صفقة الخذلان المصرية… اتفاقية الغاز الأكبر في تاريخ “إسرائيل”

في السابع من أغسطس/آب 2025، وُقّعت واحدة من أضخم صفقات الغاز في تاريخ المنطقة بين مصر وكيان الاحتلال الإسرائيلي، بقيمة 35 مليار دولار تمتد على 14 عاماً، الصفقة تقضي برفع صادرات الغاز من حقل “ليفياثان” الإسرائيلي إلى مصر إلى ثلاثة أضعاف تقريباً، بحيث تتحول القاهرة إلى أكبر مستورد للغاز الإسرائيلي، وفي الوقت نفسه إلى بوابة عبور رئيسية لتصديره نحو أوروبا عبر منشآت الغاز الطبيعي المسال المصرية.

هذا العقد الضخم أثار جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والاقتصادية، ليس فقط بسبب حجمه القياسي الذي اعتبره وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين “أكبر صفقة غاز في تاريخ إسرائيل”، وإنما أيضاً بسبب انعكاساته على السيادة المصرية، وأبعاده الجيوسياسية في لحظة حساسة تمر بها المنطقة.

فبينما يُفترض أن مصر تمتلك واحداً من أكبر حقول الغاز في البحر المتوسط وهو “حقل ظهر”، تجد نفسها اليوم ملزمة بدفع عشرات المليارات لشراء الغاز من عدو تقليدي يشن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني، ويستغل موارد الطاقة كسلاح جيوسياسي لتعزيز نفوذه في المنطقة، هذه المفارقة تضع مصر في موقع لا يحسد عليه، بين حاجتها العاجلة للطاقة والعملة الصعبة، وبين ارتباط متزايد بكيان يواجه عزلة دولية متنامية بسبب جرائمه في غزة والضفة الغربية.

“إسرائيل” الرابح الأكبر من الصفقة

تشير المعطيات الاقتصادية إلى أن كيان الاحتلال هو الطرف الأكثر استفادة من هذه الاتفاقية، إذ وصفتها الصحافة العبرية بأنها “منجم ذهب” و”مصدر دخل استراتيجي”.

عوائد مالية هائلة:

ستدخل الصفقة ما يزيد على 35 مليار دولار إلى خزائن الشركات الإسرائيلية وخزينة الدولة خلال 14 عاماً، وحدها شركة “نيوميد” دفعت في الربع الثاني من عام 2025 نحو 205 ملايين شيكل كضرائب ورسوم، وهو ما يعكس حجم الأرباح المتدفقة نحو الاقتصاد الإسرائيلي.

طوق نجاة الاقتصاد الإسرائيلي:

حسب وزير الطاقة إيلي كوهين، الصفقة ستُدر مليارات على الدولة وتخلق آلاف فرص العمل وتُعزز مكانة “إسرائيل” كقوة إقليمية للطاقة، بل إن بعض المحللين العسكريين الإسرائيليين تحدثوا علناً عن أن المبلغ يعادل تكلفة شراء سرب من طائرات F-35 وصناعة مئات الدبابات والصواريخ.

ترسيخ النفوذ الجيوسياسي:

الغاز لم يعد مجرد سلعة اقتصادية لـ”إسرائيل”، بل أداة سياسية، فإمداد مصر بالغاز يتيح لتل أبيب استخدامه كورقة ضغط في الملفات الثنائية والإقليمية، ويكفي أن نذكر أنه خلال حرب غزة الأخيرة، أوقفت “إسرائيل” صادرات الغاز لمصر بذريعة الأوضاع الأمنية، ما أدى إلى أزمة كهرباء حادة في القاهرة.

بوابة إلى أوروبا:

استخدام منشآت الإسالة المصرية يمكّن “إسرائيل” من تصدير غازها إلى أوروبا بتكلفة أقل ومن دون استثمارات جديدة ضخمة، ما يعزز مكانتها كلاعب رئيسي في سوق الطاقة الأوروبية التي تبحث عن بدائل للغاز الروسي.

