خطاب أبو عبيدة.. سياط على ظهور المتخاذلين ورسائل الصمود والبطولة

أحدث خطاب أبو عبيدة، الناطق باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، مساء أمس الجمعة، تباينًا شعوريًّا واسعًا لدى الجمهور العربي والإسلامي في شتى أقطار الأرض، بين الاستبشار بكلمته قبل أن يلقيها، وبين الشعور بالأسى والانكسار والعجز بعد أن ضرب بسياط كلماته ظهور الأمة وقادتها ونخبتها وعلمائها؛ بسبب وقوفهم متفرجين على إبادة سكان غزة قتلا وجوعًا دون أن يتحرك لهم ساكن.

ظهر أبو عبيدة أمس، بعد 4 أشهر كاملة من الغياب، في كلمة مصورة، ليحمل رسائل جامعة في كافة الجوانب المتعلقة بحرب الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ أكثر من 21 شهرًا، سواء فيما يتعلق بصمود الشعب الفلسطيني وبسالة مقاومته، أو ما يتعلق بالمفاوضات الجارية في الدوحة وتطوراتها، أو الرسائل التي وجهها للمجتمع الدولي ولعموم الأمة وقادتها.

وكان أكثر ما لفت الأنظار إلى كلمت أبو عبيدة، أن حمّل الأمة ونخبتها وعلماءها مسؤولية المجازر والدماء والأرواح التي تُزهق جوعًا في قطاع غزة، جرّاء صمتهم وعجزهم عن إغاثة إخوانهم من أهل القطاع رغم كل النداءات التي تتوجه إليهم ليل نهار.

وكذلك من أبرز رسائله إظهار معاني القوة والتحدي والصمود الكامنة في أهل غزة ومقاومتها وأنها لا تخضع لإرادة العدو، بل تُوقع في صفوفه الخسائر في الأرواح، وتستنزف قدراته العسكرية، واستعداد المقاومة للاستمرار في معركتها الطويلة مع الاحتلال إذا أصر على إفشال مساعي وقف العدوان وإبرام صفقة تبادل للأسرى.

نبرة غضب

وقد رأى محللون أن أبا عبيدة ظهر هذه المرة بنبرة مشحونة بالحزن والغضب والخذلان، عكس خلالها حالة من الانكسار الإنساني العميق، لكنها لم تخلُ من عزيمة قتالية وإرادة إستراتيجية غير مسبوقة، فالخطاب، كما يرى الباحث في الشأن الفلسطيني سعيد زياد، حمل جناحين متقابلين عتابا مريرا وتحديا صلبا.

ووصف زياد -في لقاء له على شبكة الجزيرة- أبو عبيدة، في ظهوره الأول منذ استئناف الحرب على قطاع غزة في 18 مارس/آذار الماضي، بأنه بدا عليه النحول والتعب، في تجسيد لواقع غزة المنهكة تحت وطأة المجاعة والإبادة، وكأنه أراد إبراز مشاركة المقاومة لأبناء القطاع في المعاناة والمصير.

وأبرز ما جاء في الخطاب، وفق زياد، هو تأكيد دخول المقاومة مرحلة استنزاف مديدة تستند إلى 3 ركائز: إيقاع أكبر عدد من القتلى في صفوف جيش الاحتلال، والقتال من نقطة صفر في مواجهة مباشرة، ومحاولة أسر الجنود بدلا من قتلهم، لما لذلك من أثر تفاوضي ومعنوي كبير.

كما توقف زياد عند ما اعتبره إشارة مهمة إلى أن القتال يُدار في ظل شح في الموارد، مقابل وفرة في الإرادة، مستشهدا بتشبيه أبو عبيدة الذي قال فيه إنهم يهزمون “عربات جدعون بحجارة داود”، في تلميح إلى اختلال ميزان القوة لصالح الاحتلال.

دلالات عسكرية

وهذا ما أكده الخبير العسكري والاستراتيجي نضال أبو زيد بأن خطاب أبي عبيدة حمل دلالات مركبة؛ إذ بدا وكأنه يرفع من سقف المواجهة بتحويل قضية (أسر الجنود) من ورقة ضغط إعلامية إلى خيار استراتيجي، ورسالة واضحة بأن المقاومة جاهزة لحرب استنزاف طويلة إذا ما فشلت المفاوضات الجارية.

