السيد القائد: جرائم الاحتلال في غزة إبادة جماعية ممنهجة… والمخطط الصهيوني يستهدف الأمة كلها
صادق البهكلي
المقدمة
في كلمة حملت نبرة تحذير عميقة، ووضوحًا في توصيف الجريمة، وضع السيد القائد الرأي العام أمام حقيقة ما يجري في غزة، بعيدًا عن الضباب الإعلامي والمبررات السياسية الزائفة. بكلمات مباشرة، كشف أن ما يحدث ليس مجرد “عملية عسكرية” كما يسوّق الاحتلال، بل إبادة جماعية منظمة، يجري تنفيذها على مرأى ومسمع العالم، وبغطاء كامل من الإدارة الأمريكية. أكثر من 3,500 شهيد وجريح في أسبوع واحد، غالبيتهم من الأطفال والنساء، وأحياء كاملة تُمحى من الخريطة، ومخيمات نازحين تتحول إلى مقابر جماعية، هذا هو المشهد اليومي في غزة كما عرضه السيد القائد، موثقًا بالأرقام والشهادات الحية.
لم يتوقف الخطاب عند مشاهد القتل، بل سلّط الضوء على التجويع الممنهج كسلاح حرب، إذ حوّل الاحتلال الغذاء إلى أداة قتل، عبر منع إدخال المساعدات البرية، والاكتفاء برمي طرود من الجو، أقل من أن تسد الرمق، وأكثر من أن تثير الغضب، بينما تتحول بعضها إلى مصائد موت يتساقط فيها الجوعى برصاص القناصة. شهادات من منظمات إنسانية مثل “أطباء بلا حدود” تؤكد أن أطفالًا أصيبوا في صدورهم أثناء بحثهم عن لقمة، في مشهد يعيد للأذهان حصارات تاريخية مثل حصار لينينغراد (1941-1944) الذي أودى بحياة أكثر من مليون شخص بسبب الجوع والبرد، لكن الفارق أن حصار غزة يجري في القرن الحادي والعشرين، وسط تدفق المعلومات والبث الحي لكل جريمة.
وبالنظر إلى الدور التاريخي للصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، يذكّر هذا الخطاب بأن ما يحدث اليوم امتداد لسياسة قديمة اعتمدها المشروع الصهيوني منذ النكبة عام 1948، عندما استخدم التهجير القسري والحصار لتفريغ الأرض من أهلها. الجديد اليوم، كما يوضح السيد القائد، هو حجم الانكشاف العربي الرسمي، وتورط بعض الأنظمة في دعم الاحتلال اقتصاديًا ولوجستيًا، في مقابل تصاعد فعل المقاومة في فلسطين واليمن ولبنان وسوريا، ما يفتح فصلًا جديدًا من المواجهة، عنوانه: الحق في البقاء والكرامة أمام مشروع الإبادة.
منذ بداية العدوان الأخير، تحوّلت غزة إلى أكبر مسرح مفتوح لجرائم الحرب في العصر الحديث، لكن الأسبوع الذي استعرضه السيد القائد في كلمته شكّل ذروة وحشية لم يسبق أن شهدها القطاع بهذا التركيز والكثافة. خلال سبعة أيام فقط، سجّلت الإحصائيات أكثر من 3,500 شهيد وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، في سلسلة من الغارات والقصف العشوائي على منازل سكنية، ومدارس، ومخيمات نازحين. هذه الأرقام، كما أكد السيد القائد، ليست مجرد بيانات إحصائية، بل تعكس واقعًا يوميًا تتجدد فيه المأساة مع كل ساعة، حيث يدوّن التاريخ صفحة جديدة من الإبادة الجماعية التي تتم برعاية مباشرة من الولايات المتحدة، وتواطؤ دولي يكتفي بالبيانات المكررة.