مصر: الخاسر الأكبر؟

رغم المظهر الأولي الذي قد يوحي بأن الصفقة توفر لمصر مصدراً ثابتاً للطاقة واستثمارات أجنبية محتملة، فإن الواقع يكشف عن سلسلة من المخاطر الاقتصادية والسياسية:

اعتماد مفرط على الغاز الإسرائيلي:

ستغطي الصفقة نحو 22% من إنتاج حقل ليفياثان و13% من إجمالي احتياطيات الغاز الإسرائيلي، ما يجعل مصر رهينة لهذا المورد، أي توتر سياسي أو عسكري قد يؤدي إلى توقف الإمدادات، كما حصل سابقاً.

خسارة مرونة التسعير:

الاتفاقية ألغت بنداً كان يسمح لمصر بخفض الكميات المستوردة إذا انخفض سعر النفط العالمي، ما يعني أنها ستدفع الأسعار المرتفعة حتى لو تراجعت أسعار السوق، إضافة إلى ذلك، تمكنت “إسرائيل” من رفع سعر الغاز بنسبة 14.8% مقارنة بالعقود السابقة.

تهديد الاستقلال في مجال الطاقة:

الاعتماد على الغاز الإسرائيلي قد يضعف الاستثمار في الحقول المحلية مثل “ظهر”، ويجعل مصر أكثر عرضة للضغوط السياسية، كما قد يؤدي إلى تقليص قدرة مصر على التحكم في سياساتها الطاقية المستقلة.

تداعيات سياسية وإقليمية:

توقيع عقد بهذا الحجم مع دولة متهمة بارتكاب جرائم حرب في غزة قد يضعف مصداقية مصر كمدافع عن القضية الفلسطينية، ويثير غضب الرأي العام العربي والإسلامي، وخصوصاً في ظل مقاطعة شعبية واسعة للمنتجات والشركات الداعمة لكيان الاحتلال الاسرائيلي.

الدعم العربي لاقتصاد الكيان الصهيوني

ما يثير الاستغراب أن توقيع هذه الصفقة الضخمة يأتي في وقت يتصاعد فيه الغضب الشعبي العربي والعالمي من جرائم الاحتلال في غزة، فبينما تصف منظمات دولية ما يجري هناك بأنه جرائم إبادة جماعية، وتتحرك محاكم دولية للتحقيق في انتهاكات “إسرائيل”، نجد دولاً عربية توقع عقوداً بمليارات مع هذا الكيان.

هذا التناقض يعكس فجوة عميقة بين مواقف الشعوب وممارسات الأنظمة، ففي الوقت الذي تنتفض فيه مدن أوروبية مثل دبلن ومدريد وأوسلو لمقاطعة “إسرائيل”، وتدعو جامعات ونقابات غربية إلى حظر استثماراتها وسحب أموالها من الشركات المتعاملة مع الاحتلال، نجد بعض العواصم العربية تُمد يدها لمصافحة تل أبيب، لا عبر التطبيع السياسي فقط، بل عبر تطبيع اقتصادي ضخم يمكّنها من الاستمرار في جرائمها.

إن توقيع عقود كهذه لا يعني فقط رفداً مباشراً لخزائن الاحتلال بالأموال التي تُحوّل إلى دبابات وصواريخ، بل يعني أيضاً توفير غطاء سياسي واقتصادي لمخططاته التوسعية والإجرامية، وهنا تبرز مفارقة أخلاقية صارخة: كيف يمكن لدول عربية أن تبرر دعم اقتصاد كيان يقتل الفلسطينيين يومياً تحت القصف والحصار؟

الحصار اليمني للسفن: مقاربة مختلفة

على الجانب الآخر من المشهد، يقود اليمن منذ أشهر حملة بحرية لفرض حصار على السفن المرتبطة بالكيان الإسرائيلي في البحر الأحمر، في محاولة لـ”شل الاقتصاد الإسرائيلي” والضغط من أجل وقف الحرب على غزة. هذه الخطوة، التي جاءت بقرار سياسي – عسكري معلن، مثّلت نموذجاً مغايراً تماماً للنهج المصري.

