ثقافة الشهادة تحطم جدار الخوف وتدفع نحو ميادين الجهاد
عبدالرحمن الحمران
تُعدّ الشهادة في سبيل الله من أقدس المصطلحات في الوعي الإسلامي، ليس باعتبارها مجرد نهاية مأسوية، بل امتياز وتقدير إلهيّ يمنحه سبحانه لمن تحرَّكوا وفق الطريق التي رسمها، وانطلقوا على أساس تعليماته وتوجيهاته, وبَذَلَوا نفوسهم في سبيل الله.
الأساس العقائدي للشهادة يقوم على فكرة أنَّ من قُتِلَ في سبيل الله قد نال مكافأةً لا تُقاس بما في الدنيا؛ فقد وعد الله الشهداء بحياة طيبة ونعيمٍ يعبر عن أرقى صور الرِفعة والاطمئنان, قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:169-171].
هذا التكريم الإلهي لا يكتفي بمنح منزلة معنويةٍ عالية فقط، بل يؤسس لمفهومِ الفوز الحقيقي: الحياة الأبدية ومقام الضيافة والتكريم الإلهي “عند الله” أفضل وأكثر سعادةً من حياة الدنيا، ومن ثم لا تُعدُّ خسارةً وإنما نصرٌ عظيم.
ثمة بعدان بارزان لهذا المفهوم: بعد فردي وبعد اجتماعي.
على المستوى الفردي، تتحقّق للشهيد حالة من الطمأنينة والرزق والرفعة، وهو ما عبَّر عنه المؤمن في سورة يس عندما قال: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}[يس:26-27].
أما على المستوى الاجتماعي، فالشهادة تُعد مواساةً لأهل الشهيد؛ إذ يطمئن ذووهم إلى أنَّ من فقدوه قد انتقل إلى حياةٍ أكرم، فلا خسارة مع الله أبداً، بل الفوز العظيم, فتلتئم قلوبهم بأنَّ من استشهد قد حاز من الله منزلةً يستحقّها.
إلى جانب ذلك، تُعتبر الشهادة حافزًا نفسيًا وجماعيًا للجهاد والثبات, جاء في خطاب السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي بمناسبة الذكرى السنوية للشهيد: ” من أهم فوائد الشهادة في سبيل الله، أنَّ ما جعله الله للشهداء من تكريم، وحياةٍ طيِّبة وهنيئة، يحفِّز الآخرين على أن يجاهدوا في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حينما يدركون- مع عظمة وفضل الجهاد، وأهميته، وضرورته- أنهم في حال لقوا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قتلى في سبيله، فإنهم يحظون من خلال ذلك بهذه المنزلة الرفيعة، بهذا التكريم العظيم، بهذا النعيم والحياة السعيدة الهنيئة، الخالصة من كل المنغِّصات؛ فهم بذلك يتحفَّزون للانطلاقة في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وقد أزيحت عنهم أخطر العوائق المؤثِّرة نفسياً”
فمع إدراك الفرد أن القتل في سبيل الله من أجل قضيّةٍ عادلة ليس خسارةً بل فوزٌ، يتلاشى الخوف من الموت، وتُستبدَل حالة التردد والذعر بالقوة والعزيمة, فالجبروت والطغيان الذي يعتمد عليه الأعداء يهدف إلى استعباد الناس ببثّ الخوف والذل والذعر في نفوسهم، فمن يتحرّر من عقدة هذا الخوف والذل يواجههم، ويُصبح نموذجًا يُحتذى به في الصمود والثبات والجهاد, والمعادلة التي سعى لها العدو تنقلب عليه وتتحوَّل إلى حافز ودافع للجهاد في سبيل الله.
إن الشهادة في سبيل الله ليست ثقافة موتٍ، بل ثقافةُ حياةٍ حقيقيةٍ أعلى, حياةٌ تُعيد تعريف الكرامة، وتُقابِل ثقافةَ التدجين والاستسلام التي تجعل الأُمَّة تقتل عبثاً وهدراً وبأعدادٍ مهولة, كمثل ما فعله المغول في بغداد والصليبيون في حملاتهم الثمان والاستعمار الأخير من جرائم الإبادات الجماعية الفظيعة بسبب ابتعاد الأمة عن ثقافة الإعداد والجهاد والاستشهاد.
إنَّ الشهادة في سبيل الله تُمثّل مرتبةً إيمانية رفيعة تعبّر عن كمال الصدق في الانتماء للإيمان, ولهذا قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ}[التوبة:111], فلا خسارة مع الله أبداً، بل الفوز العظيم.