانب شخصيات أخرى.
الإستهداف، إلى جانب استشهاد السيد نصر الله، أدى أيضا إلى استشهاد علي كركي، قائد الجبهة الجنوبية لحزب الله، إلى جانب عدد من القادة الكبار الآخرين. كما استُشهد عباس نيلفروشان، نائب قائد الحرس الثوري الإيراني وقائد فيلق القدس في لبنان.
على الرغم من الاختلافات العميقة بين مكوّنات الشعب اللبناني، إلا أنهم اتّحدوا في أغلبهم على استنكار الجريمة المروّعة التي أودت بحياة شخصية شكّلت على مدار ثلاثة عقود وجه البلاد و”درّة لبنان الساطعة”. لم يُفاجأ جمهور المقاومة بأن سيّدهم مات شهيدا، بل هذا ما كان مُنتظرا ومُتوقّعا، خاصة في ظل الظروف التي كانت قائمة، وما تزال في المنطقة، والمفصل التاريخي الذي تعيشه القضية الفلسطينية.
لكن رغم ذلك كانت الصدمة هي سيدة الموقف. لم تكن بسبب الشهادة نفسها، بل بسبب ضبابية المشهد القادم، والحاجة المعنوية الملحّة التي كان يعايشها جمهور المقاومة لشخص السيد وكلماته وصوته في ظل الحرب الصهيوينة الأميركية على لبنان والمنطقة. كَثُرت الروايات التي تحدّثت عن تفاصيل العملية على حارة حريك، بين من يقول أن الخرق كان تقنيا بحت، والبعض الآخر يتحدث عن خرق بشري أكيد، والآخر يرجّح الدمج بين الخرقين. وقد أفادت وسائل إعلام عبرية مختلفة، على نحو خاص بالتزامن مع حلول الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد السيد حسن نصر الله، بنشر تفاصيل واسعة النطاق حول العملية العسكرية والاستخباراتية التي أدت إلى الاغتيال في سبتمبر 2024.
لا تُقدم هذه التقارير رواية متماسكة فحسب، بل يزعم المسؤولون الإسرائيليون أنها تكشف عن تخطيط معقد وطويل الأمد. تُشير هذه الرواية إلى أن العملية لم تكن مجرد ضربة جوية عادية، بل تتويجاً لعمل استخباري دقيق بدأ بعد حرب عام 2006.
تزعم التقارير أن المرحلة الحاسمة والأكثر خطورة من العملية جرت بتسلل عملاء من جهاز الموساد الإسرائيلي إلى حي حارة حريك في الضاحية الجنوبية لبيروت، تحت غطاء القصف الجوي، بهدف زرع أجهزة متطورة داخل المبنى الواقع فوق المقر السري المستهدف تحت الأرض. يُقال إن هذه الأجهزة، التي يزعمون أنها طُورت خصيصاً، كان هدفها تمكين تحديد الموقع بدقة بالغة واختراق المخابئ شديدة التحصين.
وقد بُنيت هذه الخطوة على معلومات استخباراتية تفيد بأن السيد نصر الله كان سيعقد اجتماعاً مهماً مع القائد الإيراني نيلفروشان، والقيادي في حزب الله، كركي، في غرفة العمليات.
ويُزعم أن وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك أمر بزيادة عدد القنابل لتصفير إحتمال نجاة السيد نصر الله من الضربة.. بصورة عامة، سعت هذه التقارير إلى التأكيد على أن العملية جمعت بين العمل الاستخباري الميداني والقوة الجوية الفائقة.
لم يكن اغتيال السيد حسن نصر الله مجرد استهداف لشخصية سياسية أو عسكرية عابرة، بل كان استهدافاً لـ الأمين العام الثالث لحزب الله الذي تولى قيادته في عام 1992 بعد اغتيال سلفه السيد عباس الموسوي. طوال ثلاثة عقود، ارتبط اسم نصر الله ارتباطاً وثيقاً بكل تحول كبير في تاريخ المقاومة اللبنانية وفي الصراع الإقليمي.
منذ حرب يوليو 2006 التي قاد فيها الحزب لمواجهة عدوان إسرائيلي شامل، وصولاً إلى التدخل في الصراع السوري، ووضع “معادلات الردع” التي حكمت قواعد الاشتباك لعقد ونصف، كان صوته وخطابه يشكّلان بوصلة للمحور الذي ينتمي إليه. لقد نجح في صياغة مفهوم المقاومة في لبنان وفي توسيع نفوذ الحزب وقدراته العسكرية بشكل غير مسبوق، محولاً إياه من حركة محلية إلى قوة إقليمية فاعلة ومؤثرة.
وباغتياله، كانت التداعيات على الساحة اللبنانية والإقليمية فورية وواسعة النطاق. بعد تأكيد الخبر رسمياً صباح يوم 28 سبتمبر 2024، دخل لبنان في حالة من الحداد غير المسبوق والتأهب الأمني الشديد. في المقابل، رحّبت الأوساط الرسمية والشعبية في إسرائيل بالعملية، معتبرين إياها إنجازاً استراتيجياً هائلاً يهدف إلى تفكيك بنية القيادة العليا لحزب الله وإرباك بيئته.
كما شهدت ردود فعل دولية جاءت متباينة، حيث أدانت قوى إقليمية رئيسية، خاصة في محور المقاومة، العملية بشدة، وتعهدت بمواصلة الدعم للقضية الفلسطينية والمقاومة اللبنانية. على الصعيد الغربي، صدرت بيانات حذرة دعت إلى ضبط النفس وتجنب التصعيد، بينما رأت دول أخرى في الاغتيال محطة فاصلة قد تعيد رسم خريطة الصراع في المنطقة.
مرآة الجزيرة