فبينما ترى صنعاء أن دعم الشعب الفلسطيني يمر عبر قطع شرايين الاقتصاد الإسرائيلي وحرمانه من موارد الطاقة والتجارة، نجد القاهرة توقع عقداً بقيمة 35 مليار دولار يضمن لتل أبيب دخلاً ثابتاً لعقود مقبلة.

المفارقة هنا صارخة: دول عربية تمتلك أدوات ضغط اقتصادية هائلة لكنها تُسخّرها لمصلحة الاحتلال، فيما دولة محاصرة مثل اليمن تتخذ خطوات مباشرة لحرمان تل أبيب من الموارد.

هذا التناقض يطرح تساؤلاً محورياً: هل الأولوية في السياسات العربية هي حماية الشعوب وقضاياها، أم ضمان استمرار التحالفات السياسية والاقتصادية مع القوى الكبرى حتى لو كان الثمن دعم العدو التاريخي؟

مقارنة بين مكاسب كيان الاحتلال الاسرائيلي ومخاطر مصر

عند المقارنة بين الطرفين، يتضح أن الصفقة أشبه بعقد أحادي الجانب يخدم “إسرائيل” أكثر ما يخدم مصر:

“إسرائيل” تكسب:

35 مليار دولار أرباح مباشرة.

تعزيز نفوذها الإقليمي والدولي كلاعب طاقة.

استخدام الغاز كورقة ضغط سياسي.

استقطاب استثمارات أجنبية جديدة في قطاع الطاقة.

تمويل جزء من تكاليف حرب غزة وتعزيز قدراتها العسكرية.

فيما تخسر مصر:

اعتماد استراتيجي على مورد خارجي متقلب سياسياً وأمنياً.

التزام مالي طويل الأمد بشروط غير مرنة تضر اقتصادها.

تراجع الاستثمار في الحقول المحلية.

فقدان جزء من مصداقيتها الإقليمية في دعم القضية الفلسطينية.

تعرض صناعاتها الحيوية (الصلب والبتروكيماويات) لأزمات محتملة عند أي توقف للإمدادات.

إنها معادلة مختلة بامتياز، طرف يعزز مكانته وقوته على حساب طرف آخر يتورط أكثر فأكثر في الاعتماد والارتهان، ما يحول مصر إلى “رهينة” للطاقة الإسرائيلية، كما وصفت بعض الصحف الاقتصادية.

 ختام القول

صفقة الغاز بين مصر وكيان الاحتلال ليست مجرد اتفاق اقتصادي، بل هي تحوّل استراتيجي عميق في معادلات الطاقة والسياسة في المنطقة، “إسرائيل” تحصل على أكبر عقد في تاريخها في قطاع الغاز، ما يعزز اقتصادها ويمدها بمليارات الدولارات التي ستُستخدم في تمويل حروبها ومشاريعها العسكرية، في المقابل، تواجه مصر مخاطر اقتصادية وسياسية وأمنية قد تُهدد استقلالها الطاقي وتضعف دورها الإقليمي.

الأخطر من ذلك أن هذه الصفقة تأتي في لحظة تاريخية يُتهم فيها الكيان الإسرائيلي بارتكاب إبادة جماعية في غزة، بينما يتصاعد التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني، التوقيع مع الاحتلال في مثل هذا التوقيت لا يعني فقط خسارة اقتصادية لمصر، بل خسارة أخلاقية وسياسية أكبر بكثير.

ففي الوقت الذي تحاول فيه دول أوروبية مقاطعة كيان الاحتلال الاسرائيلي، ويقود اليمن حصاراً بحرياً على سفنه دعماً لغزة، نجد القاهرة تفتح أبوابها لاتفاقية تجعلها رهينة للغاز الإسرائيلي لعقود مقبلة، إنها صفقة لا تُثقل فقط كاهل الاقتصاد المصري، بل قد تُسجَّل في التاريخ كأحد أكثر مظاهر التناقض في السياسات العربية تجاه القضية الفلسطينية.

قد يعجبك ايضا