واحدة من أبشع صور هذه الإبادة هي التجويع الممنهج، الذي حوّل الغذاء إلى سلاح قاتل. الاحتلال يمنع دخول القوافل البرية المكدّسة بالمواد الغذائية، ويستعيض عنها بعمليات إسقاط جوية للطعام لا تغطي 1% من احتياجات السكان، وهي في معظمها استعراض إعلامي يهدف لتضليل الرأي العام العالمي. الأسوأ من ذلك، أن بعض هذه المساعدات تتحول إلى أفخاخ موت، حيث يستدرج الجوعى إلى مناطق مفتوحة، ثم يتعرضون لرصاص القناصة أو قصف الطائرات، كما وثقت منظمة “أطباء بلا حدود” التي أكدت إصابة أطفال برصاص في صدورهم أثناء محاولتهم الحصول على الطعام.
وإذا كانت الحروب عبر التاريخ قد شهدت حصارات قاتلة، مثل حصار سراييفو (1992–1996) أو حصار لينينغراد في الحرب العالمية الثانية، فإن حصار غزة يختلف من حيث شدة الرقابة الإعلامية العالمية، إذ تُبث مشاهد الموت والجوع لحظة بلحظة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، دون أن يتحرك المجتمع الدولي لوقف الكارثة. السيد القائد لفت إلى أن ما يجري في غزة اليوم هو جريمة حرب موثقة بالصوت والصورة، لكنها تمر أمام عيون العالم وكأن الضحية خارج سياق الإنسانية.
كما أكد السيد القائد في كلمته أن آلة القتل الإسرائيلية لا تفرّق بين طفل أو امرأة أو شيخ أو حتى صحفي يحمل الكاميرا، فالجميع في نظر الاحتلال أهداف مشروعة ضمن سياسة ممنهجة لإسكات الشهود ومحو الحقيقة. ففي الأسبوع الذي وثّقه، ارتكب الاحتلال مجزرة بحق ستة إعلاميين كانوا في خيمتهم، لترتفع حصيلة الصحفيين المستهدفين منذ بدء العدوان إلى أكثر من 230 صحفيًا بين شهيد وجريح. هذه الأرقام، كما أشار، تعكس حجم الخطر الذي يواجهه الإعلام الحر في مناطق الصراع، وتجسد محاولة الاحتلال فرض روايته الوحيدة عبر تكميم الأفواه ومحو الصور.
استهداف الإعلاميين ليس تفصيلًا عابرًا، بل هو جزء من عقيدة الاحتلال في إدارة الحروب، حيث يدرك أن الصورة الملتقطة قد توازي في تأثيرها آلاف الكلمات، وأن مشهد طفل يخرج من تحت الركام أو جثة ممددة على سرير مستشفى قد يهز الرأي العام العالمي أكثر من أي خطاب سياسي. لذلك، لم يكن غريبًا أن يُسجَّل هذا العدد القياسي من الصحفيين المستهدفين في حرب واحدة، ليضاف إلى سجل طويل من الجرائم ضد الإعلاميين منذ النكبة عام 1948، مرورًا باغتيال شيرين أبو عاقلة في مايو 2022.
لكن دائرة الاستهداف لا تقف عند حدود الإعلاميين؛ فالاحتلال يستخدم سياسة “المناطق الحمراء” لفرض التهجير القسري. يحدد مناطق على أنها محظورة ومفتوحة للقتل، ثم يدعو المدنيين للانتقال إلى مناطق “آمنة” – سرعان ما تصبح بدورها أهدافًا للقصف. هذه السياسة ليست جديدة، إذ سبق أن استخدمها الاحتلال في حرب 2014، لكنها اليوم تُمارس على نطاق أوسع وبشكل أكثر وحشية، بهدف تفريغ القطاع من سكانه تدريجيًا، وإجبارهم على النزوح نحو المجهول.
التاريخ يسجل أن استهداف المدنيين والإعلاميين بهذا الشكل يشكل خرقًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، لاسيما المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تضمن حماية الصحفيين في مناطق النزاع. إلا أن ما يحدث في غزة يكشف عن عجز المنظومة الدولية في فرض أي التزام على قوة احتلال مدعومة من واشنطن، ومحصّنة ضد العقوبات أو المحاسبة. وكما ختم السيد القائد في هذا المحور، فإن “السكوت على استهداف الصحفيين هو سكوت على قتل الحقيقة، ومن يقتل الحقيقة يقتل الضمير الإنساني ذاته”.
