في ظل الصمت والتطبيع العربي: إسبانيا تقود الضمير الأوروبي وجماهير إيطاليا تعرّي النظام الصهيوني

في مشهد يعكس انقلابًا أخلاقيًّا صادمًا ويعزز مفارقات مثيرة للشفقة والاستنكار في آن، تتقدم إسبانيا وإيطاليا في الموقف من القضية الفلسطينية -التي لا يجمعها بها لا دين ولا لغة ولا جغرافيا- وتقفان في طليعة المدافعين عن غزة، بينما تتراجع، أو تتخاذل، بل حتى تشارك أنظمة عربية وإسلامية في دعم آلة الحرب الصهيونية، رغم أن فلسطين قضيتها الأولى، ودم أهلها دمها، وقضيتها جوهر هويتها.

 إسبانيا من الموقف الأخلاقي إلى الفعل الاستراتيجي

تتقدم إسبانيا -حكومة وشعباً- في الموقف الإنساني المساند لفلسطين خطوات عن الموقف الأوروبي وحتى عن المواقف العربية والاسلامية، إجراءاتها المتخذة ضد الكيان تغطي جميع المستويات السياسية والعسكرية والاقتصادية، متجاوزة حالة التماهي الأوروبي وحتى التخاذل العربي، والتصريحات إلى قيادة حراك دولي رائد في الموقف و الفعل.

لم تكتفِ الدولة الإسبانية بمواقف شعبية هي  الأقوى على مستوى أوروبا وتصريحات دبلوماسية رمزية لحكومتها، بل تحركت بخطوات عملية وجريئة تضعها في طليعة الدول التي تربط مصالحها الأمنية والتجارية بالتزاماتها الإنسانية، فقد أقرّت الحكومة الإسبانية في 23 سبتمبر 2025 مرسومًا ملكيًّا يفرض حظرًا شاملاً على تصدير أو استيراد أي أسلحة أو تقنيات ذات استخدام مزدوج مع الكيان الصهيوني، تحت عنوان صريح: “مكافحة الإبادة الجماعية في غزة”.

الأكثر تأثيرًا أن مدريد منعت الولايات المتحدة من استخدام قاعدتي “روتا” و”مورون دي لا فرونتيرا” العسكريتين لعبور شحنات أسلحة متجهة إلى العدو الإسرائيلي، ما يُعدّ ضربة مباشرة لخطوط الإمداد اللوجستي التي يعتمد عليها جيش الاحتلال في ارتكاب جرائمه اليومية. وتماشيًا مع هذا التوجه، ألغيت صفقات تسليح إسرائيلية كانت تُقدّر بمئات الملايين من اليوروهات، بما في ذلك أنظمة صاروخية ومعدات ملاحة جوية متطورة.

ولم يقف الأمر عند الحظر العسكري، بل أعلن عن خطة وطنية للتخلص من كل التقنيات والأسلحة الإسرائيلية في الترسانة العسكرية الإسبانية، في خطوة تقطع أي شكل من أشكال التعاون غير المباشر مع آلة الحرب الصهيونية.

وإذا كان القرار الحكومي يعكس رؤية استراتيجية، فإن موقف الملك فيليب السادس يُجسّد الضمير الإنساني للدولة، فقد وقف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليعلن بصوتٍ لا يحتمل التأويل: “لا يمكننا أن نصمت أو نغض الطرف عن تدمير المدارس والمستشفيات، وقتل المدنيين وتجويعهم في غزة”، معتبرًا أن ما يجري “يندي له الجبين وهو عار على المجتمع الدولي”.

