الهجرة النبوية الشريفة… انطلاقة أمة وعنوان نصر

الهجرة النبوية الشريفة… انطلاقة أمة وعنوان نصر

 

مع حلول العام الهجري الجديد 1447هـ، تتجدد ذكرى الهجرة النبوية الشريفة، هذه المحطة التاريخية الفاصلة التي لا تمثل مجرد حدث عابر في سجل الزمان، بل هي منارة تهدي الأمة إلى معاني العزة والنصر والتمكين، ونقطة تحول غيرت مجرى تاريخ البشرية جمعاء.

الهجرة النبوية: دلالات متجددة وثمار يانعة

إن ارتباط العام الهجري بالهجرة النبوية يحمل في طياته دلالات عميقة ورسائل خالدة للأمة، فهي دعوة لاستقبال العام الجديد بروح وثابة، وأمل عظيم، ومعنويات عالية. إنها انطلاقة تستند إلى التحرك الجاد ببصيرة نافذة ورؤية عملية مستنبطة من المبادئ الإلهية، معتمدة في كل خطوة على “كلمة الله هي العليا”.

وفي الهجرة دروس بليغة في الاقتداء والتأسي بخاتم النبيين وسيد المرسلين، صلوات الله عليه وعلى آله، لاستلهام الهداية الكافية ونيل نصر الله ومعونته. هي دعوة للاقتباس من عزمه وثقته وصبره ونوره الذي يضمن النجاح. كما أنها تؤكد على التحرك من موقع المسؤولية المقدسة في حمل راية الإسلام، والتصدي للطاغوت وطغيانه لإنقاذ الأنفس والشعوب والمجتمع البشري بأسره.

وبالتحرك الجاد المعتمد على الله والمتأسي بالنبي الأكرم، تتحقق ثمار عظيمة، أبرزها استعادة الأمة الإسلامية لعزها ومجدها ودورها الريادي في إنقاذ نفسها أولاً، ثم الإسهام في إنقاذ المجتمع البشري لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء والظلم إلى رحاب رحمة الله المتجسدة في رسالته وتعاليمه المباركة.

أسباب الهجرة: مجتمع فقد صلاحية الحضانة الإلهية

لم تكن الهجرة النبوية مجرد انتقال مكاني، بل كانت نتيجة حتمية لفقدان مجتمع مكة المكرمة لصلاحيته كحاضن للرسالة الإلهية، خاصة من قبل الملأ المستكبرين. لقد سعى هؤلاء بكل السبل للتصدي للرسول ومحاربته، من خلال الدعاية المشوهة التي وصفته بالجنون والساحر والشاعر بهدف إبعاد الناس عنه. كما شنوا حملة تشويه للقرآن الكريم، واصفين إياه بأساطير الأولين، ومشككين في مصدره الإلهي. وعندما فشلت هذه الأساليب، لجأوا إلى المساومات، فعرضوا عليه الملك والمال.

ومع تزايد فشلهم، اتجهوا إلى وسيلة الضغط والاستهداف لكل من آمن بالرسول من الذين لا يتمتعون بحماية اجتماعية، فمارسوا عليهم التعذيب والاضطهاد والقتل، كما حدث مع ياسر وزوجته.

ومع وفاة أبي طالب، ازدادت الأخطار على حياة النبي، وفي هذا الوقت، بدأت الترتيبات الإلهية للهجرة. التقى النبي بمجموعة من الخزرج من المدينة في موسم الحج فأسلموا، ثم تبعتهم بيعة العقبة الأولى، فالثانية التي كانت قريبة من وقت الهجرة. بعد ذلك، بدأ النبي يدفع أصحابه للخروج من مكة والالتحاق بالمدينة.

ليلة الفداء العلوي: مؤامرة دار الندوة وحماية إلهية

لقد أحس المشركون بخطورة الوضع، فعقدوا مؤتمراً في دار الندوة للتآمر على النبي، حيث تدارسوا ثلاثة خيارات: السجن، أو القتل، أو النفي. ولكن الله، جل شأنه، أخبر نبيه بالوحي عن هذه المؤامرة، وأذن له بالهجرة. وفي ليلة التنفيذ، قام الإمام علي عليه السلام بفداء النبي، فبات في فراشه للتمويه على الأعداء، بينما خرج النبي بألطاف الله دون أن يشعروا.