أوضح السيد القائد أن ما يجري في غزة لا يمكن قراءته فقط كعدوان عسكري منفصل عن سياقه، بل هو جزء من مخطط صهيوني شامل يمتد جذوره إلى عقود طويلة، هدفه النهائي هو إعادة تشكيل المنطقة سياسيًا وديمغرافيًا لصالح المشروع الإسرائيلي. وأكد أن الإبادة الجماعية ليست “نتيجة جانبية” للحرب، بل هدف مركزي يعبّر عن نفسه في خطاب القيادات الإسرائيلية الدينية والسياسية على السواء. ومن بين الشواهد التي أوردها، تصريح حاخام إسرائيلي بارز قال فيه صراحة: “كل طفل في غزة يجب أن يموت جوعًا“. هذا التصريح – برأي السيد القائد – ليس خروجًا فرديًا عن النص، بل يعكس عقيدة عنصرية متجذرة في الفكر الصهيوني، تتعامل مع الفلسطينيين على أنهم “أغيار” بلا حقوق، وجودهم نفسه جريمة في نظر الاحتلال.
أما على المستوى الدولي، فقد شدد على أن الولايات المتحدة ليست مجرد داعم سياسي لإسرائيل، بل هي شريك كامل في كل جريمة، بدءًا من تزويدها بالقنابل المدمرة والحارقة، مرورًا بتوفير الغطاء الدبلوماسي في مجلس الأمن، وصولًا إلى الضغط على الدول العربية لعدم اتخاذ أي خطوات مؤثرة. وأشار إلى أن الدعم الأمريكي لإسرائيل في هذه الحرب يشبه في طبيعته الدعم الذي قدمته واشنطن لحلفائها في حروب الإبادة السابقة، مثل دعمها العسكري لفيتنام الجنوبية خلال حرب فيتنام (1955–1975) رغم المجازر الواسعة التي ارتكبت هناك.
السيد القائد ربط بين هذا المخطط والسياسة الأمريكية الأوسع في المنطقة، مؤكدًا أن الهدف الاستراتيجي ليس فقط إضعاف المقاومة في غزة، بل تجريد الأمة كلها من سلاحها، وفرض هيمنة مطلقة على مواردها وممراتها الاستراتيجية. فإضعاف غزة اليوم – كما يرى – هو خطوة ضمن سلسلة تستهدف لبنان وسوريا واليمن، وصولًا إلى فرض “شرق أوسط جديد” تتحكم فيه إسرائيل أمنيًا واقتصاديًا.
هذا البعد الاستراتيجي يفسر – بحسب تحليله – لماذا يتم الترويج المكثف لفكرة “نزع سلاح المقاومة” باعتبارها شرطًا لأي تسوية سياسية، بينما يتجاهل المجتمع الدولي تمامًا مسألة نزع السلاح النووي الإسرائيلي أو الحد من ترسانته العسكرية. وكما ختم هذا المحور، فإن “من يقبل بنزع سلاح غزة اليوم، عليه أن يستعد للعيش أعزل غدًا أمام عدو لا يعترف إلا بلغة القوة”.
وعن حيثيات إعلان العدو الصهيوني عن قراره بالسيطرة على مدينة غَزَّة، أوضح السيد القائد إلى أن العدو الإسرائيلي سعى منذ البداية لاحتلال غزة من خلال جرائم القتل والتدمير والتهجير وأن المستهدف من هذا الإعلان بشكلٍ رئيسيٍ وأساسيٍ هو الشعب الفلسطيني بشكلٍ عام، هم المدنيون العُزَّل، هم الأهالي، فهو يسعى لتحقيق الأهداف التالية:
- تهجير مليون فلسطيني من مدينة غَزَّة.
- ارتكاب المزيد من جرائم الإبادة الجماعية.
- تدمير ما تبقى من مساكن في مدينة غَزَّة.