 إيطاليا: حراك شعبي متصاعد ومواقف عمّالية مؤثرة

في الجهة المقابلة من البحر الأبيض المتوسط، لا تقلّ إيطاليا شجاعةً أو فاعلية، ففي ميناء جنوة يواصل عمال الموانئ -بدعم من نقاباتهم وقوى المجتمع المدني- التصدي المباشر لسفن العدو الإسرائيلي، ومنعها من تحميل أسلحة أو إمدادات عسكرية. ففي 28 سبتمبر، منع العمال تحميل 10 حاويات أسلحة على متن الناقلة الإسرائيلية “زيم نيوزيلاند”، وأجبروها على المغادرة فارغة، قبل أن يخرجوا في تظاهرة حاشدة تُعلن أن “الميناء ليس مكانًا لمرور السلاح، ولا للتواطؤ مع كيان يرتكب إبادة جماعية”، وهي التظاهرة التي سجلت مواقف متقدمة هددت بخطوات عملية أقوى ربطاً بالجرمية الصهيونية في غزة.

ولا يقتصر الحراك على جنوة وحدها، فقد أعلن اتحاد عمال الموانئ في إيطاليا -قبل أسابيع- أن النقابة “ستغلق أوروبا بأكملها” إذا انقطع اتصال أسطول مساعدات غزة، مهدّدًا بإعلان إضراب شامل يشلّ حركة الموانئ في قلب القارة. وفعلاً، شهدت أكثر من 75 مدينة إيطالية إضرابًا وطنيًّا ومسيرات حاشدة في روما وغيرها، دعماً لغزة واحتجاجًا على الدعم اللوجستي الذي تقدمه الحكومة الإيطالية لـلكيان المحتل.

أوروبا تتحرك والعرب يطبعون

في المقابل، تغرق أنظمة عربية في مستنقع التطبيع والخيانة، فبينما تقف مدريد وجنوة كحاجزين أمام تدفق السلاح إلى العدو الإسرائيلي، تواصل دول مثل الإمارات والبحرين والمغرب ومصر علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع الكيان، في إطار ما يُعرف بـ”اتفاقيات إبراهام” التي وقّعت عام 2020، بل إن بعض هذه الأنظمة تتجاوز التطبيع الى تطبيع اقتصادي وسياسي كبير، ولا تتردد في تقديم دعم لوجستيٍّ واقتصادي مباشر للعدو الإسرائيلي خلال حربه على غزة، وفق تقارير استخباراتية وصحفية معلنة وخفية.

والموقف العربي الرسمي -باستثناءات نادرة- ظلّ “محتشمًا وضعيفًا”، لا يتجاوز “الشجب والبيانات الفضفاضة”، بل إن بعض العواصم العربية، التي تدّعي حماية الأمة، تفتح أجواءها وموانئها وقواعدَها أمام الطائرات والسفن الأمريكية والإسرائيلية، في صمتٍ مطبق أو تواطؤٍ صريح، وهو مشهد يدعو للمقارنة مع المواقف الأوربية آنفة الذكر، وتشير قطعاً إلى حالة ارتداد غير مسبوقة تعيشها الأنظمة العربية، وتعم نخبها، ولا تبرأ منها حتى الشعوب العربية التي لم تعد بريئة و لا معذورة بعد كل الذي حصل ويجري في غزة وفلسطين عموماً، وهو أمر يكشف عن فجوة سحيقة بين الشعوب وأنظمتها، وبين  الشعوب وهويتها الدينية وامتداداتها الحضارية، ويجعل من مواقف إسبانيا وإيطاليا أكثر نُبلًا، لأنها تأتي من خارج دائرة الواجب الديني أو القومي، بل من منطلق إنساني خالص.

مفارقات فاضحة

بين موقفٍ إسباني حكومي وشعبي متقدم يترجم المبادئ إلى سياسات فعلية، وحراك إيطالي شعبي يُجسّد روح النبل الإنساني، يبرز الموقفان كمنارة أخلاقية لافتة وسط المجتمع الأوربي الغارق بالتواطؤ والشراكة مع الصهاينة، يصح القول إن كل موقف يسند فلسطين ويقف مع غزة يفضح في الوقت ذاته الموقف العربي السلبي، ويكشف عن وضع غير طبيعي يعيشه العرب ويعتري المسلمين عموماً، و اليمن هنا استثناء جريء عن الحالة العربية المتردية والمنقلبة على ذاتها.

أنصار الله

قد يعجبك ايضا