واعتبر أبو زيد في حديث لـ”قدس برس” أن “هذا التحول يفرض على الاحتلال إعادة هندسة قراراته العسكرية، وهو ما قد ينعكس تباطؤًا وإرباكًا في تحركاته الميدانية”، مشيرًا إلى أن “أحد أبرز المفاهيم التي طرحت في الكلمة هو (معركة الوقت)، التي لطالما راهن عليها الاحتلال، لكن واقع الميدان يُظهر أنها باتت معركة استنزاف تُنهك قواته بدل أن تكون لصالحه”.

كما علّق أبو زيد على ما ورد بشأن “عربات جدعون”، قائلًا إن “الإشارة إليها في خطاب أبي عبيدة تؤكد أنها أقرب إلى كونها (هالة إعلامية) أكثر منها قيمة عسكرية فعلية”، مضيفًا أن هذه العربات -وفق تعبيره- “بدأت تأكل نفسها”.

وفي سياق مماثل، رأى الكاتب والباحث السياسي الفلسطيني ساري عرابي أن التوقيت بحد ذاته يعكس أهمية الظهور، إذ يأتي بعد 134 يومًا على الخطاب السابق في رمضان، لافتًا إلى أن كتائب القسام تولي اهتمامًا كبيرًا بخطابها الإعلامي الذي يخاطب الشعب الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي والأمة العربية والإسلامية.

رؤية واضحة

وأشار عرابي -في حديث للجزيرة- إلى أن الكلمة الأخيرة حملت بوضوح تأكيدًا على امتلاك المقاومة رؤية قتالية واضحة، رغم المجازر والإبادة الجماعية المتواصلة، إذ أعلن أبو عبيدة أن “المجاهدين تعاهدوا على الثبات والإثخان”، في تعبير عن انسجام ميداني وتكامل في الأداء بين مختلف فصائل المقاومة، ولا سيما سرايا القدس.

وذهب عرابي إلى أن كتائب القسام أرادت أن تؤكد عبر هذه الكلمة أنها رغم فقدان قادة بارزين ما زالت تحتفظ ببنية متماسكة، قادرة على التكيف مع متغيرات الحرب، لافتا إلى أن هذا الظهور يكرّس أبو عبيدة كرمز بارز يراكم حضوره في ظل غياب قيادات ميدانية أخرى.

وأكد عرابي أن التهديد باستمرار السعي لأسر الجنود الإسرائيليين يعكس دعاية مضادة مدروسة، تحمل رسالة واضحة إلى الجيش والمجتمع الإسرائيلي: “إذا قررتم مواصلة الحرب، فاستعدوا لمزيد من الخسائر في الأرواح والأسرى”، في إشارة إلى أن المقاومة لم تفقد زمام المبادرة.

حرب استنزاف

من جهته، اعتبر الأكاديمي والمختص في الشأن الإسرائيلي مهند مصطفى أن “الوقت” هو الكلمة المحورية التي نسجت حولها كتائب القسام خطابها الأخير، وقال إن التلويح بحرب استنزاف طويلة يؤرق الإسرائيليين، الذين حاولوا منذ البداية إدارة الوقت لصالحهم وتحويله إلى عبء على الفلسطينيين.

ورأى مصطفى -في حديث للجزيرة- أن إعلان القسام عن الجهوزية لاستمرار القتال لفترة طويلة يشكّل تحوّلا في قواعد اللعبة، إذ إن إسرائيل كانت تعتقد أنها قادرة على حسم المعركة خلال بضعة أشهر، لكن الواقع الآن أنها في يومها الـ650 دون أي إنجاز حاسم، بل تواجه تعاظما في خسائرها النفسية والمادية.

وأضاف أن قضية الأسرى، التي أعاد أبو عبيدة التأكيد عليها، تحمل أبعادا نفسية مؤلمة للمجتمع الإسرائيلي، إذ يُنظر للأسير على أنه عبء دائم لا يُمحى بالزمن، على عكس القتيل الذي يطاله التكريم وينتهي حضوره، مشددا على أن هذه الورقة تُمثل عنصر ضغط مستمرا.

وفي ما يخص المفاوضات، رأى مصطفى أن خطاب أبو عبيدة تضمن رسالة سياسية حاسمة بأن المقاومة لن تقبل بالمماطلة الإسرائيلية إلى ما لا نهاية، ولن توافق على صفقات جزئية جديدة إذا استمر العدو في التسويف، معتبرا أن هذا التصعيد اللفظي غير مسبوق من طرف القسام.