تناول السيد القائد في خطابه المفارقات الحادة بين مواقف بعض الدول التي اتخذت خطوات جريئة لمقاطعة الاحتلال أو الحد من دعمه، وبين مواقف أنظمة عربية أظهرت انحيازًا فاضحًا للمشروع الصهيوني، حتى في ذروة الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني.
على الصعيد الدولي، أشاد السيد القائد بموقف صندوق الثروة السيادي النرويجي الذي أعلن وقف استثماراته في شركات إسرائيلية متورطة في الاستيطان والانتهاكات، معتبرًا هذه الخطوة رسالة قوية بأن المصالح الاقتصادية لا يمكن أن تبرر المشاركة في جرائم حرب. كما أشار إلى قرارات بعض الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وإيرلندا، بتعليق تصدير السلاح إلى إسرائيل، وهي قرارات رغم محدوديتها، إلا أنها تعكس إمكانية التأثير عبر الضغط الشعبي والسياسي، خاصة في بيئة أوروبية تشهد انقسامًا متزايدًا حول دعم الاحتلال.
في المقابل، عبّر عن صدمة من مواقف بعض الأنظمة العربية، التي اختارت مسار التطبيع والدعم الاقتصادي في أكثر لحظات العدوان وحشية. وذكر مثالًا اتجاه مصر لعقد أكبر صفقة غاز مع الاحتلال، متجاهلة دماء الشهداء في غزة التي لا تبعد سوى بضع كيلومترات عن حدودها. كما كشف عن تورط السعودية في نقل أسلحة لإسرائيل عبر سفنها، مستشهدًا بحادثة اعتراض عمال ميناء إيطالي على رسو سفينة سعودية محمّلة بالأسلحة الموجهة للاحتلال.
التاريخ الحديث يعيدنا إلى مواقف مشابهة في فترات حساسة، مثل ما جرى خلال حرب 1973 حين انقسمت الدول العربية بين من استخدم سلاح النفط للضغط على القوى الغربية، ومن واصل علاقاته الاقتصادية كالمعتاد، مما أضعف الموقف العربي الموحد وأتاح لإسرائيل التقاط أنفاسها. السيد القائد شدد على أن هذا النمط يتكرر اليوم، لكن بخطورة أكبر، إذ يجري علنًا وبغطاء إعلامي يروّج للتطبيع باعتباره “مصلحة وطنية”.
وبيّن أن مواقف الشعوب المساندة لفلسطين، مهما كانت بعيدة جغرافيًا، قد تكون أكثر صدقًا وأثرًا من مواقف بعض الحكومات العربية التي ارتضت أن تكون أداة بيد المشروع الأمريكي–الإسرائيلي.
أولًا: الثبات الفلسطيني… عمليات نوعية وتنسيق فصائلي
أشاد السيد القائد بصمود المقاومة في قطاع غزة، مؤكدًا أن المجاهدين يواصلون تنفيذ عمليات جهادية بطولية في مواجهة الاحتلال، رغم القصف والحصار والتجويع. فقد نفذت كتائب القسام خلال الأيام الماضية نحو اثنتي عشرة عملية متنوعة شملت قنص جنود العدو، وتدمير آلياته، وقصف تجمعاته في مختلف محاور القتال. أما سرايا القدس، فقد نفذت عمليات ميدانية بارزة، من بينها قصف ثلاث مستوطنات بصواريخ قدس 3، واستهداف مواقع قيادة وسيطرة للعدو، وتجمعات جنوده في جنوب رفح وشرق حي التفاح. كما شاركت فصائل أخرى في عمليات ميدانية، ما يعكس مستوىً عاليًا من التنسيق والتعاون الميداني، وهو ما وصفه السيد القائد بأنه أحد أهم عناصر القوة المستندة إلى التوجيه الإلهي: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4].
هذا التكامل الميداني بين الفصائل لا يقتصر أثره على تعزيز القدرات القتالية، بل يمنح المقاومة قدرة أكبر على امتصاص الصدمات، وإرباك خطط الاحتلال، والحفاظ على إيقاع عملياتي مستمر يمنع العدو من تحقيق أي استقرار ميداني.