اتجه النبي جنوبًا إلى غار ثور، حيث مكث فيه ثلاثة أيام، بينما كان المشركون يبحثون عنه في كل مكان حول مكة ويعلنون الجوائز المغرية لمن يدُل عليه. وفي لحظة خطيرة، عندما وصلوا قرب الغار، جاءت الحماية الإلهية، حيث قال تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. هذه العبارة “لا تحزن إن الله معنا” تعكس الثقة العظيمة بالنصر، وتعني الحماية والمعية والتأييد والحفظ من الله. ولقد أنزل الله سكينته على نبيه، وأيده بجنود لم تُرى، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى فعادوا خائبين.

الهجرة: دروس وعبر للأمة

لقد قدمت الهجرة دروسًا وعبرًا عظيمة، منها مقارنة مجتمع مكة الذي خسر شرف مناصرة الرسالة بسبب ماديته وطمعه وولائه لأصحاب السلطة والثروة، بمجتمع يثرب (الأنصار) الذي تأهل لنيل هذا الشرف بمواصفاته العظيمة. الهجرة هي ارتباط بالرسالة والرسل، وبمنهج الله الذي يحمل قيمًا وتعاليم وأخلاقًا عظيمة لسعادة البشرية وحل مشاكلها.

كما أن الهجرة تمثل نقطة تحول في تاريخ البشرية بأكملها، فالإسلام هو دين الخلاص للجميع، وإرث جميع الأنبياء. وهي محطة سنوية للاستفادة من سيرة الرسول -صلوات الله عليه وآله-، والاقتداء به، والعودة إلى مسيرة حياته ودعوته وجهاده.

تجسد الهجرة النبوية مدرسة الفداء العلوي، حيث نستلهم منها أسمى صور التضحية وأرقى معاني الفداء في سبيل نصرة الرسالة الإلهية، مستعدين لتقديم التضحيات بروحية عالية أسوة بالإمام علي عليه السلام. وعنوان الهجرة الأكبر هو {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}، وهو العنوان الذي تحتاجه الأمة في مواجهة كل التحديات، فالأمة ستعلو وتصمد بقدر تمسكها بكلمة الله وثباتها على نهجه الحق.

إن الهجرة النبوية كانت النواة الأولى للأمة الإسلامية المتحررة من سيطرة الطواغيت، وهي التي تمكن الأمة من مواجهة مساعي الأعداء لإخضاعها للتبعية. وهذا ما تحتاجه الأمة المجاهدة في الثبات والنفس الطويل في معركة الإسناد التي تستهدف السفن الصهيونية أو المرتبطة بها، نصرة للشعب الفلسطيني وإسناداً لطوفان الأقصى.

ذكرى الهجرة: محطة للمراجعة وتصحيح المسار

في نهاية العام وبداية عام جديد، يجب أن يقف الإنسان المسلم وقفة مراجعة ومحاسبة للنفس، ليتأمل في سلوكياته الإيجابية ويحمد الله عليها، ويتوقف عند السلبيات من تقصير وتفريط وضياع وقت وذنوب، ليستغفر الله منها ويعزم على تصحيح المسار نحو الأفضل. هذا التخلص من السلبيات وتعزيز الإيجابيات يحقق تقدمًا سلوكيًا ملموسًا، ولا يتحقق ذلك إلا بالالتجاء إلى الله والتوكل عليه وملازمة الدعاء والتضرع بالتوفيق.

إن السنن الإلهية ثابتة لا تتغير، وليست محصورة على زمن الهجرة وبداية صدر الإسلام. من أبرز هذه السنن: سنة الرعاية الإلهية، وسنة المعية الإلهية، وسنة الاستبدال، وسنة المدد الإلهي التي تشمل إنزال السكينة، والتأييد بالجنود الربانية، وقذف الرعب في قلوب الأعداء. إن الغفلة عن هذه السنن تؤدي إلى تيه الأمة وبعدها عن الله وعن عوامل النصر. في المقابل، الإيمان بالوعد الإلهي بالنصر والتمكين يؤهل الأمة لمواجهة العدو ويعزز لديها الأخذ بأسباب النصر.

ختامًا، نسأل الله أن يجعل عامنا هذا عام انتصار وعزة وتمكين للمؤمنين، وعام خزي وذل لكل الطغاة والمطبعين معهم. وأن يكون هذا العام بداية النهاية للكيان الصهيوني المؤقت، وعام النصر والتمكين للمجاهدين في فلسطين. نسأله أن يوفقنا لما يرضيه عنا، ويرحم شهداءنا، ويشفي جرحانا، ويفرج عن أسرانا، وينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

قد يعجبك ايضا