غطاء سياسي

وأوضح زياد أن هذا الموقف يعني عمليا أن الوفد التفاوضي لديه غطاء سياسي كامل، لكنه في الوقت نفسه مقيّد بسقف عسكري صارم، لافتا في هذا السياق إلى تحذير أبو عبيدة من الوصول للحظة تقول فيها: “لن نُكمل المفاوضات، ولن نقبل بصفقة جزئية”.

وفي إشارة ضمنية إلى الوسيط الأميركي، قال زياد إن الرسالة باتت واضحة: لا تدعموا إسرائيل في مماطلتها، لأن الاستمرار في ذلك سيدفع بالمفاوضات إلى الانفجار، وهو ما لا تريده المقاومة، لكنها لن تتردّد إذا وُضعت أمام خيارات قاتلة.

وفي سياق تحليله للرسائل الموجهة للاحتلال، رأى عرابي أن تهديد القسام بالانسحاب من الصفقات الجزئية استوقف الإعلام الإسرائيلي، الذي قرأ الرسالة باعتبارها موقفا حادا ضد استخدام تلك الصفقات كورقة سياسية لصالح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

وذهب عرابي إلى أن الاحتلال يستخدم الصفقات المحدودة أداة لاستعادة بعض الأسرى، ثم يعود مجددا لحملات التهجير والإبادة دون الالتزام بأي اتفاق شامل، معتبرا أن المقاومة، كما قال أبو عبيدة، قد لا تستمر في هذه المعادلة المكلفة إنسانيا وسياسيا.

ولفت إلى أن إعلان المقاومة استعدادها لأسر جنود جدد يحمل موثوقية كبيرة، في ظل تكثف الاشتباكات من أقصى شمال القطاع إلى جنوبه، وسط اعترافات إسرائيلية ضمنية بجرأة المقاتلين الفلسطينيين على خطوط التماس. وشدد على أن هذه التهديدات تنبع من واقع ميداني لا من فراغ دعائي.

تحريض الأمة

من جانبه، رأى الكاتب والمحلل السياسي محمد القيق أن “خطاب أبو عبيدة حمل دعوة لإعادة تفعيل الروح الوطنية والمقاوِمة، وتجديد طاقة التعبئة في الشارع الفلسطيني والعربي والدولي”. وأشار إلى أن “الرسالة كانت موجّهة بشكل مباشر إلى الشعوب والبرلمانات العربية، داعيًا إياها إلى التحرّك الجاد والمسؤول”.

وأكد القيق، في حديثه لـ”قدس برس”، أن “أبو عبيدة منح القوى الشعبية والحزبية – من إسلاميين ويساريين وعلمانيين، إضافة إلى النقابات والهيئات – نحو 21 شهرًا لترتيب أوراقها وتقييم أدائها، لكنّ الخطاب أوحى بأن زمن الانتظار قد انتهى، ولم يعد مقبولًا – من وجهة نظر المقاومة – استمرار الجمود وتكرار الأدوات والمشاهد التقليدية في التعبير عن الموقف”.

وأضاف أن “المشهد كبير ويتطلب فاعلين كبارًا، سواء في الميدان أو في العمل السياسي والمقاوم على مستوى الأمة”، مشددًا على أن “حديث أبو عبيدة كان واضحًا في رسائله: المقاومة باقية وصامدة، لكنها لا تحتمل أن يُقابل صمودها بصمتٍ عربي قاتل”.

وختم القيق بالقول إن “اللوم الذي تضمّنه الخطاب لا يأتي من موقع العتاب بقدر ما هو تحريض للمؤمنين على القتال، ودعوة للشعوب العربية إلى منع التمدد الإسرائيلي من تهديد أمنها القومي، خاصة في ظل ما يجري حاليًا في لبنان وسوريا”.

وترتكب “إسرائيل” منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 وبدعم أميركي، إبادة جماعية في قطاع غزة، تشمل قتلا وتجويعا وتدميرا وتهجيرا، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر لمحكمة العدل الدولية بوقفها.

وخلفت الإبادة أكثر من 198 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم أطفال، فضلا عن دمار واسع.

قد يعجبك ايضا