انتقل السيد القائد إلى الساحة السورية، مشيرًا إلى أن العدو الإسرائيلي يواصل استباحة الجنوب السوري، متجاوزًا الاتفاقيات التي التزمت بها القوى المسيطرة هناك بإخلاء المنطقة من أي تواجد عسكري. الاحتلال لم يكتفِ بالمراقبة، بل يتعامل مع الجنوب السوري وكأنه ملك خاص، عبر تسيير دوريات عسكرية، ونصب حواجز، وتفتيش ومداهمة منازل، وتهجير سكان، وخطف مدنيين، إلى جانب عمليات تجريف وإقامة مواقع جديدة.
كما اغتال الاحتلال على الأراضي السورية القيادي في الجبهة الشعبية محمد خليل (أبو خليل)، والقائد الميداني مفيد حسن حسين، أثناء توجههما نحو لبنان، في رسالة واضحة مفادها أن يد إسرائيل الأمنية تمتد بلا قيود، وأنها ماضية في سياسة فرض الاستسلام لا السلام. السيد القائد شدد على أن ما يجري في سوريا ليس خرقًا عرضيًا، بل استمرار لمخطط صهيوني يستهدف إخضاع كل الجغرافيا العربية المحاذية لفلسطين المحتلة، وإبعاد أي تهديد محتمل عن الحدود الشمالية للكيان.
في الساحة اللبنانية، لفت السيد القائد إلى أن العدو الإسرائيلي ينتهك بشكل جسيم الاتفاق المبرم مع الدولة اللبنانية، رغم أن الولايات المتحدة وفرنسا هما الضامنان الدوليان لهذا الاتفاق. الاحتلال تباهى بقتل 240 شهيدًا لبنانيًا بعد توقيع الاتفاق، وتنفيذ 600 غارة جوية، بعضها استهدف الضاحية الجنوبية لبيروت، إضافة إلى قصف مدفعي ورشقات رشاشة شبه يومية، واستباحة الأجواء والمياه الإقليمية اللبنانية.
الأخطر، بحسب السيد القائد، هو المسار السياسي الذي تحاول إسرائيل فرضه بدعم أمريكي مباشر، والمتمثل في الضغط على الحكومة اللبنانية لتبني ورقة أمريكية تحتوي إملاءات إسرائيلية تهدف فعليًا إلى سحب سلاح حزب الله، وتحويل الدولة اللبنانية إلى “شرطي” يخدم الأمن الإسرائيلي. واعتبر أن تبني الحكومة اللبنانية لهذه الورقة خيانة للسيادة الوطنية، وتفريطًا في أمن البلاد، وتهديدًا مباشرًا لوحدة الداخل اللبناني، خاصة أن سلاح حزب الله أثبت دوره الحاسم في ردع إسرائيل منذ تحرير الجنوب عام 2000، وفي حرب تموز 2006.
التجارب التاريخية، كما أشار، تؤكد أن تجريد الشعوب أو حركات المقاومة من سلاحها في ظل وجود عدو متفوق عسكريًا يعني تركها فريسة للمجازر، كما حدث في البوسنة في التسعينيات. لذا، فإن الموقف الرسمي والشعبي في لبنان، برأي السيد القائد، يجب أن يتجه نحو حماية هذا السلاح باعتباره ضمانة استراتيجية للأمن القومي اللبناني والعربي، لا باعتباره ملفًا داخليًا خاضعًا للمساومات السياسية.
من الواضح والمقطوع به أن الجيش اللبناني، رغم وطنيته، لن يُكلَّف يومًا بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي لاعتبارات سياسية معروفة؛ فقرار الحرب والسلم في لبنان خاضع منذ عقود لمعادلات داخلية وإملاءات خارجية. أربعون عامًا من الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة على لبنان، بدءًا من احتلال بيروت عام 1982، مرورًا بعدوان تموز 2006، ووصولًا إلى الغارات الجوية اليومية واحتلال مزارع شبعا، تكشف أن حماية البلاد كانت وستظل من مهمة المقاومة، لا من مهمة الجيش الذي لم يصدر له في أحسن الظروف قرار بالمواجهة.
السيد القائد شدّد على أن تجربة المقاومة اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله، هي الحق المشروع والعنصر الوحيد الذي يحمي لبنان، وأنها أثبتت نجاحها في ردع الاحتلال وإفشال مشاريعه. ولذلك فإن محاولات نزع سلاح المقاومة ليست سوى ركن أساسي في المخطط الصهيوني–الأمريكي، هدفه ترك لبنان مكشوفًا أمام الاستباحة الإسرائيلية، والتخلّص من العائق الذي حال دون السيطرة الكاملة عليه لعقود.
المشكلة ليست في سلاح المقاومة، الذي يدافع عن الأرض والعرض، ويحفظ الكرامة والسيادة، بل في السلاح الذي يمتلكه العدو الإسرائيلي، والذي يُستخدم لإبادة الأطفال والنساء، وتدمير المنازل، ونهب الثروات، وإخضاع الشعوب. من هنا، دعا السيد القائد إلى تحرك رسمي وشعبي واسع لوقف تسليح إسرائيل، مشيرًا إلى أن بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا اضطرت، تحت ضغط الرأي العام، لتعليق تزويد الاحتلال بالسلاح المستخدم في مجازر غزة.
وتناول السيد القائد النفاق السياسي في لبنان، حيث تصف بعض الجهات أي دعم عربي أو إسلامي للمقاومة بأنه “تدخل في الشؤون اللبنانية”، بينما تلتزم الصمت المطبق أمام الاحتلال الإسرائيلي الذي يمارس القتل والاحتلال وانتهاك السيادة. هذا، برأيه، لؤم سياسي وخضوع مخزٍ للإملاءات الإسرائيلية والأمريكية، يثبت أن الحكومة اللبنانية لن تحمي لبنان ولن تدافع عن شعبه.
التاريخ يزخر بالأمثلة على دور “السلطات المحلية” التي أنشأها الاستعمار لخدمة المحتل، كما في حادثة اغتيال الشهيد عز الدين القسام عام 1935، حين شارك جنود فلسطينيون متجنّدون في شرطة الانتداب البريطاني في العملية. واليوم، يريد المشروع الصهيوني تكرار السيناريو نفسه بتحويل الحكومات والجيوش في المنطقة إلى أدوات بيد الاحتلال، تنفذ أوامره تحت شعار “الشرعية” و”السيادة”.
إن تجريد لبنان من سلاحه المقاوم هو مقدمة لتغيير موازين القوة في المنطقة لصالح مشروع “إسرائيل الكبرى”، الذي يعني في جوهره تحويل الأمة العربية إلى كيانات ضعيفة، خاضعة، ذليلة، تُستباح أراضيها ومقدساتها وثرواتها بلا مقاومة. ومن هنا، فإن المعركة على سلاح حزب الله ليست قضية لبنانية داخلية فحسب، بل هي معركة سيادة وكرامة لكل الأمة.
من أبرز ما ركّز عليه السيد القائد في ختام خطابه، هو المشهد الشعبي العالمي والعربي في دعم غزة، والفوارق الصارخة بين مواقف الشعوب الحرة ومواقف الأنظمة المتواطئة مع الاحتلال. فقد شهدت خمسة بلدان عربية وإسلامية، تتصدرها اليمن، فعاليات جماهيرية حاشدة، جعلت اليمن في موقع الريادة عالميًا من حيث كثافة النشاط الشعبي وتواصل المسيرات والوقفات التضامنية. وعلى الصعيد الدولي، خرجت مظاهرات في سبعة عشر بلدًا، بينها بريطانيا التي كشفت مفارقة مؤلمة حين اعتقلت مُسنًّا مقعدًا أعمى لمجرد تضامنه مع فلسطين، متجاهلة وضعه الإنساني.
وسجّل الخطاب إشادة بخطوة صندوق الثروة السيادي النرويجي بوقف استثماراته في كيان الاحتلال ردًا على عدوانه على غزة، في موقف ينسجم مع الدعوات العالمية للمقاطعة الاقتصادية. لكن المفارقة، كما أشار السيد القائد، تكمن في أن دولًا عربية كبرى تسير في الاتجاه المعاكس؛ فمصر عقدت أكبر صفقة غاز في تاريخها مع الاحتلال، فيما النظام السعودي حرّك سفينة “بحري ينبع” لنقل السلاح إلى إسرائيل، في وقت أوقفت فيه بعض الدول الأوروبية صادرات السلاح إليها، بل ورفض عمال ميناء إيطالي السماح للسفينة السعودية بالرسو احتجاجًا على نقلها أسلحة تُستخدم لقتل الفلسطينيين.
ولم يكتفِ الخطاب بالتوقف عند المواقف الرسمية، بل أضاء على الجهود الشعبية المؤسسية في العالم، مثل “مجموعة لاهاي” التي تضم دولًا كجنوب أفريقيا وكولومبيا، والتي بادرت إلى تنظيم تحركات قانونية وسياسية ودبلوماسية لمقاطعة الاحتلال، متسائلًا عن سبب غياب الجامعة العربية عن مستوى مماثل من الفاعلية.
في موازاة المشهد الجماهيري، استعرض السيد القائد ما أسماه بـ”معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس”، حيث نفذت القوات اليمنية عمليات نوعية استهدفت مواقع إسرائيلية في يافا، حيفا، عسقلان، بئر السبع، النقب، وأم الرشراش، إضافة إلى استهداف سفينة مخالفة للحظر في أقصى شمال البحر الأحمر. وأدى هذا الضغط العسكري إلى تأثير مباشر على الحركة الجوية في الكيان، حيث أعلنت شركتا الطيران الهندية والإيطالية تأجيل عودتهما للعمل في مطار اللد حتى أواخر سبتمبر وأكتوبر.
على المستوى الداخلي، أشار السيد القائد إلى أن الشعب اليمني سجّل خلال الأسبوع الماضي وحده 1,356 مسيرة ووقفة وتظاهرة، في مشهد وُصف بأنه الأكبر عالميًا من حيث الحشد والاستمرارية. كما برزت الجامعات اليمنية كمراكز فعّالة للتعبئة، إذ شهدت جامعات صنعاء، الحديدة، إب، عمران، والمحويت فعاليات ضخمة بمشاركة الطلاب والأساتذة، موجهة دعوات إلى الجامعات العربية والإسلامية لتبني مواقف مماثلة.
وذكّر السيد القائد بحال الطلبة العرب في الخارج، خاصة في الجامعات الأمريكية، الذين تعرضوا للفصل والسجن والطرد بسبب مواقفهم المؤيدة لفلسطين، معتبرًا أن الثبات في هذه الظروف هو ترجمة حقيقية للبصيرة والوعي والإيمان، بينما الموالاة للعدو الأمريكي والإسرائيلي تمثل خيانة وفقدانًا للقيم الإنسانية والدينية.
اختتم السيد القائد خطابه بالتأكيد على أن معركة الأمة اليوم ليست مجرد تضامن إنساني أو سياسي، بل هي معركة وعي وبصيرة، تستلزم جهدًا إعلاميًا وتثقيفيًا واسعًا لفضح العدو ومخططاته، واستنهاض الشعوب لتحمل مسؤولياتها. فالمسيرات، والمقاطعة الاقتصادية، والضغط الشعبي، والعمل الميداني المقاوم، كلها مسارات متكاملة في مواجهة المشروع الصهيوني–الأمريكي.
وفي رسالته الأخيرة، شدد على أن النصر لا يتحقق بالجهد العسكري وحده، بل بتكامل الموقف الشعبي والرسمي، العربي والإسلامي، مع الإسناد الميداني من كل الجبهات، معتبرًا أن ما يقوم به الشعب اليمني اليوم يمثل نموذجًا ملهمًا يمكن للأمة كلها أن تحتذي به، في طريق التحرر والكرامة والسيادة.